قراءة في كتاب
النظام العالمي الجديد..
دراسات تحليلية سياسية لبعض المتخصصين
عرض: محمد حيان الحافظ
شهد العالم منذ أواخر عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات مجموعة من
التحولات الدولية المهمة في شرق الكرة الأرضية وغربها، أسفرت في النهاية عن
ظهور هيكلية دولية جديدة مغايرة لتلك التي سادت مرحلة الحرب الباردة، حيث
كان النظام الدولي آنذاك يتسم بهيكلية القطبية الثنائية والصراع بين الكتلة الشرقية
بزعامة (الاتحاد السوفييتي) السابق والكتلة الغربية بزعامة (الولايات المتحدة
الأمريكية) .
توصيف النظام العالمي الجديد:
وفي خضم هذه التحولات ظهر العديد من الكتابات التي تقدم توصيفاً لهذا
الواقع الدولي الجديد، فبعض المحللين يصف الهيكلية الدولية الحالية بأنها أحادية
القطبية، وآخرون يصفونها بالقطبية المتعددة، وهناك من يصفها بأنها قطبية متعددة
قيد التشكيل، ومنهم الذي ينكر أصلاً وجود نظام دولي جديد، ويصف الهيكلية
الحالية بأنها حالة من الفوضى الدولية.
ولكن لا خلاف على أننا أمام واقع دولي جديد، وأنه مصحوب بطائفة من
التحديات لعالمنا الإسلامي، ولذلك فمن المهم التعرف على نمط توزيع القوة في
العالم ونمط التفاعل السائد، وفي هذا السياق يأتي كتاب (النظام العالمي الجديد) ،
وهو عبارة عن مجموعة أبحاث قدمها عدد من الباحثين في مجال العلاقات الدولية
إلى ندوة (النظام العالمي الجديد) ، التي عقدها مركز البحوث والدراسات السياسية
بجامعة القاهرة [*] .
محاور الدراسة:
يقع الكتاب في أربعمئة وثماني صفحات، وينقسم إلى أربعة أبحاث هي الآتي:
القسم الأول: يتناول الأبعاد النظرية للنظام العالمي الجديد، ويضم هذا القسم
ثلاثة أبحاث:
البحث الأول: للدكتورة (ودودة بدران) ، تناولت فيه الرؤى المختلفة للنظام
العالمي الجديد، من حيث هيكليته ومصادر التهديد فيه، ومسار التفاعلات الدولية،
وهل هو في اتجاه التكتل الاقتصادي الإقليمي أو الاعتماد المتبادل، وتحديد
انعكاسات النظام على إمكانيات العمل الجماعي العالمي، ومكانة الدول النامية في
النظام العالمي الجديد.
ويؤخذ على تحليل الدكتورة (ودودة) الاقتصار على التصورات الغربية،
وعدم تناول رؤى مفكري العالم الإسلامي وباحثيه للنظام العالمي الجديد، وهذا دأب
جل الدارسين في البحوث السياسية الحديثة.
أما البحث الثاني، الذي قدمه الدكتور (عبد المنعم المشاط) : فإنه أيضاً تناول
مسألة هيكلية النظام الدولي الحالي وخصائصه، فبالنسبة لهيكل النظام الدولي
الحالي: فإنه يصفه بأنه (تعددية قطبية قيد التشكيل) ، حيث يستبعد مقولة أن
(الولايات المتحدة) هي قطب القوة الوحيد في العالم؛ وذلك لأنها لم تعد المركز
الوحيد لعملية صنع القرارات الدولية، فضلاً عن أن مفهومها للأمن ليس مفهوماً
عالميّاً، وإنما هو مفهوم (أمريكي) صرف، يرتبط بحماية المصالح الأمريكية في
الداخل والخارج، ويرى أنه إلى جانب (الولايات المتحدة) ، توجد قوى أخرى
تسعى لبناء قدرات عسكرية خاصة بها، ك (اليابان) ، و (ألمانيا) ، خصوصاً بعد
زوال القيود الدستورية التي كانت مفروضة على الدولتين بخصوص التسلح أو
ممارسة نشاطات عسكرية خارج إقليميهما.
أما الخصائص فنذكر منها:
1- نمو كثافة الصراعات العرقية.
2- التحول إلى تكتلات اقتصادية كبرى كالسوق الأوروبية الموحدة و (آسيا) ..
3- تضاؤل أهمية الأحلاف في السياسة الدولية.
4- تدهور الدور الأساسي للمنظمات الإقليمية.
