من قضايا المنهج
(2من2)
بقلم: د.محمد أمحزون
تناول الكاتب في الحلقة الأولى أهمية التعاطي الواعي مع سنن الله في
التاريخ والاجتماع والتماس معالم المنهج الإسلامي في ذلك، وتعرض الكاتب إلى
تفاعل السنن الإلهية وأسلوب عملها وأثرها في المجتمعات، وبين أنها مرتبطة
بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، ثم فصّل الكلام عن: الابتلاء والتمحيص
والتمكين، ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع.
سنن: التغيير، التداول، النصر:
من أهم دلالات سنة التغيير أن الله (عز وجل) لا يغير حال قوم حتى يبدلوا
ويغيروا ما بأنفسهم؛ فالتغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء والارتفاع إلى أعلى،
أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، فإذا وجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ إن حدوث التغيير من الله
(عز وجل) مترتب على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً [1] .
ونتيجة لذلك: فالتغيير في واقع الدعوة ومحيط الدعاة يتوقف على بذلهم ما في
الوسع؛ لتتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس،
ومن داخل الصف المسلم، ومن ثَمّ: تنفذ فيهم سنة الله (تعالى) في التغيير؛ بناءً
على تعرضهم لهذه السنة من خلال سلوكهم وأعمالهم: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] .
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في مكة يمثلون الجماعة التي
أخذت على عاتقها مسؤولية التغيير وحماية الحق الذي آمنت به، وإن كان من وراء
ذلك جفوة الأهل وسخط العشيرة وعذاب الملأ من قريش ونكالهم.
فلم يصرفهم الاضطهاد والفتنة عن أن يضطلعوا بأعباء الدعوة، ويسعوا
جاهدين إلى تغيير ما بأنفسهم وتغيير واقعهم من واقعٍ شركي إلى واقع إيماني،
فترى تغيير الأنفس في النماذج الكثيرة من الجيل الأول الذي ما إن يشهد أن لا إله
إلا الله، حتى يعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، ويقطع
العلائق والوشائج التي طالما وثقها حتى مع أقرب الناس إليه [2] .
وتلك الحال الإيمانية الحية التي تمت نتيجة المجاهدة للنفس والشيطان قد
أثمرت بالفعل تغييراً جذريّاً وانفصالاً كلياً عن الحياة السابقة، حيث انخلع المسلم
من البيئة الجاهلية وعُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، وتلألأت عقيدة التوحيد
في نفسه، وصار مع المؤمنين، مانحاً إياهم ولاءه وحبه.
وللتنبيه: فإن الفترة السابقة لمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- تعدّ من
أحلك الفترات في تاريخ البشرية وأكثرها ضلالاً وضياعاً؛ ولهذا استحقت المقت
من الله (تعالى) كما أخبر بذلك النبي: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم
عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) [3] .
فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة
والأنظمة المستبدة، وحياة الناس في قسم كبير منه هي أقرب إلى حياة السوائم منها
إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة، والقسم المتمدن منه وتمثله الدولتان العظميان، فارس والروم كان يخضع لنظام طاغوتي مستبد، ويدين بدين باطل محرّف،
والنظام الاجتماعي في كلتا الدولتين من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز
العنصري والتفاوت الطبقي [4] .
وأما عرب الجزيرة فهم في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى
الشعوب الهمجية [5] ، لولا ما خصهم الله (عز وجل) به من ميزات إرهاصاً لحمل
الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
والحاصل: أن العالم البشري كله كان يعيش حالة مزرية تحتاج إلى جهد
ضخم وعمل هائل لتغيير أوضاعه وعقائده وأنظمته، وانتشال الناس من هذا الواقع
المؤلم الرهيب.
فكان الإعداد لتلك المهمة الضخمة يبدو ظاهراً جليّاً في كل مرحلة من مراحل
الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جدّ ونَصَب وصبر وبلاء.
فمنذ نزلت [قُمْ فَأَنذِرْ] [المدثر: 2] ، قام النبي -صلى الله عليه وسلم-
قياماً جهاديّاً متواصلاً، نازل به قومه قريش والعرب قاطبة ثم اليهود والدولة
البيزنطية، فجاهد الناس بالقرآن: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] [الفرقان: 52] ،
كما جاهدهم بالحديد حين توفرت له شروط الجهاد حتى يستقيموا على دين الله:
[وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحديد: 25] .
وهذا ما أعلنه بقوله: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف؛ حتى يعبد الله وحده
لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف
أمري) [6] .
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدة إلى الرخاء، ومن
الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر، قال
(تعالى) : [إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]
[آل عمران: 140] .
وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال: 53] .
وهنا يضع الله (عز وجل) أيدينا على سر عظيم، وهو ارتباط المداولة بين
الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات
ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطة بهذا التغيير النفسي في مسارها
عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
يقول (رشيد رضا) (رحمه الله) في (تفسير المنار) : ( ... إن أنعم الله (تعالى)
على الأقوام والأمم منوطة ابتداءً ودواماً بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال
تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها، كانت تلك النعم ثابتة
بثباتها، ولم يكن الرب الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم
غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال
غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم) [7] .
وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم،
ويكون ذلك سبباً في انهيارهم وزوال ملكهم جزاء فسقهم وعصيانهم.
ومن أسباب الفتن وزوال النعم أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل،
والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله (عز وجل) بالسنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر،
ويجعل بأسهم بينهم.
أخرج ابن ماجه بسنده إلى عبد الله ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: إنّ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل علينا بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين!
خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها
إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ
المكيالَ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا خفر قوم العهد إلا سلط
الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل
الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم) [8] .
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلف النصر عنهم حين يتركون طاعة
الرسول أو يطمعون في الغنيمة كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة
العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل كما وقع في غزوة حنين.
وحينئذ تكون الدُولة والغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمة هي استكمال حقيقة
الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقق ذلك جاء النصر؛ لأن (الهزيمة في
معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما
إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة
وطبيعة العقيدة وطبيعة الطريق: فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد) [9] .
إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفيت الشروط، وأهمها: الاستقامة على
منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله، قال (تعالى) : [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] ، وقال (جل ذكره) : [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
المُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ]
[الصافات: 171-173] .
وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]
[الأنفال: 45- 46] .
ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت
الهزيمة؛ لأن سنن الله (تعالى) لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري
أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنّ الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم وشهادة
الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون:
سيغفر لنا! .. لا يستجيب الله (عز وجل) لهم حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله
في كتابه المنزل [10] : [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ
الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] الأعراف: 169 [.
وبناءً على ذلك، فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر
بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج
المحددة المطلوبة.
ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب سواءْ أتعلق
الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.
سؤال مهم: قد يتبادر إلى الذهن سؤال وجيه وهو: ماذا يحدث لو وافق
المسلمون السنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب
واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم تخطيطْا وتنظيمْا
وقوة؟
والجواب: إن المؤمنين حين يغيرون ما بأنفسهم ويستكملون أدوات النصر لا
يضرهم تفوق الأعداء عليهم؛ لأن سنة أخرى تتدخل وهي وعد الله بالتمكين
والنصر لعباده المؤمنين:] وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [] الروم: 47 [،
] وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [] النساء: 141 [،] إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ (غافر: 51) .
وقد يتأخر ويبطئ نصر الله لحكمة ما، لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا
محالة:] حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن
نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ [] يوسف: 110 [.