مرتكزات للفهم والعمل
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
في غمرة انشغال الداعية في أعماله الدعوية، يحصل لديه أحياناً قصور في
تزكية نفسه، ومحاسبتها، وربما تسلل إلى قلبه آفات قادحة في عمله وإخلاصه،
مفسدة لقلبه، قد يشعر بها وينشغل عن علاجها، وقد لا يشعر بها أصلاً.
ومن الأمراض السريعة الفتّاكة بالنية: العُجْبُ، وما ينتج عنه من الغرور
والكبر.
مفهوم العُجب: العُجب هو: الإحساس بالتميّز، والافتخار بالنفس، والفرح
بأحوالها، وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال، محمودة أو مذمومة [1] وعرفه ابن
المبارك بعبارة موجزة فقال: (أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك) [2] .
وإذا تنقص المعجب أعمال الآخرين، أو أعجب بما ليس فيه، واهماً امتلاكه، فهو الغرور؛ فإذا طال أشخاص الآخرين فهو الكبر.
ويدخل العجب في كل شيء يزهو به الإنسان، وأخطره العجب بالعمل. وهو
المقصود هنا.
مداخل العُجب على الدعاة: ومما يُدخل العُجب على الداعية نظره لما منحه
الله إياه من بلاغة أو فصاحة وبيان أو سعة في العلم وقوة في الرأي، فإذا انضاف
إلى ذلك حديث الناس عن أعماله، وتعظيمهم له، وإقبالهم عليه ... لم يسلم حينئذٍ
إلا القليل [3] .
التحذير من العجب: أمر الله عز وجل نبيه بالإنذار والدعوة، وتعظيم ربه
عز وجل وفعل الخير، واجتناب الشر، وهجر الأوثان، ثم قال له بعد ذلك:
[وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ] [المدثر: 6] ، قال الحسن البصري: (لا تمنن بعملك على ربك
تستكثره) ، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
وقد نهى الله عن تزكية النفس، بمعنى اعتقاد خيريتها، والتمدّح بها فقال:
[فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ] [النجم: 32] ، كما نهى عن المن بالصدقة فقال: [لا تُبْطِلُوا
صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى] [البقرة: 264] ، والمن يحصل نتيجة استعظام الصدقة،
واستعظام العمل هو العُجب. والإعجاب بالنفس شر، وأي شر، قال ابن المبارك:
(لا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب) [4] .
ولعل المرء يدافع الرياء ويحس به، بيد أنه لا يشعر بما في داخله من العجب
المحبط، ومن أجل ذلك كان مهلكاً بوصف النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (ثلاث مهلكات) ثم ذكرهن: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) [5] .
وإذا كانت الذنوب مهلكة، فإنها قد تكون رحمة بصاحبها حين تخلصه من
العجب الذي هو الهلاك حقاً. قال: (لو لم تكونوا تذنبون، خشيت عليكم أكثر من
ذلك: العجب) [6] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (الهلاك في شيئين: العجب والقنوط) ..
(وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب،
والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى) [7] .
ومما ورد في جزاء المعجبين قوله: (بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه،
قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) وفي
رواية: (قد أعجبته جمته وبرداه) [8] ، فكيف بمن أُعجِبَ بعلمه أو عمله؟ !
مظاهر العجب: الله عز وجل أعلم بالإنسان من نفسه، والإنسان أعلم الناس
بنفسه فهو أقدرهم على اكتشاف مظاهر العجب في نفسه، كما أن بعضها لا يخفى
على الناس، ومنها:
1- المنّ على الله، ومطالبته بما آتى الأولياء، وانتظار الكرامة وإجابة
الدعوة [9] .
2- الإكثار من الثناء على النفس ومدحها، لحاجة ولغير حاجة، تصريحاً أو
تلميحاً، وقد يكون على هيئة ذم للنفس أو للآخرين، يراد به مدح النفس.
3- الحرص على تصيّد العيوب وإشاعتها، وذم الآخرين أشخاصاً أو هيئات
والفرح بذمهم وعيبهم.
4- النفور من النصيحة، وكراهيتها، وبعض الناصحين.
5- الاعتداد بالرأي، وازدراء رأي الغير.
6- صعوبة المطاوعة، والحرص على التخلص من التبعات والمسئوليات،
وتحقيق القناعات الشخصية.
7- الترفع عن الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة العلمية والدعوية،
وخصوصاً العامة.
