من فتاوى أهل الذكر
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين،
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
فتاوى أهل العلم الأثبات هي عصارة علم المفتين وخلاصة فقههم، ومنارات
يسترشد بها، هي جواب عن نوازل ومستجدات، وباب لتبليغ دين الله (تعالى) ..
ونظراً لأهمية (الفتاوى) ، وتحقيقاً لرغبة القراء، فستقوم (البيان) إن شاء الله
(تعالى) بنشر جملة من الفتاوى المهمة، حيث روعي في اختيارها تنوّع
موضوعاتها، وعظم الحاجة إليها في هذا العصر، إضافة إلى تنوّع أصحابها زماناً
ومكاناً.
وفي هذا العدد ننشر فتوى للشيخ (العز بن عبد السلام) [1] (رحمه الله تعالى) ، في مسألة الوساوس والخطرات وسبيل علاجها.
سئل الشيخ (العز بن عبد السلام) (رحمه الله) هذا السؤال:
رجل مؤدٍّ لفرائض الله (عز وجل) ، حافظ لحدوده، سالك طريق الآخرة، قد
ابتلي بخواطر تخطر له، فمنها ما يشككه في (الخالق) (سبحانه وتعالى) ، ولا سيما
إذا جلس في خلوة للذكر، فتكثر هذه الخواطر عنده، ويفقد حلاوة الذكر، وهو
يكابد هذا الأمر نحو عشرين سنة، وكان في ابتداء هذا الأمر يشق عليه وجوده، ثم
صار إذا خطر له ذلك الخاطر لا يجد من نفسه تلك الكراهة، فما حكم هذه الخواطر
في الجملة؟ ، وما حكمها في وقت غفلته عن الكراهة، وبأي دواء يدفع هذا
الوسواس عنه؟ .
فأجاب (رحمه الله) :
ليست هذه الوساوس من نفس الإنسان، وإنما هي صادرة من فعل الشيطان،
ولا إثم على الإنسان فيها؛ لأنها ليست من كسبه وصنعته، ويتوهم الإنسان أنها من
نفسه، ولما كان الشيطان يحدث بها القلب، ولا يلقيها إلى السمع يتوهم الإنسان أنها
صادرة منه، فيحرج لذلك ويكرهه، من غير أن ينشرح له صدره، ولو كان منه
لانشرح له صدره، وقد قام بالوظيفة في كراهة ذلك، كما لو صدر ذلك من إنسان
فسمعه بأذنه فكرهه مع العجز عن إزالته، فكذلك كراهة ما يلقيه الشيطان في قلبه
هي الوظيفة في ذلك، إذ لا يقدر على دفع الشيطان عن الوسواس، كما لا يقدر
على دفع من يعجز عن دفعه من المضلين، وإنما خفّت الكراهة في ذلك في آخر
الأمر من جهة أن المعاصي إذا اعتيدت خفت كراهتها، ألا ترى أن أكثر الناس
يتركون الصلوات المكتوبات فلا تشتد كما تشتد كراهة الإفطار في شهر رمضان
بغير عذر؛ لأن ذلك غير معتاد، فخفة كراهة الوسواس كخفة كراهة ما اعتيد من
العصيان، كشرب الخمر وإتيان الذكور وغير ذلك من العصيان، وقد تقع معصية
صغيرة غير معتادة فتشتد كراهتها أكثر مما تشتد كراهة الكبائر المعتادة.. ولا
طريق لمثل هذا إلا الالتجاء إلى الله (تعالى) في دفع وسواس الشيطان، فإن غرضه
بذلك أن يوهم الإنسان أنه قد كفر وأن عبادته لا تقبل مع كفره، ليترك العبادة
والطاعة، فإذا عرف العبد أن ذلك صادر من الشيطان لهذا الغرض انقطع الشيطان
عن تلك الوساوس؛ إذ لا فائدة له فيها، فإذا عرف أنه لا يُلْتَفَتُ إليه سكن، إذ لا
فائدة لسعيه، وقد رأيت كثيراً من العبّاد الذين صح انقطاعهم إلى العبادة ابتلوا بمثل
هذا أو بأشد منه، فلما عرّفتهم بما ذكرته لم يلبثوا إلا قليلاً حتى أزال الله (تعالى)
عنهم كيد الشيطان؛ لانقطاع طمعه من فائدة سعيه، والله المستعان على دفع
الشيطان وعلى دفع مكائد نفس الإنسان [*] .