المسلمون والعالم
مأساة هيئة الأمم المتحدة
في ظل النظام العالمي الجديد
بقلم: أحمد بو سجادة
منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1945م، والهيئة خاضعة
لمواقف الدول العظمى عموماً وأمريكا والاتحاد السوفياتي خصوصاً، فإذا ما أراد
الإنسان معرفة موقف الأمم المتحدة من قضية ما، فما عليه إلا أن يعود إلى موقف
أمريكا وروسيا منها، ولكن بعد سقوط المعسكر الشرقي أضحت الهيئة تجسيداً
للسياسة الأمريكية. إن السيطرة اليهودية الأمريكية على هذه الهيئة قديمة ولا تحتاج
إلى برهان، وأما بعد منتصف الثمانينات فالقضية أجلى من الشمس في ضحاها،
فماذا ينتظر العالم من هيئة أكثر من 60% من أعضائها البارزين يهود [1] حتى
التمويل لهذه الهيئة كان بنسبة 75% من الدول الكبرى، وأمريكا وحدها كانت
تساهم بثلث الميزانية الإجمالية منذ إنشائها وحتى عام 1968م. إننا حينما نعرف
هذا لا نستغرب الحقائق الآتية: حتى عام 1992م أصدر مجلس الأمن 69 قراراً
ضد إسرائيل لم ينفذ منها قرار واحد، وخلال أزمة البوسنة والهرسك صدر 63
قراراً، ولم ينفذ منها قرار واحد، ومنذ أزمة كشمير 1947م وحتى الآن صدر
لصالح كشمير 13 قراراً ولم ير قرار واحد منها النور [2] ، وللموضوعية فإننا
نقول: إن دول العالم الثالث في السبعينات خاصة كَوّنَت شبه لوبي داخل الجمعية
العامة للأمم المتحدة، وأصدرت الجمعية بعض القرارات الهامة مثل:
1- إدانة كل أشكال الاستعمار.
2- إدانة التمييز العنصري.
3- اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز العنصري، وأصدرت في ذلك
قراراً سنة 1975 [3] .
وهذا ما تسبب في غضب أمريكا، فانسحبت من منظمة العدل الدولية 1977م
(مؤقتاً) ومن منظمة اليونيسكو 1974م، وهددت بالانسحاب من منظمة الأغذية
والزراعة (الفاو) ! !
لقد انسحبت أمريكا وبريطانيا من منظمة اليونيسكو؛ لأنهما لا تقبلان المساواة
بالدول الصغيرة، وقد قال المندوب الأمريكي آنذاك: (نحن لم نؤسس الأمم المتحدة
واليونيسكو من أجل هذه المساواة؛ وإذا كنتم مصرِّين عليها فسنحطمها) [4] ، هكذا
وبكل عنجهية.
لقد تكونت لدى أمريكا قناعة بأن نظام هذه الهيئة يجب أن يتغير، وهو الذي
حدث بالفعل مع بداية التسعينات، حتى غدت هيئة أمريكية، تجسد سياستها
الخارجية، وتسوِّغ هيمنتها، وذلك في ظل النظام العالمي الجديد الذي ينبغي أن
يطال كل المؤسسات والهيئات العالمية والإقليمية، فبعد إعلان (بوش) عن النظام
العالمي الجديد، بدأ أثر ذلك يظهر على هيئة الأمم المتحدة؛ إذ استطاعت أمريكا
أن تجمع 111 صوتاً لإلغاء القرار الذي أصدرته الجمعية العامة سنة 1975م الذي
اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وذلك في الجلسة العامة للجمعية
بتاريخ 16/12/1991م.
والأغرب في هذه السابقة هو تصويت معظم الدول الإسلامية لصالح إلغاء
القرار! ! ! لقد خيل لي وأنا أتابع دور الأمم المتحدة في أزمة الخليج الثانية؛ أن
الأمم المتحدة مجرد خلية تابعة للبنتاجون الأمريكي؛ إذ في مدة 4 أشهر أصدر
مجلس الأمن اثني عشر قراراً ضد العراق؛ والغريب في الأمر أن قوات الحلفاء
تجاوزت هذه القرارات القاضية بانسحاب العراق؛ إلى القرارات التي أعدتها
المخابرات الأمريكية (تدمير القوة العسكرية العراقية، تدمير لأسلحة التدمير الشامل، إخضاع العراق للتفتيش والمراقبة) وهذا ما عبر عنه المعلق الإسرائيلي الشهير
(زئيف سيف) في 21/1/1991م: (إن قيام الولايات المتحدة بالقضاء على
التسهيلات النووية التي يملكها العراق يعد تحركاً له مغزى كبير، فهو يعني أن
الرئيس (بوش) لم يعد ملزماً بالأهداف التي أعلن عنها في البداية وهي إخراج
العراق من الكويت، وإعادة النظام الشرعي لهذا البلد، بل أصبح له هدف إضافي
هو تدمير (البنية التحتية التي تنتج أسلحة مدمرة من كيمياوية ونووية
وبيولوجية) [5] ، وهذا ما أكده قائد قوات الحلفاء الأمريكي (شوارزكوف) الذي قال عقب الحرب: لقد خضنا هذه الحرب من أجل إسرائيل! !
