دراسات دعوية
بقلم: عادل ماجد
إنها فترة زمنية تمر بالمجتمعات على اختلاف صورها، أمةً كانت أو دولة أو
جماعة، وهي من سنن الله في المجتمعات؛ إذ يأتي عليها زمن تعود إلى داخلها
وتترك أراضي كانت وطأتها، وينجزر مدها، وينعكس ذلك على قياداتها وقواعدها؛ فيشعر أولئك بالضعف والضيق، بل يصل إلى اليأس والإحباط.
يقول الله (تعالى) عن هذه الحقيقة: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاًتِكُم
مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] [البقرة: 214] .
قال صاحب الظلال: (.. يتوجه إليهم بأن هذه سنة الله القديمة في تمحيص
المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا أهلاً لها: أن يدافع أصحاب العقيدة عن
عقيدتهم، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر، وأن يتراوحوا بين
النصر والهزيمة، حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة،
ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتن ... استحقوا نصر الله) (هكذا خاطب الله
(تعالى) الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة كلها، وإلى سنته (سبحانه وتعالى) في تربية عباده المختارين الذين يكل إليهم رايته،
وينوط بهم أمانته في الأرض: منهجه وشريعته وهو خطاب مطّرد لكل من يختار) [1] .
وجاء الانكفاء في حياة رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فنرى حذيفة
بن اليمان (رضي الله عنه) يحدثنا عن ذلك في الحديث المتفق عليه: (كنا مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (احصوا لي كم يلفظ بالإسلام؟ قال: قلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا
تدرون لعلكم أن تُبتلوا، قال: فابتُلينا؛ حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً) [2] .
وبنظرة شاملة للتاريخ، قديمه وحديثه، نرى في الأمم ضعفاً بعد قوة،
وضموراً بعد نشوة؛ ولعلنا نقف على صور من ذلك:
1- ما أصاب العلماء في زمن الحجاج من العنت والضعف والمطاردة.
2- ما أصاب الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) وطلابه وعلماء عصره من
الفتنة بالقول بخلق القرآن زمن المأمون، فطائفة لقيت حتفها، وأخرى أضحت
سجينة، وثالثة هاربة، ورابعة في بيوتها لا تجرؤ على الكلام، ولا تجد للتحديث
باباً.
3- وما لقيه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما كان مع طلابه في غياهب السجون؛ وأنصاره وأحبابه لا يستطيعون قولاً ولا حراكاً، بل كان كثير من علمه ينشر
بغير اسمه؛ لأن اسمه صار جرماً للمادحين وسلّماً للقادحين.
وشهد هذا القرن الميلادي الذي نحن فيه عدداً من صور الانكفاء لأمم وأحزاب
من أشهرها ما حدث للحزب الشيوعي في القيصرية الروسية عام 1905م عندما
سجن وقتل عدد من قادته وزعمائه حتى أضحت عضوية هذا الحزب كفيلة بالإعدام
أو النفي؛ وهذا الحزب هو الذي حكم البلاد بعد عام 1917م.
وفي نهاية العشرينات من هذا القرن انكفأت أمريكا إلى داخلها؛ فتأثرت
النظرية الرأسمالية بذلك، وشهدت دول عدة انقلابات شيوعية، وصار من المألوف
تغيير الحكم إلى الاشتراكية، ولم تخرج أمريكا من عزلتها إلا عام 1939م خلال
الحرب العالمية الثانية عند ضرب اليابان لميناء بيرل هاربر.
لماذا الانكفاء؟
إن الانكفاء إلى الذات ليس حدثاً يسقط فجأة فيصيب من أصاب؛ بل هو:
* تراكم عبر سنوات، وتفاعل خلال أزمنة؛ فالمشكلات الداخلية في البناء
والإدارة والاستراتيجيات تظل تنخر في الجسد حتى يأتي زمن لا تستطيع الأمة
بعدها عطاءً أو صراعاً، فتجذبها مشكلاتها إلى داخلها، وينشغل أهلها بأهلها،
وقاعدتها بقادتها؛ فتضطر الأمة إلى ترك مواقع اكتسبتها، والتراجع عن خطوات
قطعتها.