مخاطر العجب وآثاره: للعجب أثره على الدعوة والدعاة [10] ، ولا شك أن
آثاره على الدعاة تنعكس على الدعوة أيضاً بالسلب، فمن آثاره على الدعاة:
1- أنه طريق إلى الغرور والكبر، وآثار الكبر المهلكة لا تخفى.
2- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه
وجاهد نفسه، قال الله تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
[العنكبوت: 69] ، ومن صور هذا الحرمان: نسيان الذنوب واستصغارها، والعمى عن التقصير في الطاعات، والاستبداد بالرأي، والتعصب للباطل، وجحود الحق، وهذه الآثار في الجملة منها ما يقع سبباً للعجب، ثم يزداد ويستمر، ليبقى أثراً ثابتاً له.
3- بطلان العمل، قال عز وجل: [لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى] .
4- العجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.
5- الانهيار في أوقات المحن والشدائد؛ لأن المعجب يهمل نفسه من التزكية، فتخونه حينما يكون أحوج إليها، ويفقد عون الله ومعيته؛ لأنه ما عرف الله حال
الرخاء.
وتأمل ما أصاب الصحابة رضوان الله عليهم مع إيمانهم وصلاحهم، حين
أعجب نفر منهم بكثرة العدد: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] [التوبة: 25] واليهود عليهم
لعائن الله: [ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ] [الحشر: 2] .
6- نفور الناس وكراهيتهم؛ لأن الله يبغض المعجب.
7- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض.
ومن آثاره على الدعوة: توقفها أو ضعفها وبطؤها بسبب قلة الأنصار؛ نظراً
لنفور الناس، وكراهيتهم للمعجبين، وسهولة اختراق صفوف الدعاة وضربها؛
نظراً لانهيار الدعاة المعجبين حال الشدائد.
أسباب العُجب: ذكر العلماء للعجب سببين رئيسين:
أولهما: جهل المعجب بحق ربه وقدره، وقلة علمه بأسمائه وصفاته،
وضعف تعبده له تعالى بها.
ثانيهما: الغفلة عن حقيقة النفس، والجهل بطبيعتها وعيوبها، وإهمال
محاسبتها.
ويدخل تحتهما: تجاهل النعم، ونسيان الذنوب، واستكثار الطاعات.
ومن الأسباب المهمة أيضاً:
أ - الجهل بما عند الآخرين من علم أو عمل قد يفوق ما عنده كثيراً.
ب - النظر إلى من هو دونه في أمور الدين، دون النظر إلى من فاقه وزاد
عليه.
ج - النشأة في كنف مربٍ به عُجْب، كثير الثناء على نفسه.
د - صحبة بعض أهل العجب، لا سيما إذا كانوا من المبرزين النابهين.
هـ- الاعتداد بالنسب، أو المكانة الاجتماعية، أو كثرة المال
و الإطراء والمدح في الوجه، والإفراط في الاحترام.
ز - المبالغة في الانقياد والطاعة، ولو في المعصية.
ح - التصدر للناس قبل النضج العلمي والتربوي، تساهلاً، أو تطلعاً لسماع الجماهير، أو مراعاة لظروف الدعوة، لخلو الساحة من المؤهلين تأهيلاً كافياً.
ط- تحقيق بعض الدعوات أو الأشخاص نجاحات في الدعوة؛ كالتفاف
الجماهير، وسماعهم، وتأثرهم.
علاج العجب: أول ما ينبغي أن يتوجه إليه العلاج: معالجة أسباب العجب،
ومجاهدة النفس على اجتنابها ويمكن تفصيل خطوات العلاج فيما يلي:
أولاً: الحرص على العلم الشرعي، الذي يهذب النفوس، ويصلح القلوب،
ويزيد الإيمان؛ فإن الإيمان الكامل والعجب لا يجتمعان. وتحصيل العلم النافع دليل
على أن الله أراد بعبده خيراً. ومن الجوانب التي ينبغي العلم بها، والعمل
بمقتضاها:
1- أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحقه في التعظيم المورِث للخوف، الذي
يطرد العجب قال تعالى: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] [الزمر: 67] .
2- تذكّر فضل الله عز وجل على عبده، ونعمه المتوالية، والنظر في حال
من سُلبها؛ فإن الله خلقه من العدم، وجعله إنساناً سوياً، وأمده بالنعم والأرزاق،
وجعله من أبوين مسلمين، ووفقه للطاعات، وهيأ له أسباب العلم والدعوة، وهو
الذي يثيبه عليها، ويدخله الجنة برحمته. وهو تعالى لو شاء لجعله عدماً أو جماداً، أو بهيمة، ولو شاء لخلقه أصم أبكم أعمى، ولو أراد لجعله من أبوين يهوديين أو
نصرانيين، وهو سبحانه في كل نعمه تلك غني عن عبده وعن عبادته وعن طاعته.
