دراسات شرعية
بقلم: د.محمد أمحزون
إعداد النفوس للجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام هذا الدين؛ إذ من اليقين
الجازم: أنه لا يرفع عن المسلمين ما هم فيه من ذلة ومهانة إلا أن تحيا معاني
الجهاد في نفوسهم لقول النبي: (إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم
بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى
ترجعوا إلى دينكم) [1] .
وهذا الإعداد هو ثمرة الفهم الصحيح والقصد السليم والصبر الطويل، وهو
مهمة ورثة الأنبياء.
وتتجلى سنة الإعداد في قوله (تعالى) : [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: 60] .
ويجب أن يشمل هذا الإعداد الجوانب التالية:
* الإعداد العلمي والتفقه في الدين والبصيرة فيه: ليكون الجهاد على بصيرة
وروية ووضوح راية، فيفقه المرء لماذا يجاهد وما هي غايته؟ وكيف يجاهد؟
ومن يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ كل ذلك يقوم على العلم والفقه في دين الله [2] .
* الإعداد التربوي والسلوكي: حيث يتخلق المجاهدون بأخلاق رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وصحبه؛ فغاية جهادهم لتكون كلمة الله هي العليا، ولا
يتطلعون من وراء جهادهم إلى زعامة أو جاه أو منصب أو مكسب من مكاسب الدنيا.
ويتضمن هذا الإعداد تقوية الصلة بالله (عزو جل) وإخلاص النية والتقرب له
بالطاعات، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي عليه أصحابه في مكة من
صلاة الليل، وذكر الله وتلاوة القرآن، والتربية على الزهد والتخفف من الدنيا،
والتطلع إلى ما عند الله (عز وجل) من الجنة والرضوان.
كما يشمل التربية الجادة للنفوس بإحياء السلوك الإسلامي وأخلاق السلف
الفاضلة، والقضاء على رواسب الأخلاق السيئة، مما يحتاج إلى جهد كبير،
وصبر متين، ونفس طويل، وذلك حتى يتم صقل النفوس وتمحيصها، وأن تربى
على الانطلاق من خلال الشريعة وقواعدها لا من ردود الأفعال العاجلة والعواطف
الملتهبة، كما هو الحال في العهد المكي الذي ظهرت فيه هذه المعاني بوضوح
وجلاء [3] .
الإعداد المالي: إن القوة المادية كما قيل عصب الحياة الدنيا وقوامها،
والضعيف فيها على مر العصور مقهور مسروق لا يحسب له حساب إلا في ظل
شرع الله حين يحكم، وليس معنى هذا جعل الدعوة شركة تجارية؛ لكنه ينبغي
الاعتماد على الذات في موارد ثابتة؛ وهذا من النفرة التي أمرنا الله (عز وجل)
بإعدادها لمواجهة الأعداء ونشر الدين، والاستغناء عن مد يد الاستجداء؛ مما يوفر
للدعوة حرية التحرك، واتخاذ القرار دون ضغوط كابحة للنشاط من أي جهة كانت، إضافة إلى ما توفره القوة المادية من ثقل إعلامي واجتماعي هي بأمس الحاجة
إليه.
وهذا يقوم ابتداءً على ترويض النفوس بالتربية على الإنفاق، وبذل الغالي
والنفيس في سبيل الله، وتخليص النفوس من الشح والحظوظ العاجلة أسوة بسلفنا
الصالح؛ فهذا أبو بكر (رضي الله عنه) كان يعتق المستضعفين من الرقيق المسلم
بماله؛ فنزلت الآيات الكريمة من سورة الليل: [وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي
يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى] [الليل: 17-21] [4] .
كما خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هجرته إلى المدينة حاملاً
ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم لإنفاقه في سبيل الله [5] .
الإعداد الإعلامي: وذلك بالتعريف بأهداف الدعوة ومقاصدها، ليعلم الناس
أن قضية الإسلام قضية عادلة، لا كما يصورها الأعداء بنعوت وأسماء زائفة
تخالف الحقيقة، ففي العهد المكي كان الشعر والخطابة هما الوسيلة المتاحة لنشر
الدعوة والرد على خصومها [6] ، أما في عصرنا فيمكن توظيف وسائل الإعلام
المقروءة والمسموعة والمرئية للقيام بوظيفة البلاغ المبين، وإيصال رسالة الإسلام
إلى كافة الفئات الاجتماعية؛ حيث يستفيد الدعاة من التطور التقني الهائل في
مجالات الاتصال لتبليغ دعوتهم ونشر أفكارهم.