* والسبب الآخر خارجي: إذ إن المتغيرات على هذه البسيطة ليست بيد أحد
دون غيره؛ فمتى تداعى الجميع، وتكالبت الأمم، وحدّ الآخرون شفراتهم فإنه لا
توصد جبهة إلا وتفتح جبهات، ويتكاثر الأعداء، ويكشف المزيف زيفه، ويلقي
المقنّع قناعه؛ فإذا حوصرت أمة هذه المحاصرة، وضُيّق عليها كل تضييق
اضطرت أن تعود إلى داخلها، وتتمحور حول ذاتها، ويظل الجزر يتكرر فيها
حتى ترجع من حيث بدأت.
أهمية استثمار الانكفاء:
والسؤال الآن: كيف لنا أن نستثمر الانكفاء؟ وكيف نتحوّل بهذه المرحلة إلى
نصر جديد، وأسلوب للكسب؟
نسوق هنا تسع اقتراحات لهذه الحالة عندما تحدث، وقد يزيدها القارئ
ويتوسع فيها:
أولاً: العودة إلى المعيار الشرعي وهو القرآن والسنة لتقويم مسارنا كما فهمه
أهل خير القرون، وأن نتبرأ من كل قول أو عمل أو فكر ليس له في ديننا حظ.
ثانياً: تقويم التاريخ الدعوي من حيث المصالح والمفاسد، وإبراز المصالح
الموهومة والمفاسد المزعومة من غيرها؛ ليكون البناء عليها مستقبلاً أكثر وضوحاً
وأكثر صواباً.
ثالثاً: توسيع دائرة (النقد الذاتي) وقبول الحق ممن جاء به كائناً من كان،
ومشاركة الآخرين في عقولهم باستحثاثهم على التقييم والتقويم.
رابعاً: السعي الحثيث إلى درء الخلاف ما أمكن، واستشعار أهمية الائتلاف
وضرورته بين أهل الحق وأصحاب الصراط القويم؛ ولا سيما في مثل هذه
المرحلة الحرجة.
خامساً: إعادة ترتيب الأولويات الشرعية؛ إذ إن زمن المد والتوسع يجعل
الملحّ قبل المهم؛ واستثمارُ الفرص قد يجعل بعض الزوايا تتضخم على حساب
زوايا مثلها أو أوْلى منها.
سادساً: الاتجاه إلى الفرد وبنائه بناءً صحيحاً، وصياغة تفكيره صياغة
واضحة بعدما طال إهماله في فترات المد. وهذا البناء الخاص عندما يكون همّاً
جمعياً؛ فإنه ينتج أمة قوية بمنهجها وبأفرادها.
سابعاً: تقييم الآخرين في الخنادق المقابلة تقييماً منطقياً بعيداً عن التضخيم
المغالى فيه، أو التحجيم المبالغ فيه؛ فعندما تعطي خصمك قدره الموضوعي فإن
هذا يجعلك قادراً أكثر على وضع الاستراتيجيات الفاعلة بعيداً عن الكر والفر اللذين
كانا منطلقين من ردود أفعال آنية.
ثامناً: كما يستفاد من زمن المد في إذكاء روح العمل والتعاون والمفاعلة
الاجتماعية؛ لذا يجب الإفادة من زمن الانكفاء في إذكاء روح الصبر والقناعة،
وليكون الزمن معيناً لكثير من معاني الصدق والإخلاص التي كان زمن المد مجرد
كلمات وعبارات، فأضحت في بعض البيئات واقعاً يبتلى فيه المؤمنون.
تاسعاً: وضع برنامج مرحلي لتجاوز زمن الانكفاء إلى زمن مد جديد واضح
المعالم، جلي الأهداف، موجه نحو الأمة، متخففٍ من أثقال الماضي وترسباته.
إننا بتفهم هذه المرحلة ودراستها دراسة منهجية شرعية وافية نصبح في
الخيرية التي أرادنا الله لها في قوله (تعالى) : [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس]
[آل عمران:110] والتي أرادها لنا رسوله الكريم في قوله: (عجباً لأمر المؤمن إن
أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً
له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له [3] .
أسلوب غير مقبول:
وأما الطريق الآخر لهذا الانكفاء فهو التلاوم المنبوذ، وتحميل الأخطاء
للآخرين، وتبادل الاتهام؛ فتمتلئ المرحلة بالمناوشات وتصفية الحسابات، ويكون
الحق فيه للأقوى؛ وعندها تتشرذم الكلمة، وتنفك الآصرة، وتتشتت الرؤية،
وتنتقل الجموع من سيئ إلى أسوأ، ومن مهلكة إلى أخرى، وتشتد دائرة الخناق
حتى يصبح الجميع أثراً بعد عين.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا
اجتنابه، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم.