بأقلامهن
بقلم: بسماء الجاهل
من بين الأضواء الساطعة التي تغمر المكان يظهر ضوء خافت قاتم..، ومع
ذلك فقتامة لونه تشوِّه الصورة حائلة دون اكتمال جمال المنظر.
ذلك الضوء هو قتام من الجاهلية التي قضى عليها الإسلام في فجره الأول؛
ولكنها عادت من جديد رغم الصحوة الإسلامية التي انتشرت في كثير من البلاد
الإسلامية.
لكن الضوء الخافت يبقى خافتاً.. مختبئاً وراء أنوار الإسلام الساطعة..
يحتاج إلى عين ثاقبة تميزه عن بعد.. تذهب إليه.. تحدق فيه وتنتشله من هوة
الماضي التي سقط فيها وابتعد أكثر من ألف سنة.
هذه الجاهلية ليست جاهلية من اعتقد بأن الحضارة تكمن في تقليد الغرب حتى
تشربت نفسه مساوئها قبل محاسنها جاعلاً من إسلامه اسماً خالياً من المضمون.. لا، فهؤلاء الفئة هم أبرز من أن يتواروا عن الأنظار حيث إن جهلهم يبدو في سلوكهم
ولحن أقوالهم! !
لكنها جاهلية تغلغلت في تصرفاتنا (إلا من رحم ربي) ، وأصبحت متعارفاً
عليها وغير مستنكرة البتة، وهنا يأتي دور الدعاة في التحذير من هذه التصرفات
وبيان مجانبتها لواقع العقيدة الإسلامية، وبيان خطر الاستمرار فيها، وهو ما
نحسبهم يقومون به خير قيام، لكن هؤلاء الدعاة ويا للأسف الشديد قد تمركزوا في
المدن الكبرى التي تعج بأساليب الدعوة المختلفة متناسين ما آل إليه حال القرى
والهجر الصغيرة من ابتعاد عن روح الإسلام حيث باتت تحكمهم العادات والتقاليد
التي قد تعجب أشد العجب عندما تعرف بأنها أقرب ما تكون شبهاً بما كان عليه
العرب في الجاهلية في بعضٍ منها.
وقد يقول قائل بأن وسائل الإعلام أصبح لها دور واضح في الدعوة عن
طريق البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تصل إلى معظم القرى تقريباً، كما أن
الشريط الإسلامي المحتوي على المحاضرات في شتى أمور الدين والدنيا التي تهم
المسلم انتشر في كل مكان وبات يؤدي دوره المرجو.. نعم هذا صحيح! ولكن هذه
العوامل تعتبر في رأيي عوامل مساعدة للدعوة وليست هي الركيزة الأساس التي
يعتمد عليها الداعية في إيضاح ما أُشكل من أمور الدين والدنيا؛ حيث يُطلب من
الداعية ألا يكون مجرد مرسل يقدم نصائح وتوجيهات بأسلوب خطابي (مباشر) ثم
يمضي في سبيله غير آبه بما كان من أثر هذه الكلمات في النفوس؛ لأن الأسلوب
الخطابي في التوجيه بشكل عام لا تميل إليه النفوس ولا يجذب انتباه السامع.
إن الدور المطلوب من الداعية في مثل هذه القرى يجب أن يكون أكبر بكثير
من هذا؛ حيث إن عليه من منطلق استشعاره بهذا الواجب أن يجعل من نفسه أحد
سكان هذه القرى لفترة معينة ضارباً لهم القدوة الحسنة في تصرفاته ومعاملاته أولاً،
ثم قائماً بالدعوة الفردية التي تكون أوقع في النفوس متى أتيحت له الفرصة لذلك؛
حيث إن الدعوة الفردية قد تفعل ما لا تفعله الدعوة الجماعية التي توجه بشكل عام
إلى مجموعة كبيرة من الناس؛ فعن طريق الدعوة الفردية يستطيع الداعية الوصول
إلى النفوس المُعْرِضة عن سماع صوت الحق وذلك باستخدام أساليب الدعوة
المختلفة، ولعل أوضح مثل لأهمية الدعوة الفردية هو دعوة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- حيث كانت تتم بشكل فردي خلال السنوات الأولى من دعوته، كما أن
إقامة الداعية بين الفئة المراد دعوتهم تجعله ملماً بما ينتشر في تلك المنطقة من
خرافات وبدع وما يُشْكِلُ عليهم فهمه من أمور الدين؛ فينهض من خلال ذلك
بدعوته على أسس سليمة وقوية، وعند قيامه بإلقاء المحاضرات يستطيع مناقشة
الحاضرين بعد الانتهاء من المحاضرة أو خلالها محققاً بذلك نجاح دعوته التي لا
تكون من جانب واحد يكون فيها هو المرسل، بل تؤدي الرسالة دورها من خلال
مناقشات المتلقي واستفساراته، ومن ثَمّ يأتي دور العوامل المساعدة التي على
الداعية أن يحث المدعوين على متابعتها والاستفادة منها. كما يستطيع الداعية تقديم
الكتيبات والأشرطة الدينية هدية للمدعوين ويحقق من خلال ذلك هدفين هما: زرع
المحبة له في نفوس المدعوين؛ حيث قال: (تهادوا تحابوا) ، والهدف الثاني: هو
أن تحتوي هذه الكتيبات والأشرطة على ما يريد الداعية إيصاله إلى المدعوين من
أمور مختلفة.
