دراسات في السيرة النبوية
وقفات مع اليهود
من خلال السيرة النبوية
عبد الله بن محمد الجفير
ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية دراسة جادة، وتحقيق مروياتها، وتنقيتها، والتمعن فيها، وربطها بالواقع، واستلهام الدروس والعبر منها؛ فليست سيرة
نبينا وسنته مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت، تقرأ للتسلية، أو التبرك أو
للمعرفة! بل الأمر أكبر من ذلك؛ فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نوراً نستضيء به،
ودرباً نسير عليه ونطبقه في واقعنا؛ فالقرآن والسنة هما منهج حياة كاملة مثالية
حتى قيام الساعة. وهذه دعوة أوجهها لعلمائنا وطلبة العلم والدعاة: للعمل على
تبين فقه القرآن والسنة كما أراد الله عز وجل فحياة نبينا محمد من بعثته حتى وفاته
في جميع شؤونه تعتبر الحياة المثالية والقدوة الحسنة للمسلمين جميعاً من رجال
ونساء، وحكام ومحكومين وعامة، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نقتدي به فقال
تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ، وسنته وطريقه هي الصراط المستقيم والسبيل
الوحيد الذي يجب أن يتبع لتحقيق العبودية لله وللفوز بجنته والنجاة من عذابه، وأن
ما عداه من طرق وسبل هي ضلال وافتراق عن الحق كما قال جلّ وعلا: [وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] ، وهذا الموضوع لإلقاء الضوء باختصار على كيد
اليهود لهذا الدين منذ أول أمره، ولبيان نقضهم للعهود التي أبرموها مع نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكيف عاملهم عليه الصلاة والسلام. ولا أريد أن أتطرق
لتاريخهم الأسود وخستهم وكفرهم وفجورهم؛ فهذا موضوع طويل؛ ولكن أردت أن
أؤكد كذب ما يصرح به اليهود وأذنابهم، وما تبثه وسائل الإعلام هذه الأيام حول
دعاوى السلام معهم، كما أؤكد أن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، وأن يهود الأمس هم
يهود اليوم، وهم يهود الغد، وكما غدروا بنبينا؛ فإن ما يحدث اليوم هو لعبة من
ألاعيبهم؛ كيف لا وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، ولن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا
ملتهم، كما أؤكد أن الحل معهم إنما هو إعداد العدة لهم وقتالهم وجهادهم وتطهير
الأرض منهم؛ وهذا ما أخبر به بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول: يا مسلم
يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله؛ إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) [1] ، ونحن موقنون بذلك وهذا ما نؤمن به ونعتقده.
معاهدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود: بعد أن هاجر الرسول -
صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وبعد أن أقام قواعد المجتمع الإسلامي الجديد،
ووضع أسس الوحدة العقائدية والسياسة والنظامية بين المسلمين، رأى -صلى الله
عليه وسلم- أن يقوم بتنظيم العلاقة بمن يسكنون المدينة ومن حولها من غير
المسلمين، وكان همه -صلى الله عليه وسلم- هو توفير الأمن والسلام لهذه الجماعة
المسلمة الناشئة والدولة الفتية. وأقرب من يسكن المدينة ويجاورها هم اليهود،
فاتصل -صلى الله عليه وسلم- بواسطة عبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو أحد
أحبار اليهود السابقين والذي أسلم وحسن إسلامه، فدعا اليهود إلى الدخول بهذا
الدين والإقرار أنه النبي المنتظر الذي يجدونه مكتوباً في كتبهم؛ ولكنهم أبوا
ورفضوا وعاندوا حسداً من عند أنفسهم؛ فعند ذلك عقد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- معهم معاهدة وكان أهم بنودها:
1- أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
2- أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- أن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
5- أن النصر للمظلوم.
6- أن اليهود لا يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وهنا وقفة مع هذه المعاهدة وهي إظهار العزة للمسلمين، وأن المرجع عند
الاشتجار إلى الله ورسوله؛ وأن ليس في بنودها أي ضرر يترتب على اليهود
بعكس معاهدة الاستسلام المسماة بمعاهدة السلام التي وقِّعت بين اليهود ومنظمة
التحرير الفلسطينية والتي جُلّ بنودها ضرر وظلم وذلة للمسلمين، وعز ونصر
لليهود؛ فالمرجع في تفسيرها إليهم، وهم الذين يقررون ما يريدون؛ فلا حول ولا
قوة إلا بالله.
