مقال
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
تنبه المراقبون والباحثون الغربيون مؤخراً إلى أن تغلغل النفوذ الإسلامي بين
فئات الشعب المختلفة ليس أمراً اعتباطياً أو مجرد تحركات تحكمها العاطفة نحو
الدين، وإنما هو محصلة استراتيجية جديدة أطلق عليها (أوليفيه روا) عدة مسميات
منها: استراتيجية قرض المجتمع في العمق أو في الداخل، أو السيطرة مجدداً على
المجتمع عبر العمل الاجتماعي أو سياسة تثمير العمل الاجتماعي على صعيد
العادات والممارسات وعلى صعيد الاقتصاد، وأخيراً استراتيجية (النطاقات
المؤسلمة) على غرار المناطق المحررة، كما كان الحال لدى حركات التحرر في
الماضي [1] .
لاحظ (روا) ، وغيره من الباحثين الراصدين لتطورات الحركة الإسلامية أن
هذه الحركة في جملتها، باستثناء بعض فصائلها ومجموعاتها المتشددة، قد غيرت
من استراتيجيتها واتخذت تعبيراً جديداً محافظاً متلوناً أعادت فيه ترتيب الأولويات؛
ليصبح (الاجتماعي) أولاً يتلوه (السياسي) أو يصحبه أو يتباعد عنه مؤقتاً، مع عدم
اللجوء إلى أي تشكيك في الدولة، فالهدف هو عودة الناس إلى ممارسة الإسلام على
أن يرافق ذلك حركة اجتماعية من (تحت) ، دون المرور بالدولة والسلطة، أي
أسلمة المجتمع من جديد عبر (القاعدة) ، وليس عبر (القمة) ، وبمعنى آخر: أن
الحركة الإسلامية قد حولت خطابها من خطاب حول (الدولة) إلى خطاب حول
(المجتمع) .
يرصدون عمل الإسلاميين لماذا؟
رصد الباحثون الغربيون الاختراق الإسلامي للجامعات وللانتخابات الجامعية
والمصانع والإدارات الذي ابتكر (لحُمة) مجتمعية أوهنها ضعف شبكات التضامن
التقليدية: (نواد، مكتبات، دروس مسائية، تكافل وتعاون اجتماعي) ، فاسترجعوا
ما طوره الإسلاميون في الأربعينات من شبكات المدارس والمستوصفات وحتى
الصناعات الصغيرة، وما أنشؤوه من فروع طلابية ومهنية موجهة نحو المهن
الحديثة (محامون، مهندسون، أطباء، معلمون، موظفون) ، وفروعاً عمالية
شجعوا فيها العمل النقابي.
كما رصدوا كذلك سيطرة الإسلاميين على النقابات المهنية (للمهندسين،
والأطباء، والمحامين) ، وعلى المؤسسات المالية، وأن الإسلاميين ما عادوا
ينظرون إلى العلاقات الاجتماعية والاقتصاد على أنها مجرد أنشطة ثانوية، تُصنّفُ
في خانة أعمال التقوى أو أداء فرائض الشرع، بل أصبحوا يعتبرونها ميادين أساساً.
راقب الباحثون الغربيون جهود الإسلاميين من أجل إعادة التأهيل المجتمعي
سواء في المدن أو في الأحياء الشعبية وما استتبع ذلك من تأسيسهم لنواد رياضية
ولتعاونيات تعاضدية ومؤسسات للترويح، وأخرى للحد من غلاء المهور وللرعاية
الطبية، كما راقبوا جهودهم في فصل الجنسين في النطاق العمومي وإفراد نطاقات
خاصة للنساء في المساجد، والأماكن العمومية، واختراع زي جديد خاص (نقاب،
قفازان، معطف) ! ! ، وبمعنى آخر انخراط المرأة الجديد في الدورة الاجتماعية،
كما رصدوا رفض الإسلاميين وسائل التسلية والفنون واللهو الخليع وتصميمهم على
إزالة مواقع المتعة الرخيصة كالمراقص ودور السينما و (الكبريهات) ، هذا بخلاف
نشرهم للأدبيات التي تقدم حقائق بسيطة وضرورية للناس عن الإسلام في صورة
موعظة وتبكيت ولوم، كل ذلك على أساس العودة إلى ما هو جوهري: العبادة
وخشية الله.
دوافع الإصلاح الإسلامي:
لم تكن هذه الأنشطة وغيرها ذات الطابع الاجتماعي مبعثرة بلا ضابط ولا
رابط، وإنما تقولبت في إطار ذي مسارين:
الأول: الإصلاح الفردي بالدعوة.
