هموم ثقافية
بقلم: سامي محمد الدلال
قد بينت سابقاً أن أصحاب المصالح، وأهمها المصالح الاقتصادية هم الفئة
المسيطرة حقيقة على التوجهات التشريعية النابعة من المجالس النيابية.
وبما أن أولئك الطغام لا يفكرون إلا في مصالحهم الذاتية، ولا يطمعون إلا
في إشباع رغباتهم الأنانية، فإن فرصتهم الذهبية في حيازتهم على المنصة
التشريعية النيابية، وهم لا يدَعُونها تفوتهم بحال من الأحوال.
إن من أهم الإنجازات التي يرومون الاضطلاع بتنفيذها: سن القوانين
التشريعية التي تتيح لهم الهيمنة على مقدرات البلاد، ليس فقط في فترة حياتهم
النيابية، بل إلى ما بعد ذلك، حيث تكون القوانين التي شرعوها في الفترة النيابية
مظلة لهم لممارسة أوسع أوجه الاستثمار الاحتكاري حتى بعد انقضاء الفترة النيابية
تلك.
إن المعادلة الصعبة التي يواجهونها في الفترة النيابية هي كيفية صياغة تلك
التشريعات بطريقة تضمن وتكرس مصالحهم ولكن بالْتحاف رغبة أو مصلحة
شعبية! ! ! .
وهنا يبرز دور الإعلام المضلِّل الذي يأخذ على عاتقه بيان الفوائد والثمار
العظيمة التي سيجنيها الشعب المغلوب على أمره من تلك التشريعات التي ظاهرها
الرحمة وباطنها مضطرم بالظلم والحيف والجور وأكل أموال الناس بالباطل.
إن الذي يتابع ما تشرعه المجالس النيابية يرى بسهولة عدم خلو معظم
الدورات النيابية من مسرحية تشريعية من هذا النوع ذي المظهر العسلي والذي
مضمونه السمّ الزعاف.
ولذلك ترى النواب المجلسيين يبذلون جهوداً كبيرة في ساحاتهم الجماهيرية في
محاولات محمومة لإقناع الناخبين بأنهم ما أرادوا من تشريعاتهم تلك إلا المصلحة
الوطنية والخدمة الشعبية. يقولون ذلك، وأكثرهم يعلمون أنهم كاذبون مخادعون
منافقون.
أي إنهم في سبيل خدمة مصالحهم الاقتصادية الذاتية يدوسون بأقدامهم واحدة
من أهم الخصائص الخلقية لدى الإنسان السوي! ! .
إن من أهم الآمال السوداء التي تعشش في عقولهم الباطنة: استرداد ما أنفقوه
في حملاتهم الانتخابية، فضلاً عن وضع القواعد القانونية التي يشيدون عليها
ثراءهم المأمول، إن أولئك النواب لا يلبثون أن يفقدوا مصداقيتهم بعد أن تكشف
الجماهير حقيقة ما تنطوي عليه نفوسهم، إلا أنهم لا يُلقون لذلك بالاً طالما أن ما
صَبَوْا إليه من تشريعات تحمي وتكرس مصالحهم قد تم إنفاذها.
لقد أتاحت المجالس النيابية المجالات الواسعة أمام الأثرياء للسيطرة على
المرافق الاقتصادية الكبرى في بلادهم، بما في ذلك الحيوية منها، كالبترول
والصناعات الثقيلة والخفيفة والمنتوجات الزراعية والحيوانية وغيرها، كما أتاحت
لهم تأسيس الشركات الكبرى ذات الاحتكارات المالية الهائلة، وافتتاح المؤسسات
الاستثمارية الضخمة، وإنشاء المجمعات التسويقية الموسعة، وتشييد المدن
الترفيهية الشاسعة والمشاريع السياحية المنوعة، وسوى ذلك كثير، مما يعود
مدخوله إلى جيوبهم.
إن المناخ الديمقراطي الذي تهب رياحه على تلك الأنظمة يهيئ مثل هذه
البلورة الاقتصادية التي أعطت للإقطاع معنى أشمل مما كان عليه سابقاً بخصوص
الأراضي الزراعية؛ فهو يعتمد اليوم على البيوت المالية التي عمودها البنوك
الربوية التي أصبحت مهيمنة تماماً على الساحات الاقتصادية على جميع المستويات
المحلية والإقليمية والعالمية. إن البنوك الربوية التي تحتضنها الأنظمة الديمقراطية
لم تعد مجرد واسطات للتعاملات المالية، بل أصبحت مجمعات كبيرة للاحتكارات
الاقتصادية بكافة أصنافها وتوزعاتها.