اليهود يهددون والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحذرهم: بعد هذه المعاهدة
التي عقدها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود حرص كل الحرص على
تنفيذها، ولكن اليهود الذين يحفل تاريخهم بالغدر والخيانة والمؤامرة والتحريش
وإثارة الفتن، وما أن انقضت السنة الأولى من الهجرة النبوية ولاح في الأفق
ظهور الإسلام وعزة أهله حتى نجم النفاق وأخذ المنافقون مع اليهود والمشركين
بالتحزب والتكتل ضد الإسلام والمسلمين. وظهر ذلك جلياً بعد معركة بدر التي
أعز الله بها دينه ونصر نبيه؛ وعند ذلك تفاقم حقد اليهود، واشتد غيظهم وبغيهم،
فجمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحذرهم مغبة البغي والعدوان. فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال لهم:
يامعشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. فقالوا: يا محمد! لا
يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك لو
قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا) .
فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: [قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونََ وَتُحْشَرُونَ إلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَاًيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ] [آل عمران: 12-13] [2]
فكان معنى إجابة اليهود هو الإعلان السافر للحرب، ولكن النبي -صلى الله
عليه وسلم- كظم غيظه وصبر، وصبر معه المؤمنون، وأخذون ينتظرون ما
تتمخض عنه الليالي.
اليهود ينقضون العهد: وما لبث اليهود أن نقضوا ما عاهدوا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدأت قبائلهم بالغدر قبيلةً قبيلة حتى أجلاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وطهر مدينته منهم. وأول من نقض العهد يهود بني قينقاع وذلك في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر، ثم بني النضير في السنة الرابعة للهجرة بعد غزوة أحد، ثم بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة في غزوة الخندق (الأحزاب) .
وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: يهود بني قينقاع: كانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة،
وهم أشجع يهود المدينة وكانوا يعملون بصياغة الذهب وصنع الأواني والحدادة،
وتمثل نقضهم للعهد بأن امرأة مسلمة جاءت بجلب لها، فباعته بالسوق، ومالت إلى
صائغ يهودي لتشتري منه مصاغاً، فجلست وحوله يهود، فعابوا عليها ستر وجهها، وطالبوها بكشفه فأبت ذلك حفاظاً على عفتها وصيانة لعرضها وشرفها إلا أن
أحدهم غافلها وربط طرف درعها من أسفله بطرف خمارها؛ فلما قامت انكشفت
عورتها: فصاحت واكشفتاه! فسمعها رجل مسلم فهب لنجدتها، فرأى ما بها،
فوثب على اليهودي فقتله، فقام يهود فاشتدوا على المسلم فقتلوه، وهبّ رجال من
المسلمين للحادث فاقتتلوا مع اليهود، فعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك
وأنهم غدروا، فسار إليهم بجنود الله، ولما رآهم اليهود تحصنوا بحصونهم، وكان
عدد المقاتلين من اليهود سبعمائة رجل، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أشد الحصار وكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر، ودام
الحصار خمسة عشر يوماً، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول
الله؛ وكان عليه الصلاة والسلام يريد أن يقتلهم، ولكن المنافق عبد الله بن أبي بن
سلول حليفهم شفع فيهم وتوسط في خلاصهم، وألح في ذلك، فوهبهم له -صلى الله
عليه وسلم-، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا إلى نواحي الشام؛ فما
لبثوا حتى هلك أكثرهم، فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموالهم بين
الصحابة، وأخذ الخمس لينفقه فيما أمر الله به، وانتهى بذلك أمر يهود بني قينقاع
نتيجة خيانتهم.
وهنا وقفتان:
1- موقف اليهود من المرأة المسلمة من الدلائل على خستهم وسوء أخلاقهم،
وهذا طبعهم؛ فهم اليوم متغلغلون في وسائل الإعلام المختلفة من سينما ومسرح،
وتلفاز وإذاعة وصحافة؛ وغالب ما تحويه هذه الوسائل هي الدعوة إلى الفحشاء
والإثارة الجنسية، والانحلال، ونبذ الفضيلة، ونشر الدعارة [3] .
2- وحبهم للمادة بل وعبادتهم لها وتسخيرها لمصالحهم وأغراضهم وشهواتهم؛ ففي وقتنا الحاضر أصبحوا قوة كبيرة مسيطرة على اقتصاديات كثير من الدول
وبنوكها وشركاتها (فقد عبر الحاخام اليهودي (راشورون) عن ذلك بقوله: (إذا كان
الذهب هو قوتنا الأولى للسيطرة على العالم فإن الصحافة ينبغي أن تكون قوتنا
الثانية [] 4 [.