البحث الثالث: للدكتور محمد السيد سليم، وعنوانه: (الأشكال التاريخية
للقطبية الواحدة) ، سلم فيه بداءة بأن النظام الدولي الحالي أحادي القطبية، حيث
تسيطر على بنيان النظام الدولي: (الولايات المتحدة) وشركاؤها أعضاء حلف
(شمال الأطلسي) ، وللتعرف على المستقبل المتوقع لهيكلية القطبية الواحدة، فإنه
قام بتتبع الأشكال التاريخية لنظام القطبية الواحدة باعتبار أن التاريخ هو معمل
التجارب بالنسبة للظواهر الاجتماعية، فاستعرض أربعة نماذج تاريخية لهيكلية
القطبية الواحدة، وخلص الدكتور سليم إلى أن النظام العالمي الحالي هو نظام مؤقت؛ إذ سرعان ما ستتولد بل تولدت بالفعل قوى أخرى منافسة تسعى لموازنة قوة
الدولة المسيطرة، ومن هذه القوى: الاتحاد الأوروبي الذي يتجه إلى الاستقلال عن
(الولايات المتحدة) في الأجل المتوسط.
القسم الثاني: يتناول دور القوى الكبرى في النظام العالمي الجديد، ويتضمن
هذا القسم ثلاثة أبحاث:
تناول البحث الأول منها الذي قدمته د. (نهى المكاوي) مسألتين: الأولى:
مقومات القوة لدى (الولايات المتحدة) ، بجوانبها الاقتصادية والتقنية، وخلصت إلى
وجود تدهور في هذه القوة مقارنة بنظيرتها في (اليابان) و (ألمانيا) ، بينما ترجح
كفة (الولايات المتحدة) في الميدانين السياسي والعسكري.
البحث الثاني: وهو للدكتور (طه عبد العليم) ، يتناول فيه دور (روسيا) في
النظام العالمي الجديد، ومحددات هذا الدور، حيث أشار الباحث إلى أن الدور
(الروسي) سوف يكون مقيداً بعدة اعتبارات، أهمها: حاجة (روسيا) إلى
المساعدات الاقتصادية الغربية، وربط الغرب هذه المساعدات بحدوث تحول كامل
في (روسيا) نحو الرأسمالية، وبالنسبة لمكانة (روسيا) العالمية: فإن الباحث يرى
أنه نظراً للتدهور الواضح في عناصر قوتها؛ فإنها لن تعود قوة عظمى مهيمنة
ومؤثرة في تشكيل النظام العالمي الجديد، وإن كانت ستظل تمارس دور القوة
الإقليمية القائدة في المنطقة التي تقع بها (الجمهوريات) التي استقلت عن (الاتحاد
السوفييتي) السابق، وقد يمتد هذا النفوذ إلى دول الجوار الإقليمي في شرق أوروبا
وغرب آسيا.
وقد أشار الباحث إلى مجموعة من البدائل أمام روسيا في النظام العالمي
الجديد، وهي: البديل الأوروبي، البديل الأوراسي، البديل الواقعي الذي يؤلف
بين البدائل السابقة.
ومع التسليم بما قاله الدكتور (طه) عن عوامل التدهور في قوة روسيا التي
تحول في رأيه دون بلوغ روسيا مصاف القوى العظمى، إلا أنني أعتقد أن عوامل
الضعف هذه لا تمنع (روسيا) من ممارسة دور مؤثر في قضايا خارج النطاق
الإقليمي لما كان يعرف بـ (الاتحاد السوفييتي) ، حيث هددت روسيا باستخدام حق
النقض (الفيتو) ضد أي مشروع قرار يعرض على مجلس الأمن مما لا توافق عليه. وتشارك روسيا الولايات المتحدة في رعاية عملية السلام الحالية بين العرب
وإسرائيل، ومفاد هذا كله: أن روسيا لم تقنع بمجرد أن تكون قوة إقليمية قائدة في
مجال نفوذها، وإنما تريد أيضاً أن تثبت حضورها قوةً عظمى في مناطق أخرى
من العالم.
البحث الثالث: وعنوانه: (القوى الصاعدة في النظام العالمي الجديد..