الثاني: إنشاء نطاقات مؤسلمة.
يتمحور الإصلاح الفردي حول العادات ويأخذ شكل الممارسة الفردية للدعوة،
فالدعاة يبلغون دعوتهم من بيت إلى بيت، وهنا تلتقي الحركة مع بعض الجماعات
العاملة بالدعوة منذ زمن بعيد تلتحم معها وتخترقها وتغلغل فيها أفكارها، فتصحح
لها أخطاءها ومفاهيمها وتغير من أساليبها وتضمها إليها.
يعظ الدعاة الناس أو يوبخونهم لتناسيهم عباداتهم مستفيدين من مُرَكّب
الإحساس بالذنب والاحترام المزود بالحنين الذي يكنه المسلم للدين رغم أنه لا يتقيد
بالفرائض ولا يؤدي العبادات ويحرص أن يقول: إنه مسلم، كما يستفيدون كذلك
من ربط الظروف التي يعيشها الناس من بؤس وتفكك قيمي أو عائلي باستجابتهم
لإغواءات المجتمع وممارساته البعيدة عن الإسلام.
أما عن النطاقات المؤسلمة: فهي إسلامية أو مؤسلمة إما بمصطلحات مكانية
محضة (كالأحياء والمدن) وإما بمصطلحات الممارسات والشبكات (كالمصارف
الإسلامية) ، ويستند هذا المحور على قاعدة أنه (لا بد من استباق المجتمع الإسلامي
والتحضير له بإتمام سيطرة مُثل الإسلام الأصيل على هذه النطاقات دون إقامة
سلطة سياسية أو دولة مضادة) .
وما أن تتكون هذه النطاقات وتصبح واقعاً حتى تسعى الدعوة إلى الحصول
على مباركة الدولة لهذا الأمر الواقع للتوسع به بعد ذلك والتمدد بالمبادئ التي
تتأسس عليها النطاقات الإسلامية إلى المجتمع بأسره.
في هذه النطاقات المؤسلمة تشجع النساء على ارتداء الحجاب ويحظر فيها
تعاطي المشروبات الكحولية ويُرفض الاختلاط بين الجنسين وتُبذل جهود حثيثة
لترقية أخلاقيات المجتمع عبر مكافحة القمار والملاهي والأفلام الإباحية وأحياناً
الموسيقى والمخدرات والجنوح، وهناك محور آخر هو العمل على تكييف الحياة
اليومية مع الشعائر الإسلامية (ضمان مواقيت الصلاة خلال ساعات العمل والطعام
الحلال) .
وأخيراً العمل الحثيث على تكييف النظام المدرسي مع الإسلام بحظر مواد
التدريس التي تتناقض مع الإسلام، وبمنع الاختلاط؛ وما إلى ذلك.
ما الهدف المقصود من كل ذلك؟
خلاصة القول: أن الهدف هنا هو إقامة مجتمع مصغر يكون مسلماً حقاً في
إطار مجتمع لم يُعَدّ أو لم يصبح بعدُ مسلماً.
تتحول هذه النطاقات المؤسلمة فيما بعد إلى مناطق نفوذ، ومن هنا تأتي أهمية
استراتيجيات السيطرة الانتخابية في الانتخابات المحلية.
إصلاح العادات إذن مسألة مركزية لكنها ليست الهدف الوحيد، فهذه النطاقات
المؤسلمة، تخترقها شبكات التعاضد والتكافل الاجتماعي والاقتصادي التي تعوض
عن قصور الدولة، فتمتد إلى أنشطة أخرى كتخصيص حافلات غير مختلطة
والمساعدة في إعارة المحاضرات الجامعية وطبعها وتوزيع الكتب والأدوات
المدرسية على الطلاب، وتأسيس أسواق إسلامية تواجه غلاء الأسواق الرسمية
وهكذا ...
استراتيجية الأسلمة:
ترتكز استراتيجية الأسلمة هذه على عدة قواعد أساس يمكن اختصارها على
النحو التالي:
1- التفرقة بين ما هو (مسلم) وما هو (إسلامي) ، فإنه لا يكفي أن يكون
المجتمع مؤلفاً من مسلمين، بل ينبغي أن يكون إسلامياً في أسسه وبنيته.