3- افتقار هذه النعم إلى الشكر، وأن العبد مهما شكر فشكره لا يكافئ النعم،
مع ما قد يشوبه من خلل.
4- حقيقة الدنيا والآخرة، وأن الدنيا مزرعة هدف العبد فيها مرضاة الله
تعالى وهو عز وجل لا يرضيه العجب، وكذا تذكّر الموت وما يكون بعده من
الأهوال التي لا ينفع فيها إلا صالح العمل، والعجب يجعله هباء منثوراً.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رِضا من
تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب. فمن فكّر في ذلك صغر
عنده عمله) [11] .
5- حقيقة النفس. قال الأحنف بن قيس: (عجبت لمن خرج من مجرى
البول مرتين، كيف يتكبر) .
6- إدراك عواقب العجب، وأنه طريق إلى الكبر المهلك.
7- وجوب الإخلاص، قال الذهبي: (فمن طلب العلم للعمل كسره العلم،
وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء: تحامق
واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العجب) [11] .
ثانياً: الحرص على ما يعين على تحصيل ذلك من الإقبال على كتاب الله،
واستلهام الفهم منه، ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة السلف
الصالحين، ومجالسة العلماء والدعاة الصادقين، والأخذ من علومهم.
ثالثاً: دور الدعاة والمربين، والذي يتمثل فيما يلي:
1- محاسبة النفس أولاً، وتنقيتها من داء العجب والفخر.
2- متابعة البارزين ومن يخشى عليهم العجب، من خلال:
أ- البرامج الإيمانية.
ب- اللقاءات الفردية التي يذكرون فيها بمعاني الإيمان والتواضع.
ج- وأحياناً مصارحة الواحد منهم بما يصدر منه، بأسلوب مناسب.
3- تمكينه من معاشرة ومخالطة الصالحين، ورؤية بعض المتواضعين من
إخوانه، الذين هم أكثر بروزاً في المجتمع، وإبعاده وتجنيبه صحبة المعجبين.
4- التوقف عن إبرازه في المناشط العامة وتأخيره عن المواقع الأمامية،
كنوع من العلاج، مع مراعاة ألا ينتج عن ذلك سلبية الإحباط، فإن حدثت فإنه
يجب علاجها أيضاً؛ لأن التأخير اجتهاد في العلاج، وقد يكون التشخيص أيضاً
مجتهداً فيه.
رابعاً: اتباع الآداب الشرعية في المدح والثناء، والتوقير والاحترام،
والطاعة والانقياد.
فالمدح: إذا كان بالحق، وباعتدال، مع من لا تُخشى عليه الفتنة فقط؛ كان
جائزاً، أو مستحباً، بحسب المصلحة؛ وإلا فحرام.
والتوقير والاحترام، ينبغي ألا يصل إلى التعظيم؛ ولذا كره من أصحابه أن
يقوموا له، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم.
وأما الطاعة والانقياد فقد حددها الشارع في المعروف.
خامساً: النظر إلى العاملين النشيطين، والتأمل في سيرهم وحياتهم.
سادساً: التأكيد على المسؤولية الفردية في محاسبة النفس ومتابعتها، حسب
خطوات العلاج السابقة كلها، وتفقّد القلب في نيته عند كل عمل، قال عبيد الله ابن
أبي جعفر: (إذا كان المرء يحدِّث في مجلس، فأعجبه الحديث فليمسك، وإذا كان
ساكتاً فأعجبه السكوت فليتحدث) [12] ، ولكن يجب التنبه إلى أن هذا يكون في
حدود التأديب والعلاج، لا يتعداه إلى ترك العمل خشية العجب أو الرياء.
كما أن المحاسبة قد تتطلب أحياناً تعريض النفس بين الحين والحين لبعض
المواقف التي تكبح جماح كبريائها، وتعرفها بمكانتها اللائقة، كخدمة من هو أصغر
منه، أو حمل متاعه بنفسه، على نحو ما أُثِرَ عن كثير من السلف. ولا غنى للعبد
في كل هذه الوسائل عن الاستعانة بالله تبارك وتعالى، واللجوء إليه، لجوء العبد
الضعيف المفتقر إلى عون مولاه ومدده وهداه وتوفيقه.