في دائرة الضوء
بقلم: محمد يحيى
تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية
بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي
رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ، التي لا يذكر أحد في العادة أن
الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى
أنفسهم، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين
في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم، بل وجُعلت حكراً خاصاً
بهم، وراحوا في هذه المحاكم يفتشون الضمائر والنيات ويرمون المسلمين والإسلام
بكل نقيصة وجريمة تعن لهم حتى أكثرها غرابة وتهافتاً وبطلاناً، مطمئنين إلى أن
الإسلام ليس له من يذب عنه ويحامي في ظل أوضاع فرضت حتى على رؤساء
بعض الهيئات الدينية المرموقة أن يعلنوا أنهم ليسوا سوى موظفين تصدر لهم
الأوامر فيطيعون ويخرجون على صفحات الجرائد يتهمون المسلمين بالتعصب
ويثنون على الغربيين لتسامحهم.
وقد بلغ السيل الزبى كما يقال في محاكم التفتيش العلمانية هذه واتهاماتها
العبثية إلى حد أنني في أسبوع واحد، بل وفي مجلة واحدة أحصيت عدة منها رأيت
أن أشرك القراء معي في غيظي وحيرتي من وقاحتها: ففي مجلة صادرة من لندن
بتمويل مشبوه المصدر زعمت أنها منبر الفكر والثقافة يكتب فيلسوف شهير في
الأوساط العلمانية (أو هكذا يدعي لنفسه) ليقول: (إننا كعرب لا نهتم عادة إلا
بالأمور الجسدية البدنية بحيث تكون الأجسام في بؤرة الاهتمام، أما قضايا الفكر
فإننا نجعلها في مؤخرة اهتماماتنا، فالأم العربية تدعو لابنها قائلة له: ربنا يجنبك
شر الفكر؛ ومعنى هذا أن الفكر والفلسفة (وهي أعظم صور الفكر) قد أصبحا
مرادفاً للهم والغم) ، والغريب أن هذا الكاتب يمضي ليخصص بقية مقاله في الحديث
عن التيارات الفلسفية السائدة على الساحة العربية: ويخص بالذكر ما يسميه بالتيار
السلفي الأصولي (الإسلامي) فأين إذن هذا الاهتمام بالأجسام ووضعها في بؤرة
الاهتمام كما يقول، بل إنه يمعن في السطحية عندما يتعمد الخلط بين المعنى العامي
الواضح لكلمة الفكر في سياقات محددة: بمعنى التحير والتفكير الملحّ بلا طائل في
محاولة للخروج من مأزق مستحكم، ومعنى الكلمة نفسها في سياقات محددة أخرى
في مجال البحث والدراسة مثلاً، ويتجلى تعسف الكاتب في توجيه التهم وهذا هو
هدف مقالته الأولى عندما يلجأ إلى تلك التقسيمات السطحية العنصرية القديمة التي
تلخص كل خصائص أمة من الأمم في عبارة واحدة مثل: (مادي) أو (روحاني) أو
(خيالي) أو (عقلاني) ، وما أشبه ذلك. وهكذا يحصر الكاتب العرب ويقصد
المسلمين في كلمة واحدة وهي: أنهم أعداء الفكر المنكبون على رعاية الجسد؛ دون
أن يدعم هذا الزعم الواسع العريض إلا بتفسير متعمد سيئ النية لكلمة يعرف الكل
أن معناها عكس ما يقول، بل وحتى وهو يتحدث في مقاله عن تيارات الفكر بين
أعداء الفكر هؤلاء.
