دراسات دعوية
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام)
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)
وهديهم؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم، والتعزي بما أصابهم،
والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم.
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله (تعالى) بالوقوف على ثلاثة
جوانب عظيمة من حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، هي في نظري من أهم
جوانب الاقتداء بهم (عليهم الصلاة والسلام) ، وهي كما يلي:
أولاً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في قوة العلم بالله (تعالى) ، وأثر
ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها
بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا
نحن المسلمين اليوم، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر، موضحاً
من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من
الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذا هو جهد المقل؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله (عز وجل) ، وما وجدت فيه
من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً.
الجانب الأول: من هديهم في قوة العلم بالله (عز وجل) ، وأثر ذلك في صدق
الإيمان وكمال التوحيد:
إن أعلم الناس بالله (عز وجل) هم أنبياؤه ورسله (عليهم الصلاة والسلام) ،
وهذا العلم به (سبحانه) وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة
والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله (عز وجل) ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف
بربه (سبحانه) كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له، والعكس
بالعكس.
وإن مما اختص الله (سبحانه) به رسله، ومما منّ به عليهم: تكميل هذا العلم
العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها.
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء
(عليهم الصلاة والسلام) ؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم، لكنه بذلك
يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها.
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي:
قول الله (تعالى) : عن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) في دعوته لأبيه:
[يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَاًتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً]
[مريم: 43] ، وقوله (تعالى) عن يعقوب (عليه الصلاة والسلام) : [ ... وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 68] .
وقوله (تعالى) عن يعقوب (عليه الصلاة والسلام) : [ ... قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ
إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [يوسف: 96] .
وقوله (تعالى) عن نوح (عليه الصلاة والسلام) أنه قال لقومه: [أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 62] .
وهذا موسى (عليه الصلاة والسلام) ، مع ما آتاه الله (عز وجل) من العلم
العظيم، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد.. وقصة سفره (عليه الصلاة
والسلام) إلى الخضر (عليه السلام) ليتعلم منه معروفة، وقد قصها الله (عز وجل)
علينا في كتابه الكريم، والشاهد منها قوله (تعالى) : [قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 66] ، وللشيخ السعدي رحمه الله
(تعالى) عند هذه القصة كلام نفيس، فليرجع إليه.
وقوله (تعالى) لنبيه محمد: [قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي
مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] [الأنعام: 57] .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول،
فُبلِّغ ذلك إليه، فخطب، فحمد الله، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء
أصنعه؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) [1] .
الآثار على نفوس الأنبياء: وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال
لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء (عليهم الصلاة
والسلام) ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله (عز وجل) وبأسمائه الحسنى وصفاته
العلا، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم.
ومن هذه الآثار ما يلي:
أولا: شدة تعظيمهم لله (عز وجل) وخوفهم منه:
فعلى الرغم من اصطفاء الله (سبحانه) لهم وحبه لهم وقربهم منه.. فإن هذه
المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة، وخوفاً منه (سبحانه) ، وخشية. وهذه
سنة الله (سبحانه) ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه، وخاف منه
(سبحانه) خوف المحب لحبيبه؛ خوفاً يقرب إلى الله (عز وجل) ، وخوفاً يهضم
العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم
والخطيئة والضعف، إن لم يوفق الله (تعالى) صاحبها ويعينه عليها.
وهكذا كان شأن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، والأمثلة في ذلك كثيرة، منها:
مناجاة نوح (عليه الصلاة والسلام) لربه بشأن ابنه:
وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود، حيث يقول الله (تعالى) : [وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ
الحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ]
[هود: 45-47] ، ويظهر من هذه الآيات علم نوح (عليه الصلاة والسلام) بربه (عز وجل) ، والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه (سبحانه) ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله: [وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ] ، ولم يقل: وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه (عليه الصلاة والسلام) بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين، ولذلك: ختم نوح (عليه السلام) دعاءه بقوله: [وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ] ، كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح (عليه السلام) من ربه، واتهامه لنفسه بالظلم، وطلبه المغفرة من ربه (سبحانه) ؛ وذلك في قوله: ...
[وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ] .. الله أكبر! ، هذا نوح (عليه السلام) الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه، وصبر وصابر، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه (سبحانه) : [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً] [نوح: 28] .
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين؟ ! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا
ظلماً كثيراً، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر،
ويطلب من ربه (سبحانه) أن يلحقه بالصالحين، وكأنه ليس منهم! ! .
يقول الله (تعالى) : [وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ
هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84)
وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا
تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء: 82 89] .
إذن: فما حالنا نحن المقصرين؟ ، ماذا عسانا أن نقول؟ ! ، إنه ليس أمامنا
إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق (رضي الله عنه) عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته، فقال:
(قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي
مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) [2] .
تعظيم نبينا محمد لربه (سبحانه) وخوفه منه:
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم (سبحانه) وخوفهم منه ببعض
الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين، وقد غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو كما قال عن نفسه: (فوالله
إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) [3] ، ومما ورد عنه في هذا الشأن:
عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) [4] ؛ ولذلك: ما رؤي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- مستجمعاً ضاحكاً قط؛ إنما كان يتبسم.
عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به،
وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) ، قالت: وإذ تخيّلت السماء
تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرّي عنه، فعرفت ذلك
عائشة؛ فسألته، فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً
مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ] ) [5] .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر، فكأنما يفقأ في
وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: (بهذا أمرتم؟ ، أو لهذا خلقتم؟ ، تضربون
القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم) [6] .
ثانياً: كثرة ذكرهم لله (عز وجل) وشدة تضرعهم ودعائهم له (سبحانه) مع
قوة عبادتهم:
وهذا الجانب من هديهم (عليهم الصلاة والسلام) ثمرة من ثمار الإيمان الصادق
والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله (عز وجل) وتعظيمهم له، والمتأمل في
هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة
المختارة من عباد الله، وهو يرى إخباتهم لربهم (سبحانه) وكثرة ذكرهم له،
وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل
ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو
دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم. نعم.. إن في ذلك لعبرة لمن جاء
بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين
الأخيار في كثرة ذكرهم لله (عز وجل) ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له
(سبحانه) مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل
والنهار، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم (سبحانه) والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته.
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة
الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب
العلم والدعوة إلى الله (عز وجل) ، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب (باب
التفريط) فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في
طريقه إلى الله.. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك، لعلها أن تشحذ الهمم
وتقوي العزائم، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها
داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب
الله، فيحصل مقت النفس في ذات الله (عز وجل) واحتقارها؛ الاحتقار الذي يؤدي
مع الاستعانة بالله (عز وجل) إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي:
* تضرعهم (عليهم الصلاة والسلام) إلى ربهم (سبحانه) وسؤاله قضاء حوائجهم:
ذكر الله (عز وجل) في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله (عليهم
الصلاة والسلام) ، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم،
ويتوسلون إلى الله (عز وجل) بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى
الله (عز وجل) . ومن ذلك قول الله (تعالى) : [وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] [الأنبياء: 83، 84] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله (تعالى) معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من
أيوب (عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار
الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له، والإقرار له بصفة الرحمة
وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته (سبحانه) ، وشدة حاجته هو وفقره،
ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7] .
وفي قوله (تعالى) : [وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] أي: إن في صبر أيوب (عليه
الصلاة والسلام) ودعائه عبرة للعابدين من بعده؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه
ويقينه.
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله (عز وجل) :
فبعد أن ذكر الله (عز وجل) مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم
بقوله (تعالى) : [أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] [مريم: 58] .
يقول الشيخ السعدي (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية: (فهذه خير بيوت العالم
اصطفاهم الله، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم،
المتضمنة للإخبار بالغيوب، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر،
والوعد والوعيد.
[خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً] أي: خضعوا لآيات الله، وخضعوا لها، وأثرت في
قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم) [8] .
وقوله (تعالى) عن يوسف (عليه الصلاة والسلام) أنه قال: [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي
مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] [يوسف: 101] .
يقول السعدي (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية: (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى
الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) عند هذه الآية أيضاً: (جمعت هذه الدعوة:
الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة
غير الله (سبحانه) ، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله
لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء) [9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول
ويردده؛ فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، فقلت: يا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قد آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ ، قال:
(نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) [10] .
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله (عز وجل) وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله
(عز وجل) ؟ .
* القوة في طاعة الله (تعالى) وعبادته:
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ،
حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله (عز وجل) ، يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية (رحمه الله تعالى) عند قوله (تعالى) : [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] [ص: 45] : وعن عطاء الخراساني: [أُوْلِي
الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] ، قال: أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين) [11] .
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) كثيرة، منها:
قوله (تعالى) على لسان إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) : [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ
الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] [ابراهيم: 40] .
وقوله (تعالى) في مدح إسماعيل (عليه الصلاة والسلام) : [وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ
بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً] [مريم: 55] .
وقوله (تعالى) في مدح إسحاق ويعقوب: [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ]
[الأنبياء: 73] .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً، مع أنه قد غفر
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة
بربه (سبحانه) وحبّاً وتعظيماً له، وهو الذي قال له ربه (سبحانه) : [يَا أَيُّهَا
المُزَّمِّلُ (?) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (?) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (?) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 1- 4] ، وهو الذي قال له ربه (عز وجل) : [وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً] [الإنسان: 26] ، وقال له: [.... فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً] [مريم: 65] ، وأكتفي بشاهد من أحواله
الكثيرة في عبادته وقوته فيها:
فعن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قام النبي حتى تورمت قدماه،
فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً
؟ !) [12] .
وأخيراً: فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله (عز وجل) ، وما سبق
ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله (عز وجل) ، ذكراً
وتسبيحاً ودعاءً وصلاة، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله (عز وجل)
[فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعويةوطلب
العلم في التفريط في هذا الزاد العظيم؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة،
والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم (عليهم الصلاة والسلام) ، ألا وهي: تجريد
التوحيد لله (عز وجل) وإخلاص العبادة له وحده.
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر،
وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له؟ .