إذا كانت الأمم المتحدة لم تدرج هذه الأهداف ضمن قراراتها، فلماذا لم تشجب
وتستنكر على الأقل ما فعله الحلفاء عموماً وأمريكا خصوصاً؟ !
وحسب ميثاق الأمم المتحدة فقد قضى القرار 83 بحصر القيادة العسكرية في
مجلس الأمن دون سواه، إلا أن ما حدث في حرب الخليج هو التخلي عن القيادة
لأمريكا؛ إذ تولى القيادة (شوارزكوف) الذي لم يبلِّغ مجلس الأمن بشيء عن
مجريات الأحداث ولم يرسل إليه تقريراً واحداً [6] ، وكررت الأمم المتحدة بذلك
خطأ عام 1950م [7] نفسه.
وفي مؤتمر مدريد بتاريخ 30/10/1991م لتسوية القضية الفلسطينية، أُسقط
دور الأمم المتحدة، حيث دعي إلى المؤتمر ممثل عن الأمين العام كمراقب صامت
فقط، رغم أن المؤتمر من اقتراح الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1983م؛
مع العلم أن قضية القدس والدولة الفلسطينية كانا مُغَيّبين عن المفاوضات! !
إن العجيب حقاً أنه بدل أن تعمل أمريكا على تنفيذ القرارات 242، 338
425 القاضية بالانسحاب من جميع الأراضي المحتلة سنة 1967م فقد أرسلت
عشية المؤتمر رسالة إلى إسرائيل جاء فيها: (إن التحديات التي تواجه إسرائيل
تتعلق بأمريكا ذاتها، إننا نعدكم بأن التزامنا بأمن إسرائيل وضرورة التعاون الوثيق
بين بلدينا من أجل تحقيق هذه الحاجات من الأمور المستمرة، وكل من يحاول دق
إسفين بيننا في محاولة المس بهذا الالتزام لا يستطيع أن يفهم العلاقات المتينة
القائمة بين بلدينا وطبيعة أمن إسرائيل) [8] .
ورغم أن الحلفاء في حرب الخليج انتقلوا إلى هناك تحت مظلة الأمم المتحدة، إلا أنهم تخلوا عن تطبيق نص هام من القانون الدولي، والقاضي بعقوبة المعتدي
حتى ولو كان رئيس دولة، وهذا ما لم يحدث وأبقوا (صدام حسين) على رأس حكم
العراق لتحقيق غايات سياسية إيديولوجية، كما سنعرف فيما بعد.
لقد اتضحت الهيمنة الأمريكية على هيئة الأمم المتحدة من خلال مواقفها التي
أيدت فيها أمريكا: في حرب الخليج، وفي العدوان على ليبيا منذ 1986م،
والتدخل في الصومال، وفي هايتي، وعدم الاعتراف باستقلال الشيشان عن
الاتحاد السوفياتي، وفي البوسنة والهرسك، والمضايقات المضروبة على إيران
والسودان واعتبارهما دولتين إرهابيتين، ومن خلال تدعيم الحكومات الديكتاتورية،
كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع الأمم المتحدة، بل تشارك في كثير من الأحيان
لإضفاء الشرعية الدولية على السلوكات الأمريكية، ولهذا قال (شفيق مصري) :
(إن النظام العالمي الجديد لا يتلاءم في معظم مفاصله مع الشرعية الدولية؛ إذ لم
ينطلق أصلاً من قواعدها ولم يلتزم بحدودها، وإنما يحاول أن يكيف بعض آلياتها
لكي تتلاءم مع قواعده وحدوده) [9] وقال أيضاً: (إذا ما علمنا أن هيئة الأمم
المتحدة قد دعيت كمراقب صامت لمؤتمر مدريد، وأنها لم تحضر مطلقاً (مؤتمر
موسكو (أدركنا أن الحديث عن الشرعية الدولية وآلياتها إنما هو خطاب إنشائي لا
أكثر) [10] .
إن منظمة الأمم المتحدة تحت تأثير الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت منبراً
لتسويغ السياسة الأمريكية بل راحت توسع مجالها لتكون في خدمة المصالح
الأمريكية [11] ، ويتجلى ذلك من خلال بعض السلوكات وأبرزها [12] :
أ - إعادة هيكلة دور الأمم المتحدة بالشكل الذي أدى إلى تعظيم مجلس الأمن
على حساب الجمعية العامة وبقية الأجهزة الأخرى؛ ويبدو المكر الأمريكي واضحاً
هنا؛ إذ بعد غياب الفيتو السوفياتي أعطي لمجلس الأمن هذه الأهمية على حساب
الأجهزة الأخرى.