أوروبا واليابان) ، وهو للدكتورة (هالة سعودي) ، حيث تحلل ركائز القوة المتاحة
لكل من الاتحاد الأوروبي واليابان، ودور كل منهما في النظام العالمي الجديد، وما
إذا كان ممكناً أن يصبحا قطبين أساسين في هذا النظام، وقد خلصت الباحثة إلى
نتيجة مفادها: تصاعد القوة الاقتصادية لكل من الاتحاد الأوروبي واليابان، ودللت
على ذلك بعدد من المؤشرات الكمية، مثل: ارتفاع حجم ناتجها العام، ومتوسط
دخل الفرد، وارتفاع معدل النمو، وترى الباحثة أنه رغم هذا الازدهار لعناصر
القوة، إلا أنه توجد صعوبات تحول دون ترجمة هذه العناصر إلى قوة عسكرية
فعالة، ومن ذلك: القيود الدستورية في اليابان، وتعدد نظم التدريب والتسليح في
جيوش الجماعة الأوروبية، ولكن هذا لا يعني أن هاتين القوتين ستكونان غائبتين
عن مسرح السياسة الدولية؛ إذ أنهما ستلعبان دوراً قياديّاً في القضايا التي لا
يقتضي حسمها استعمال القوة العسكرية، فضلاً عن الدور القيادي في الإقليم المحيط
بكل منهما.
القسم الثالث: يركِّز على دور النظم الفرعية والمنظمات الدولية في النظام
العالمي الجديد، ويتضمن هذا القسم ثلاثة أبحاث:
البحث الأول عنوانه: (النظم الإقليمية في إطار النظام العالمي الجديد) ،
وهو للدكتور (جمال زهران) ، تناول فيه وضع النظم الإقليمية في ظل هيكلية
القطبية الواحدة الحالية، ويقصد بالنظم الإقليمية: شبكة العلاقات والتفاعلات في
منطقةٍ ما تحدد على أساس جغرافي، وقد قام الباحث بتقسيم هذه النظم وفقاً لعلاقتها
بالنظام العالمي الجديد إلى: (نظم محتكرة) ، وأخرى (تنافسية) ، وقد ركز الباحث
على النظام الإقليمي لأوروبا الشرقية، والنظام الإقليمي لأمريكا اللاتينية، والنظام
الإقليمي الآسيوي، والنظام الإقليمي العربي.. مبيناً آليات تأثير النظام العالمي على
دورها، ويرى الباحث أن مسألة استمرارية هذه النظم الإقليمية تتوقف على مدى
تماسكها الداخلي، وتوافر قائد إقليمي، والقدرة على الحركة والمناورة في النظام
العالمي.
البحث الثاني: (الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد) ، وهو للدكتور (حسن
نافعة) ، يتضمن البحث تقييماً عامّاً لدور الأمم المتحدة في النظام الدولي، في ظل
هيكلية القطبية الثنائية، وبين أن المنظمة العالمية بهيكلها التنظيمي الحالي
وإمكاناتها الحالية تواجه مشكلتين مهمتين، كلتاهما من مخلفات حقبة الحرب الباردة، ألا وهما:
1- عدم استكمال الترتيبات الخاصة بنظام الأمن الجماعي، وخصوصاً ما
يتعلق منها بإعمال المادة (43) .
2- تضخم بيروقراطية الأمم المتحدة على نحو بات يشكل عبئاً ماليّاً كبيراً
على ميزانية المنظمة، ويقترح الباحث في ختام بحثه إجراء إصلاح هيكلي لهذه
المنظمة العالمية يتمثل في ضرورة حدوث توازن بين دور الجمعية العامة ودور
مجلس الأمن، وذلك في إطار نظام مؤسسي يقوم على فصل السلطات التشريعية
والتنفيذية والقضائية، وتحديد قواعد التوازن والرقابة المتبادلة بينهم.
والحقيقة: أن مقترحات الدكتور (حسن نافعة) ما هي إلا أمنيات غير واقعية؛
فالأمم المتحدة ليست حكومة عالمية حتى ينادى بإصلاحها، وإنما هي منظمة تعكس
حقائق القوة في عالم اليوم أكثر من كونها جهازاً لإعمال الشرعية الدولية. إن
إصلاح الأمم المتحدة يجب أن يبدأ بإجراء إصلاحات هيكلية في الدول الأعضاء
وفي المنظومات الإقليمية، بشكل ينتهي إلى ظهور قوى دولية فاعلة وموازنة
للولايات المتحدة، ولها إسهاماتها المالية الكبيرة في ميزانية الأمم المتحدة، وتنسق
فيما بينها في عملية التصويت في الأمم المتحدة، وعندئذ يكون من السهل إصلاح
الأمم المتحدة، بشكل يجعلها أكثر تمثيلاً لإرادة المجتمع الدولي! .