وبجوار تلك المقالة يكتب (فيلسوف) يشار إليه بالبنان في أوساط العلمانيين،
بل وتعينه إحدى الدول الغنية أستاذاً جامعياً كبيراً يشرف على سلاسل إنتاجها من
الكتب الفكرية والثقافية، فماذا يقول هذا الفيلسوف؟ إنه لا يتحدث في تلك المجلة
الثقافية الفكرية عن قضايا الفلسفة، ولا يهاجم المسلمين لافتقارهم إلى الفكر ... إلخ، بل ويا للعجب إذ يورد فقرات مطولة من تقارير تكتب في صحف محلية ببلد
عربي مبتلى بتسلط العلمانيين والحرب بين أبنائه، ليخرج من هذه التقارير
المشكوك تماماً في صحتها بأن الإسلاميين (كل الإسلاميين) لا يكنون للمرأة إلا سوء
المآل والحال؛ لأن (الإسلاميين) في هذا البلد يحرقون مدارس البنات (رغم أن
التقارير تتحدث عن حرق كل المدارس بلا تفرقة بين مدارس بنين وبنات) ، ولأنهم
يقتلون الفتيات اللواتي لا يخضعن لرغبات الإرهابيين المسلمين الدنيئة، ويحار
المرء في فهم هذا التدني في مستوى الخصومة إلى حد اعتماد الكتابات الصحفية
الموجهة والكاذبة في معظم الأحيان حول عمليات تقوم بها جهات مشبوهة لا يعلم
أحد حقيقتها، واتخاذ هذه الكتابات، بل الإشاعات والدعاية السوداء حجة موثقة
للطعن في كل دعاة الإسلام وأصحاب الفكر الإسلامي؛ فأين الفلسفة والفكر
والمنطق هنا؟ وهل لم يجد الفيلسوف الكبير ما يقوله إلا هذا؟ وبصرف النظر عن
مجرد الرغبة في الكتابة وقبض الأجر فإن الدافع مرة أخرى واضح جلي وهو سعار
إلقاء الاتهامات أياً كانت.
وبجوار المقالين يكتب (مفكر) علماني آخر ليهاجم دعاة فكر القومية العربية؛
لأن بعضهم ذكر أن (الدين) جزء أصيل من مفهوم القومية العربية مما فتح الباب
للصراعات الطائفية بين العرب الذين اشتبكوا حول: أي دين يسود؟ وبعد أن ينعي
على هؤلاء القوميين العرب مجرد ذكر الدين في تعريفاتهم الذي فتح الباب للمسلمين
لكي يدخلوا إلى الساحة بتعصبهم وقمعهم لغير المسلمين يمضي ليقول: (إن القوة
الإسلامية التي دخلت بلدان المنطقة بحق الفتح أو الغزو تحولت إلى غالبية
اجتماعية كانت لها تصوراتها في الحكم والسياسة والإدارة ومن ثم وضعت بذور
الشقاق الطائفي) ، وهذا الكلام يعني ببساطة شديدة وأيضاً بوضوح شديد إدانة كاملة
وشاملة للإسلام واتهامه بخلق الشقاق الطائفي بمجرد وجوده وطرح تصوراته،
وكأن المطلوب لمنع الشقاق الطائفي هو ألا تكون هناك أغلبيات إسلامية ولا تكون
للمسلمين أي تصورات في الحكم والسياسة والإدارة حتى ينتفي الشقاق الطائفي!
ولو ترجمنا هذا الكلام بصيغة أخرى لا تخرج عن مضمونه لرأينا أن الكاتب يقول: إن الشقاق الطائفي (من المفترض أنه بين المسلمين وغيرهم في المنطقة العربية)
نشأ بسبب قدوم الإسلام واعتناق الغالبية لتعاليمه ثم العمل بشريعته وأحكامه، ولكي
نلغي هذا الشقاق والصراع فمن الأفضل أن نلغي (الدين) ذاته (والمقصود الإسلام
وحده) من تعريف القومية العربية، ولا يسأل الكاتب نفسه: لماذا لا تلغى الأديان
الأخرى وأصحابها وهي على أي حال أقليات صغيرة طالما أن إلغاء الدين هو الحل
الذي يراه محل مشكلة الشقاق الطائفي؟ ثم لماذا يكون الحل لهذا الشقاق هو إلغاء
دين الغالبية العظمى من أبناء هذه الأمة وتنحيته؟ الكاتب بالطبع يقدم الإجابة حين
يتهم هذا الدين أنه وحده المسؤول عن بذر بذور الشقاق وقهر الأديان الأخرى
واضطهادها دون أن يقدم دليلاً واحداً على هذا في مقاله سوى الحديث عن حكاية
(أهل الذمة) التي أثبت العديد من الباحثين الموضوعيين أنها هي التي حفظت
أصحاب الأديان الأخرى من الضياع أو الذوبان في المحيط الإسلامي.
عندما يصل الأمر إلى أن تتجمع كل هذه الاتهامات الحاقدة في حدود بضعة
صفحات في ثلاثة مقالات متجاورة في مجلة واحدة (أي في عدد واحد من هذه
المجلة) التقطها كاتب هذه السطور مصادفة؛ فلنا أن نتخيل مدى شراسة محاكم
التفتيش العلمانية ومدى تهافتها وتعسفها في الطعن في الإسلام والمسلمين.