ثانياً: يهود بني النضير: وهم حلفاء الخزرج قبل الإسلام، وكانت ديارهم
بضواحي المدينة وكان نقضهم العهد بأنهم تآمروا على قتل النبي؛ وذلك عندما ذهب
إليهم -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية
الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأً، وطلب منهم النبي -صلى الله
عليه وسلم- ذلك بناءاً على المعاهدة التي بينه وبينهم، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم!
اجلس هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من
بيوتهم ... وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان سوءاً، فتآمروا
على قتله -صلى الله عليه وسلم-، بأن يصعد أحدهم الجدار فيلقي عليه صخرة
كبيرة فتقتله، فنزل جبريل عليه السلام من عند رب العالمين على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يخبره الخبر، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعاً
وتوجه إلى المدينة، ثم لحقه أصحابه فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ
لحربهم وكان ذلك في السنة الرابعة بعد غزوة أحد، وأمر اليهود بالخروج،
وتحصنوا بحصونهم، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرابة خمسة
عشر يوماً، فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم عليه
الصلاة والسلام بالخروج من المدينة وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، فبدؤوا
بحمل أمتعتهم، وبدؤوا يخربون بيوتهم بأيديهم، فخرجوا من المدينة إلى خيبر
ذليلين صاغرين نتيجة غدرهم وخيانتهم وفيهم نزلت سورة الحشر فقال تعالى:
] هُوَ الَذِي أَخْرَجَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن
يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ
* وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [
] الحشر: 2، 3 [.
وهنا وقفتان:
1- محاولتهم قتل النبي؛ فهم لا يتورعون عن فعل ذلك؛ لأنهم قتلة الأنبياء
من قبل، والقتل والتصفية الجسدية عندهم شيء طبيعي لمن عارضهم؛ وهذا حالهم
في هذا العصر (فقد نشر الكاتب اليهودي (إيرل برغر) عام 1965م كتاباً بعنوان:
(العهد والسيف) قال فيه: (إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن
العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معنا؛ ولكن هذا التعاون لن يتحقق إلا
بعد القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم
العربي، وفي مقدمة هذه العناصر رجال الدين المتعصبين!) ] 5 [وما المجازر
التي يرتكبها اليهود في فلسطين إلا شاهد على ذلك.
2- وقوف المنافقين مع اليهود ومناصرتهم: وهذا ديدن المنافقين في كل
زمان، والذين يمثلهم اليوم العلمانيون والمندسون وغيرهم، الذين يعملون لهدم
الإسلام من الداخل وإقصاء أحكام الشريعة عن الواقع، وهم الذين يتولون كثيراً من
أمور المسلمين مع الأسف، ويديرون جل وسائل الإعلام على ما يريدون.
ثالثاً: يهود بني قريظة: وكانوا حلفاء الأوس، وكانت ديارهم بضواحي
المدينة وهم من أشد الناس عداوة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأغلظهم كفراً
به، وكان نقضهم عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق (الأحزاب)
في شهر ذي القعدة في السنة الخامسة للهجرة، وكان الأحزاب من المشركين
يحاصرون المدينة، والمسلمون يشعرون بالخوف؛ فاستغل يهود بني قريظة هذا
الوضع ليهزوا المسلمين من الداخل، فسبّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
ونقضوا عهده؛ حيث إنهم أعانوا المشركين المحاصرين للمدينة بالطعام والرجال،
وكادت أن تتم لهم خطة وضع المسلمين بين فكي كماشة لولا لطف الله تعالى فبلغ
ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (الله أكبر! أبشروا يا معشر
المسلمين بفتح الله ونصره) ثم التجأ إلى الله بالدعاء، فسلط الله على الأحزاب
المحاصرين للمدينة ريحاً شديدة قلعت خيامهم، وأطفأت نارهم، وكفأت قدورهم،
فارتحلوا صاغرين؛ وصدق الله إذ يقول:] وَرَدَّ اللَّهُ الَذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا
خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيزاً [] الأحزاب: 25 [.
ثم وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون سلاحهم وعادوا إلى
المدينة، وفي الطريق نزل جبريل عليه السلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (أوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال ... جبريل عليه السلام: فإن الملائكة لم تضع أسلحتها، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة؛ فإني عامد إليهم
فمزلزل بهم) ] 6 [.
فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذِّناً فأذّن في الناس: (من كان
سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة) ] 7 [.
ثم تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً؛ وكان عدد المسلمين ثلاثة
آلاف فحاصروا بني قريظة مدة خمس وعشرين ليلة، وطلب منهم النبي -صلى الله
عليه وسلم- النزول فأبوا حتى جهدهم الحصار، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ
رضي الله عنه وأمر -صلى الله عليه وسلم- باعتقال الرجال وأرسل في طلب سعد
ابن معاذ رضي الله عنه ليحكم بهم وكان حليفاً لهم، وكان مصاباً، فأتي به محمولاً، ورضي بنو قريظة بحكمه لاعتقادهم أنه سيخفف عنهم الحكم، وأثناء الطريق أخذ
الأوس يستعطفون سعداً ويلحون عليه بأن يخفف الحكم على بني قريظة فقال رضي
الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فلما وصل رضي الله عنه
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قوموا إلى سيدكم) فقاموا إليه، فأمره- صلى الله عليه وسلم- أن يحكم فيهم فقال رضي الله عنه: أحكمُ فيهم: أن تُقتل
الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري. فقال رسول الله: (لقد حكمت فيهم
بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) ] 8 [.
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة ناقضي العهود والمواثيق، وقسم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس.
أما سعد بن معاذ رضي الله عنه فقد نزف جرحه ومات رضي الله عنه فقال: (اهتز
عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) ] 9 [.
وفيهم نزل قوله تعالى:] وَأَنزَلَ الَذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن
صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَاًسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [
] الأحزاب: 26، 27 [.
وهنا وقفة: عندما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنقض يهود بني
قريظة العهدَ قال: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره) ثم التجأ
إلى الله بالدعاء؛ فيا سبحان الله: الأحزاب يحاصرون المدينة وهؤلاء اليهود
والمنافقون يهددون من الداخل، وهذا يؤذن بخطر عظيم على المسلمين؛ ومع ذلك
وفي ظل هذه الظروف الحرجة يستبشر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويعد
الصحابة بقرب الفرج والنصر وقد عمل ما يستطيع، وليس أمامه -صلى الله عليه
وسلم- إلا الدعاء والالتجاء إلى الله؛ ذلك السلاح الذي لا يخطئ كما قيل: (سهام
الليل لا تخطئ ولكن لها أجل، وللأجل انقضاء) فنصره الله عز وجل بجند من
جنده، فسلط على الأحزاب الريح الشديدة التي طردتهم، وانقلبوا صاغرين
مهزومين، وتفرغ المسلمون لهؤلاء الخونة من بني قريظة يتقدمهم جبريل عليه
السلام ليزلزلهم وهذا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوة يقين وإيمان عظيم
بالله وبنصره. ومثال آخر كما في قصة الهجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم-
مطارد لا يملك شيئاً؛ ومع ذلك يَعِدُ سراقة بن مالك رضي الله عنه سواري كسرى!
ونحن اليوم نجد أعداء الله قد تكالبوا علينا، واجتمعت كلمتهم على المسلمين،
ونجد من الدعاة والمصلحين من هم مكبلة أيديهم ومحاصرة أفكارهم، والمآسي
والفتن تزداد على المسلمين يوماً بعد يوم حتى جاء اليوم الذي أُعلن فيه صراحة
انتهاء العداوة مع اليهود وقمع كل من يعارض ذلك؛ ولذا فإن أعظم ما يملكه الدعاة
والمصلحون هو الدعاء والتضرع إلى الله والالتجاء إليه، بأن يصلح أحوال
المسلمين، ويبطل كيد أعدائهم مع فعل الأسباب المتيسرة التي نسأل الله أن يبارك
فيها.
وأقول رغم كل ذلك: أبشروا أيها المسلمون؛ فإني والله متفائل؛ فاشتداد
ظلمة الليل تؤذِنُ بطلوع الفجر وقرب الفرج وكما قال تعالى:] حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ
المُجْرِمِينَ [] يوسف: 110 [، وليكن ذلك دافعاً لنا لمضاعفة الجهود والأعمال في
الدعوة إلى الله على بصيرة، وأن لا نجعل اليأس والقنوط يدب إلى قلوبنا ويقعدنا
نتيجة هذه الأوضاع المؤلمة. والله ولي التوفيق.