2- أن القضية ليست مجرد بعث لمثال أمة المؤمنين الأولى في زمن النبي -
صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين الأربعة فحسب، ولكنها السعي الحثيث
لتطبيق الشريعة أيضاً، لإقامة المصلح والرقيب ضد الفساد في المجتمع، وضد
إهمال النصوص الشرعية، وضد الاستعمار وهيمنة الأجنبي والانتهازية السياسية
وانحراف العادات وتغرب المثقفين.
هذه الشريعة هي المصدر الوحيد للقانون وهي معيار السلوك الفردي ومحور
العلاقات الاجتماعية، إنها ليست مجرد قائمة بأسماء الفرائض والمحرمات ولكنها
شريعة حركية فاعلة مُستَبْطنَة ومُعَاشَة، تقفل الدائرة فلا يكون هناك فصل بين ما
هو ديني وما هو سياسي وقانوني واقتصادي واجتماعي.. إلخ.
3- أن الهدف البعيد هو قيام دولة جامعة وجسم اجتماعي شامل يُنظر إليه
كأمة دينية ضد تفرد الدولة وضد تشرذم المجتمع وضد المجتمع القبلي القديم وضد
المحسوبية والفساد والرشوة والسلطة ذات المقومات غير الإسلامية.
4- أن الإسلام نظام كامل وجامع لا حاجة له إلى أن (يَتَحَدْثن) أو (يتكيف)
رغم أنه يطبق نموذجه على مجتمع حديث، ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى استعادة
عهد (النبوة) واسترجاع استلهام التقوى والتطهر، فإنه يستهدف الاستيلاء على كل
ما هو (حديث) واستيعابه داخل الهوية المستعادة، فهو يسعى إلى التنمية الصناعية
والعمران المدني ومحو الأمية على مستوى جماهيري، وتحصيل العلوم لصالح
المسلمين جميعهم تحت شعار: الشريعة زائد الكهرباء.
ويشهد (روا) على تكيف الإسلاميين المذهل مع متطلبات العالم الحديث
والمدني بدءاً باستخدام التقنيات الحديثة من السلاح إلى وسائل الاتصال وصولاً إلى
تنظيم المظاهرات.
5- أن التمايز الاجتماعي نتاج أساس وقاعدي فيما يسمى بالخطاب الإسلامي
الموجه إلى مجموعات نوعية مختلفة كالفلاحين والطلاب والعمال والعسكريين،
والمرأة التي ينظر إليها على أنها كائن وليست مجرد أداة للمتعة والإنجاب تمارس
دوراً أساساً في تربية المجتمع وتنخرط في دروته الاجتماعية.
وتدرك هذه الاستراتيجية تماماً أنها تتعامل مع جماهير (تناصرها) أصلاً لكنها
ذات خصائص وسمات لا بد من وضعها في الاعتبار عند مخاطبتها، كما تدرك
أيضاً أنها تواجه قطاعات ترى في (الخطاب) الإسلامي تهديداً لوجودها ومصالحها.
أما عن الجماهير، فهناك جماهير المدن التي تحيا في ظل قيم المدينة الحديثة
(الاستهلاك والترقي الاجتماعي) والتي غادرت بمغادرتها القرية، أشكال التآلف
والتواصل القديمة واحترام المسنين والإجماع، إنها مفتونة بقيم الاستهلاك التي
تعرض في واجهات المحلات في الحواضر الكبرى، وعالمها هو عالم السينما
والمقاهي والجينز ومسلسلات التلفزيون والفيديو ... في الوقت الذي تحيا فيه في
ظل هشاشة المهن الصغيرة والبطالة وتعاني الحرمان في مجتمع استهلاكي ليس في
متناولها. وهناك الشباب الذي لا يقدم له المجتمع أي مستقبل ويحيا في اختلاط
مفرط قياساً إلى ما كان سائداً في المجتمع التقليدي سواء في المدارس والجامعات
والسكن والنقل المشترك بالإضافة إلى ما يبثه التلفزيون والقنوات الفضائية وأعمدة
الالتقاط من نماذج للتحرر الجنسي والأفلام والمجلات، وكذلك التجارب والروايات
عن الحياة في الغرب.
وهناك جماهير القرى في بعض البلدان حيث لا تجد الشعارات الإسلامية لها
صدى في الأرياف ويسيطر عليها ما يسمى (بالإسلام الشعبي) ذي النمط (الصوفي
الكراماتي) الممزوج بالسحر والعادات والأعراف التي تعود إلى حقبة ما قبل الإسلام، ... ولا تعرف هذه الجماهير من علماء الدين إلا ما ندر، لكن الرصد الغربي لهذا
المسار كشف أن البعث الإسلامي قد تغلب على هذا الإسلام الشعبي واتجه إلى ما
عرّفوه (بالعلم الشعبي بالإسلام) ، وقد ظهر لهم ذلك جلياً في (أفغانستان) ، وآسيا
الوسطى السوفياتية.