الإعداد البدني: بغاية تحمل الجهاد ومشاق الطريق؛ وذلك بممارسة الرياضة
البدنية، وركوب الخيل، والسباحة، وتعلم الرماية، لكن قد يقول قائل: ما الدليل
على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدرب أصحابه على الرماية والرياضة في مكة؟ والجواب: أنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك؛ فطبيعة نشأتهم وبيئتهم وحياتهم
كانت في الأصل قتالية مدربة جاهزة لا يحتاجون معها إلا إلى مجيء الوقت
المناسب والأمر بالجهاد [7] .
ومن السنن التي أوضحها القرآن الكريم: سنة التدافع أو سنة الصراع بين
الحق والباطل، وهي سنة مترتبة على السنة التي قبلها (أي سنة الإعداد) ، كما أنها
ماضية عبر التاريخ الإنساني الطويل، وباقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها:
[وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ
رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] [هود: 118، 119] .
ويحتدم الصراع نتيجة هذا الاختلاف لإقرار الحق أو إقرار الباطل [الَّذِينَ
آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] .
وهذا التدافع هو الذي عناه الله (سبحانه وتعالى) بقوله: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ]
[البقرة: 251] .
وهذا الذي عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) [8] .
وهذه الطائفة المنصورة تجتمع فيها أسباب النصر المعنوية والمادية التي خلقها
الله (عز وجل) ، من علم صحيح، وسلوك مستقيم، وأخذ بالمقدمات التي جعلها الله
وسيلة موصلة إلى نتائجها المرجوة؛ وإلا فإن مجرد الإيمان والالتزام بعقيدة أهل
السنة والجماعة دون الأخذ بأسباب التمكين ومقدماته المادية، ودون الالتزام بسنن
الله الكونية الصارمة لا يضمن النصر ولا يكفل الظهور والتمكين في الأرض الذي
وعد الله به عباده الصادقين [9] .
وقد أوضح الله (عز وجل) أن الجهد الإنساني للمؤمنين هو الذي يحسم
الصراع بقدر من الله لصالح المؤمنين: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
إن التدافع الذي يعنيه القرآن الكريم من خلال هذه السنة هو الذي يكون لخير
البشرية، وبه يتحقق السلام العالمي، بتحقيق العبودية لله وحده في الأرض،
وإزالة كل طاغوت يُعبد من دون الله، قال (تعالى) : [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] [الأنفال: 39] .
فالبشرية بدون العبودية لله (عز وجل) لا تستطيع أن تسلك قاعدة عليا من
الحق؛ لأن لكل معبود من الشركاء قاعدته الخاصة وسبيله المختلف، ولا سبيل أبداً
لتوحيد هذه القواعد إلا بالتخلص من الشركاء جميعاً، والاتجاه المنقاد المستسلم لله
(تعالى) وحده لا شريك له.
وبين فوضى الأرباب والآلهة والطواغيت والمعبودات ذات الأسماء
والشعارات المختلفة والصور المتباينة يرسم القرآن الكريم للمؤمن الموحد طريقاً
واضحاً أبلجَ لا زلل فيه ولا عثار، محذراً إياه بأن اختياره لغير هذا الطريق أو
تردده في الاستمساك به معناه الكارثة المحققة والخسارة الكبرى: [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَاًمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ]
[الزمر: 64-66] .
كما بيّن القرآن الكريم أن عاقبة الصراع تكون دائماً للمؤمنين مهما طال
الطريق وعصف بهم طغيان المشركين: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] [القصص: 5] . وقال تعالى: [وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] .
والهدف من هذا البيان هو شد عزائم الجماعة المؤمنة في مكة لتعي وتفقه
طبيعة الصراع بين الإيمان والكفر، ولتعد نفسها إعداداً كاملاً، علماً وتربية
وتخطيطاً وتنظيماً لمواجهة أعداء وعوائق الطريق وكثرة الأعداء من الداخل
والخارج، من النفس والعشيرة والأموال والأزواج، ومن الشيطان وجنوده، ومن
المشركين.
وفي ضوء ما بذله المؤمنون من جهد بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
ومن خلال ما قدموه من تضحيات في الأموال والأنفس وهجرة الأوطان والأهل،
جاءتهم البشرى بحسم الصراع لفائدتهم واستخلافهم في الأرض: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [النور: 55] .