إن استقلال المجالس النيابية بالتشريع وسيطرة النواب العلمانيين على مراسي
تلك المجالس (ولا يمكن أن يسيطر عليها سواهم؛ لأن الديمقراطية مفصلة على قَدِّ
مقاسهم) ، هذا الاستقلال بالتشريع أتاح الفرصة الكاملة وأعطى المجال الموسّع
لإضفاء علمانيتهم على كافة قوانين الشركات والمؤسسات والبنوك، بما جعلها في
واقع الحال تعبيراً عملياً عن علمانية البلورة الاقتصادية للديمقراطية، تلك العلمانية
التي وفّرت الغطاء الفضفاض لاستقدام الخبرات الاقتصادية العلمانية الأجنبية، بما
تتضمن تلك الخبرات من أشخاص من اليهود والنصارى وكل دين وملة، ومن
أعراف تسويقية علمانية تتضمن الإعلانات الخليعة وعروض الأزياء الفاضحة،
وإقامة الحفلات الماجنة، ومسابقات ملكات الجمال باسم السياحة التي تعتبر مرفقاً
اقتصادياً مهمّاً، والدعوة إلى المناسبات التي لا تكاد تنتهي تارة تحت مظلة إحياء
المعالم الأثرية، وأخرى تحت مظلة معارض الفنون التشكيلية، وثالثة تحت مظلة
تجسيد الأعراف من خلال الرقصات الفلوكلورية، وهلم جراً.. كل ذلك لدعم
المجهود الاقتصادي وترويج المواد السلعية والمنتجات المحلية والعالمية.
وفي ظل البلورة الاقتصادية العلمانية تزدهر مكاتب السفر الجوية والبحرية
والبرية لاستقبال الوفود الاقتصادية التي ترافقها غالباً الفرق الغنائية التي تنشر
فسادها من على منصات المسارح المبثوثة في الفنادق والمطاعم وقصور المؤتمرات، سوى تلك المخصصة لذلك الفن الوضيع.
كما تزدهر أيضاً حانات الخمر وصالات لعب القمار، وتكثر الملاهي
والمقاهي التي تدار فيها الكؤوس المحرّمة، وترقص فيها الفتيات رقصاتها الداعرة.
وتزدهر أيضاً بيوت الخنا ويزداد أولاد الزنا.. وتزدهر وتزدهر..
كل ذلك تحت حجة إنعاش الاقتصاد الوطني، ودعم المجهود المالي للدولة! ! . إنني ألجم قلمي عن الاسترسال في بيان أوجه البلورة الاقتصادية الديمقراطية
لحياة الشعوب المسلمة.
إن نتائج على قدر كبير من الخطورة تنجم من هذه البلورة الاقتصادية
للديمقراطية، من أهمها:
1- صياغة التعامل الاقتصادي اليومي للفرد المسلم في إطار علماني، بمعنى: أن المسلم يجد نفسه في واقع يفرض عليه التعامل بالربا والاحتكام إلى التشريعات
العلمانية في جميع شؤونه الاقتصادية، بما في ذلك تأسيس الشركات وافتتاح
المؤسسات وعقد الصفقات وتوثيق المعاملات، بل حتى في المعروض عليه من
أصناف الأطعمة وألوان الأزياء.
2- استشراء الفساد الأخلاقي وازدياد الانحلال الاجتماعي، وفشو الكذب
والدجل في التعاملات الاقتصادية وسواها.
3- علمنة الثقافة وذلك من خلال افتتاح المؤسسات الثقافية ذات الدخول
الاقتصادية الفردية أو الاستثمارية.
إن الاعتراض ليس على المؤسسات الثقافية بحد ذاتها، فهى شيء محمود
ومطلوب، بل الاعتراض على علمانية تلك المؤسسات بما تجلبه من ثقافة علمانية
لها طابع تسويقي اقتصادي.
4- انتشار الرشاوى والمحسوبية، واستشراء الواسطة والوصولية، في
معظم التعاملات المالية، مما يؤدي إلى فساد الذمم وفقدان المصداقية وتفاقم
الانتهازية، مما يتيح الفرصة للوجهاء والمتنفذين أن يكونوا شركاء في الوكالات
والرخص التجارية، بل وفي معظم الصفقات الاقتصادية.
5- ازدياد فجوة الفارق الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بما يؤدي إلى تفاقم
الاحتكاك الاجتماعي، وتصعيد توترات الصراع بين مختلف طبقات المجتمع.
6- إن مجمل ما ذكرت، هو معارِض لما جاء به الإسلام من العدالة
الاجتماعية، والمناهج الاقتصادية، ولذلك: فإن المجتمعات الديمقراطية متعرضة
إلى غضب الله (تعالى) لا محالة. قال الله (عز وجل) : [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] .
لقد شارك الإسلاميون في معظم المجالس النيابية في البلاد الإسلامية، فهل
نجحوا في أي بلد منها في الحد من أية ظاهرة من ظواهر الفساد الاقتصادي التي
ذكرتها في هذا المبحث؟ ! .
لا، لم ينجحوا، بل أخفقوا إخفاقاً ذريعاً في كل ذلك. وما زالت المجالس
النيابية تتتابع، وما زال الإسلاميون يلهثون للحصول على بعض كراسيها، والفساد
الاقتصادي يزداد انتشاراً ويتوسع دائرة! ! .
إن مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية، فضلاً عن أنها لم تحقق شيئاً
يذكر في اتجاه الحد من البلورة الاقتصادية للديمقراطية علمانياً، فإنها أيضاً للأسف
أصبحت جزءاً من تلك البلورة العلمانية رغم محاولاتها تسويغ عجزها عن تغيير
الوضع القائم؛ حيث إن القرارات الاقتصادية ذات الصبغة العلمانية يشرعها
المجلس النيابي الذي يشارك فيه إسلاميون، مما يحسب عليهم وإن كانوا
معارضين! ! ! .