عراقيل في الطريق:
أما عن القطاعات المعرقلة لهذه الاستراتيجية فهناك قطاع من العلماء الذين
يؤخذ عليهم طواعيتهم وانصهارهم في ما يؤدي بهم إلى القبول بالعلمانية وبقوانين لا
تتفق مع الشريعة، وإصدارهم فتاوى تصدم وتخالف ما استقر في حس الناس بأنه
من الإسلام، هذا: بالإضافة إلى إقرارهم بإجراء تسوية مع الحداثة الغربية وظهر
ذلك في قبولهم بفصل (الديني) عن (السياسي) مما يؤدي حكماً وبالضرورة إلى
العلمنة.
وهناك أيضاً قطاع المثقفين المتغربين الذين يقبلون مهما كانت مواقفهم
السياسية بفكرة المعرفة العقلية الحديثة الشمولية غير المرتبطة بالدين، وتضم هذه
القطاعات أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين وكتاباً وشعراء وفنانين وصحفيين
يحملون أسماء إسلامية وبعضهم محسوبون من علماء المسلمين.
يعمل هذا القطاع على خلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب في صورة
بحث وعلم وأدب وفن وصحافة، ويهوِّن من شأن العقيدة والشريعة، ويؤولها
ويُحمّلها ما لا تطيق، ويدق باستمرار على ادعاء (رجعيتها) ، ويدعو للتفلت منها
وإبعادها عن مجال الحياة، ويبتدع تصورات ومُثُلاً وقواعد للشعور والسلوك تناقض
وتحطم تصورات العقيدة ومثلها، ويزين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويهه
للتصورات والمثل الإيمانية كما لاحظ ذلك مفكرو جيل الستينات.
خلاصة أطاريح (روا) :
بقي أن نشير إلى النتائج إذ يرى (روا) أن قيام ما يسميه: (الجيوب
الإسلامية) يتم حسب الأوساط الاجتماعية والمناطق أكثر مما يتم حسب البلدان،
فحيث كانت الظروف الاجتماعية والتقاليد مواتية للإسلاميين، استطاعوا أن
يفرضوا مطالبهم دون أن يكون بوسع الدولة أن تعارضهم ولو بكلمة، وأكثر
المناطق تقبلاً لهذه الجهود هي الأحياء الشعبية في المدن الكبرى ومناطق الأقليات
المسلمة في الدول الغربية.
وتسهم هذه الاستراتيجية إلى حد بعيد في إبراز قدرة الإسلام على الحشد
والتعبئة خاصة حينما تكون هناك مواجهة مع آخر يتخذ موقفاً من الإسلام،
فباستثناء ما يحدث في حالة الجهاد التي تحمل الشبان على خوض الحرب غير
عابئين كلية بأي سياق مؤسسي أو سياسي أو عرقي، كما أكد (روا) ، فهناك مواقف
مواجهة بالداخل أفقدت المثقفين العرب صوابهم وجعلتهم يقولون بالحرف الواحد:
(لا شك أن لدى التقدميين والمستنيرين والعلمانيين الكثير مما يمكن تعلمه من قدرة
الجماعات الإسلامية على الحشد والتعبئة وضمان إطاعة القواعد الجماهيرية للأوامر
الصادرة من المستويات العليا) [2] .
وللبيان كلمة:
لا شك أن الباحث الفرنسي (أوليفيه روا) واحد من الكتاب المتميزين في
طروحاتهم لا سيما في حديثه عن الصحوة الإسلامية، ويعتبر من أميز الكتاب
لموضوعيته، ولكن يبقى أن ما يطرحه في هذا البحث ينقصه المنهجية الإسلامية
الصحيحة التي يفترض إلمامه بها فضلاً على أن الرؤية مهما كانت موضوعية ففيها
نوع من الرجم بالغيب ومحاولة تحميل الأنشطة الإسلامية ما لا تحتمل مما يجعله
يسهم عَلِمَ أو لم يعلم في تقوية الموقف السلبي من الصحوة القائم في كثير من البلدان
ضدها؛ وفاقد الشيء لا يعطيه!