ب - إصدار حكم غريب: في عام 1992م أصدرت المحكمة العليا الأمريكية
حكماً، يقضي بالسماح لأمريكا باختطاف الأشخاص المشتبه فيهم من جميع
الجنسيات، لمحاكمتهم في أمريكا، ورغم خطورة هذا القرار إلا أن الأمم المتحدة
تقف متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها، وهذا ما قد يتسبب في أن تحذو بلدان أخرى
حذو أمريكا ليتحول النظام العالمي الجديد الذي تكسبه الأمم المتحدة الشرعية فوضى
عالمية تطال كل الدول، وليس باناما، وليبيا. ولعل بريطانيا وفرنسا بدأتا بتبني
هذا القرار، وهما يطالبان بتسليم المواطنين الليبيين المتهمين في حادث تفجير
طائرة بانام الأمريكية في اسكتلندا! !
ج - تطبيق الشرعية بصورة انتقائية: ففي الوقت الذي نشطت فيه قرارات
الأمم المتحدة في حرب الخليج ضد العراق وليبيا والسودان فترت في قضية البوسنة
والهرسك والشيشان وفلسطين وقبرص، كما سنوضح بعد قليل.
إن حال الولايات المتحدة اليوم هو في قمة الغطرسة التي صوّرها الفرنسي
(جان لاكتور) إذ قال: (إن الأمريكيين يرون أن لديهم الحق المطلق في الهجوم على
أي مكان وفي أي زمان يختارونه وكأن العالم بأجمعه قد أصبح بالنسبة إليهم مجرد
غنيمة للولايات المتحدة تحتم على هذه الأخيرة أن تحكمها وتنظمها طبقاً للمحكمة
العليا الأمريكية، وأن تشرف عليها القوى الأمريكية) [13] .
الحقيقة أن أمريكا تستخدم قوتها وليس وزنها السياسي والحضاري في
المشكلات العالمية؛ وهذا هو المعهود عن السياسة الأمريكية منذ القدم، إلا أن
الجديد في السياسة الأمريكية هو تقنين العنف وصبغه بالشرعية الدولية عن طريق
الأمم المتحدة [14] .
فبعد الانسحاب السوفياتي استطاعت أمريكا السيطرة على أصوات فرنسا
وبريطانيا داخل الأمم المتحدة. أما الصين التي بقيت وحيدة بين الأربعة الكبار فهي
تتعرض للترغيب الأورو أمريكي عن طريق المساعدات الاقتصادية وتزويدها
بالتكنولوجيا المتقدمة؛ وذلك في الوقت الذي تتعرض فيه للترهيب عن طريق
إدانتها بالنسبة للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ ولذلك رأينا الأثر الفاتر في موقف
الصين من أزمة الخليج، كما سيطرت أمريكا على أجهزة الأمم المتحدة ولجانها،
وهذا ما يفسر لنا استطاعة أمريكا حمل هيئة الأمم المتحدة على إلغاء القرار رقم
3379 (30) الصادر سنة 1975م والقاضي باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال
العنصرية وذلك في ديسمبر 1991م.
إن ما يكاد يُعتقَلُ له اللسان، في ظل الهيمنة الأمريكية، هو ما تقدم به الأمين
العام بطرس غالي يوم 9 فبراير 1992م في إطار إدخال تعديلات في نظام الأمم
المتحدة، ويتمثل في الشروع فيما نادى به لتكوين (قوة انتشار سريع تابعة للأمم
المتحدة تضم جنوداً مسلحين بأسلحة ثقيلة تحت غطاء (الدبلوماسية الوقائية) لوقف
الأزمات قبل وقوعها) وهذا دعوة للتجسس على الدول المغلوبة من العالم الثالث،
ودعوة صريحة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ لأن قمع الأزمات قبل وقوعها
يتطلب حضوراً مستمراً داخل كل دولة معينة، لتتم مراقبة حركة الأحزاب
والجمعيات والمنظمات؛ وهذا ما يحوِّل دولاً ذات سيادة إلى محميات (أممية) بل
أمريكية في ظل النظام العالمي الجديد، ومثل هذا الإجراء موجه ضد دول العالم
الثالث ليزداد قهرها وفقرها.
ولقد بدأت المعالم؛ فرغم المؤتمرات والندوات والملتقيات في إطار تشكيل
النظام العالمي الجديد فقد كان الجنوب مغيّباً دوماً ولم يخصص له حتى 1% من
الإشغال.
وفي وقت الحرب الباردة كانت معظم الدول، وخاصة دول العالم الثالث،
تناور بين الانحياز مرة لأمريكا ومرة للاتحاد السوفياتي، وحتى دول عدم الانحياز
فقد كانت منحازة في الواقع لإحدى القوتين، وكان الاتحاد السوفياتي يستعمل (حق
النقض) (Veto) .
أما اليوم فقد أضحى الوضع بالغ الخطورة في إطار الهيمنة الأحادية على
الأمم المتحدة التي غدت مؤسسة لتسويغ شرعية نهم التنين الأمريكي الذي لا يشبع؛
وهذا من أخطر سمات النظام العالمي الجديد!