المبحث الثالث: (حركة عدم الانحياز والنظام العالمي الجديد) ، للدكتور
(محمد عز الدين عبد المنعم) ، يتناول مسألتين، هما:
1- كيف يمكن لحركة عدم الانحياز أن تكتسب إمكانية التأثير على صياغة
نظام عالمي جديد والتعامل معه بكفاءة؟
2- تحديد نقاط الضعف الكامنة في حركة عدم الانحياز، التي تعوقها عن
المشاركة الفعالة في صياغة النظام العالمي الجديد، ومن أبرزها: تكاثر حجم
المشكلات الداخلية لدى الدول الأعضاء، التفاوت المضطرد لمراحل النمو بينهم،
تفاقم المنازعات بين دول الحركة، وتخلف قطاع السياسة الخارجية لدى كثير من
دول الحركة، افتقار هذه الحركة إلى إطار تنظيمي كفء، تعدد تجمعات العالم
الثالث دون صيغة دقيقة ومتفق عليها للتنسيق بين هذه التجمعات، كـ (مجموعة
الـ 15) و (مجموعة الـ 77) .
وإنني أرى فيما يتعلق بأسباب ضعف الحركة أن الباحث قد أغفل السبب
الأهم الذي أدى إلى أفول نجم الحركة، وهو ليس فقط منذ ظهور ما يسمى بالنظام
العالمي الجديد، بل أيضاً منذ منتصف السبعينات وحتى الآن، ألا وهو دخول عدد
كبير من الدول الأعضاء في ترتيبات أمنية مع القوى العظمى، أخذت أحياناً مسمى
(اتفاقيات التعاون الأمني والصداقة) ، ورغم أن دول الحركة لم تكن أعضاء بشكل
رسمي في الأحلاف القائمة، إلا أنها كانت تخدم استراتيجية هذه الأحلاف، من
خلال ما تقدمه لها في أراضيها من تسهيلات عسكرية؛ مما أدى إلى تقويض
الأساس الذي بنيت عليه الحركة، وأعتقد أنه لم يعد مجدياً الآن ولا منطقيّاً
الاستمرار في تنظيمٍ فَقَدَ مسوغات وجوده بانتهاء الحرب الباردة؛ فإن من الأفضل
تحري أسس جديدة لإعادة بناء مثل هذا التكتل؛ ليلعب دوراً فعالاً في إصلاح النظام
الدولي.
القسم الرابع، وعنوانه: (الأبعاد الفكرية والمستقبلية للنظام العالمي الجديد) ،
وقد قام بإعداده كل من الدكتور (محمد سيد سليم) ، والدكتور (محمد سيد سعيد) ،
ويتناول هذا القسم مسألتين:
الأولى: تتعلق بالمفاهيم السياسية في إطار النظام العالمي الجديد، حيث أشار
الدكتور (محمد سليم) إلى أن التحولات الدولية قد تركت آثاراً واضحة على مضامين
المفاهيم السياسية ودلالاتها، وظهور مفاهيم جديدة.
الثانية: احتمالات التطور المستقبلي للنظام العالمي الجديد، حيث أورد
الدكتور (محمد سيد سعيد) ثلاثة محددات مباشرة للتطور المستقبلي للنظام العالمي،
وهي: درجة استقرار موقع الهيمنة، والتوترات المتصلة بعولمة الاقتصاد، وأزمة
التكيف المؤسسي مع تفجر الخصوصيات الثقافية بكل أشكالها، وأشار إلى أن
النظام الدولي الحالي قد يتطور إلى واحد من الأشكال الأربعة الآتية: نظام دولي
هرمي، نظام كتلي متوازن، نظام كتلي فوضوي، نظام مشاركة عالمية، وقد
استعرض الباحث كلاّ منها بالتفصيل.
وهكذا.. من خلال الأبحاث العلمية والدراسات التحليلية التي يضمها هذا
الكتاب بأقلام عدد من المتخصصين يتاح للقارئ الوقوف على هيكلية النظام الدولي
في الماضي والحاضر، والمستقبل المتوقع له.
وقد تميز الكتاب بالعرض السلس المبسط للموضوع، والتغطية الشاملة
المتوازنة لعناصره، ومن ثم: فإنه يمثل إضافة قيمة للمكتبة العربية فيما يتعلق
بالدراسات السياسية، وإن كان كما أسلفت تفتقد أبحاثه للرؤية السياسية الإسلامية،
وهذا قصور ولا شك [**] .