وتستطيع هذه العوامل المساعدة تحقيق النجاح من خلال الأسس التي وضعها
الداعية في نفوس مدعويه؛ وهذا الترتيب في الدعوة يحقق هدفاً مهماً يجب على كل
داعية ألاّ يغفله ألا وهو التدرج في الدعوة إلى الله حيث: (ينبغي على الداعية أن
يتدرج في دعوته فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها؛ فلا يقحم المسائل إقحاماً، فتجد
بعض الدعاة يذهبون إلى أماكن في البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم
الإسلام في خطبة جمعة واحدة! وما هكذا تعرض المسائل! !) [1] .
نعم، ما هكذا تعرض المسائل.
فالداعية ليس محاضراً أو باحثاً يلقي الضوء على ما استجدّ من العلوم في أحد
المؤتمرات أمام مختصين ويدعم ذلك بالشواهد ثم يمضي في سبيله.. بل الداعية
شخص استشعر واجبه نحو دينه الإسلامي؛ ومن هذا المنطلق تحمّل الصعوبات
وآلى على نفسه الاستمرار في مقاومة ما هو مخالف لشرع الله مما ينتشر في
تصرفات الناس، فهو حين يحث الناس على أمر معين أو يحذرهم من آخر يستمر
في دعوته تلك ويصبر حتى يرى أثر هذه الدعوة مستخدماً لذلك ما أمكنه من أساليب
مناسبة، لكن قلة الصبر هي التي تجعل الداعية يقصر في دعوته.
ونحن إذا نظرنا إلى حكم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وجدناه فرض كفاية؛
وبما أن كبرى المدن تذخر بالدعاة والحمد لله فالدعوة إلى الله فيها يعتبر سنة في حق
الجميع.
ولكن لننظر إلى القرى البعيدة محورِ حديثنا، فالدعوة فيها تعتبر واجباً لعدم
قيام أحد من سكانها بهذا العمل، ولكننا نسأل: كيف عليهم تأدية هذا الواجب وهم
يجهلون أنهم بحاجة إلى دعوة وتصحيح عقيدة؟ إن الواجب هنا يقع على عاتق من
يعرف شيئاً عن هذه القرى وحاجتها إلى الدعوة، ولا داعي أن نذكِّر بفضل الدعوة
إلى الله؛ لأن الحديث هنا موجه إلى الدعاة الذين هم أعلم من غيرهم بهذا الفضل
بدليل قيامهم به.
إذَنْ: فأين هم من هذه القرى؟ وقد قال: (لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك
من حمر النعم) ، فكيف بقرية بأكملها؟
وكم من داعية ذهب إلى تلك القرى وما عرف أن الاستجابة له ستكون بهذا
القدر؛ حيث نلمس، ومن خلال ما يصلنا من أولئك الدعاة، حبّ سكان القرى
للاستزادة من الخير ومحاولة تصحيح عقيدتهم واحترامهم وتقديرهم للدعاة.
وهذا لا يمنع أن يواجه بعض الدعاة بعض العقبات التي تحتاج إلى كثير من
الصبر لتخطيها، ولكن ما يتم من دعوة سكان أهل القرى أو الهجر أو البادية هو
جهد فردي من قِبَلِ أحد الدعاة غير مدعوم، ومع ذلك فإنه يستمر في دعوته موجهاً
كل إمكانياته في سبيلها، باذلاً من نفسه ومن ماله، ولكنه ما أن يبدأ بوضع بذور
الدعوة في النفوس ثم ينتقل إلى المرحلة التالية وهي تدعيم دعوته تلك حتى يواجَه
بمشكلة أساس تواجه جميع هذا النوع من الدعاة وهي مشكلة من شأنها أن تثبط همة
الداعية وتقعده عن إكمال دعوته (ولعلها كانت الأساس في كتابتي لهذا المقال) ،
وهي أنه عندما يطلب هذا الداعية من كبار المشائخ والدعاة الذهاب إلى تلك القرى
لإلقاء محاضرات ودروس دينية فإنه يواجه برفض من قِبَلِهم سواء كان هذا الرفض
مباشراً أو غير مباشر متذرعين بمشاغلهم ورافضين أن يبذلوا هذا الجهد ويتحملوا
هذه المشقة في سبيل الله، ومن هنا يتسلل الإحباط إلى نفس الداعية المبتدئ،
وتهتز القدوة التي كان يستمد منها دواعي الصبر والقوة في مواجهة المصاعب،
كيف لا وهو الذي كرس وقته وجهده وماله لهذه الدعوة زمناً ليس قصيراً في حين
أن أساتذته وقدواته يرفضون تخصيص بضع ساعات لمساعدته على مواصلة
الطريق!
إن المأمول من هؤلاء الدعاة والمشائخ تشجيع الدعاة وتنظيم دعوتهم ودعمها؛
وذلك بجعلها تابعة لهيئة مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تأخذ
الصفة الرسمية وتستمر؛ لأن الجهد الفردي معرض للانقطاع، أما إذا كانت هناك
جهة رسمية مسؤولة عنها فهي تضمن لها الاستمرارية بإذن الله تعالى ونحن نربأ
بالدعاة والمشائخ من أن يكون عامل المشقة وبُعد المسافة سبباً في إبعادهم عن
المضي في طريق الدعوة إلى الله وهو الطريق الذي اختاروا السير فيه ولا يزالون.