مجله البيان (صفحة 2455)

آراء وتأملات فى فقه الزكاة (3)

دراسات اقتصادية

آراء وتأملات في فقه الزكاة

(?)

د. محمد بن عبد الله الشباني

تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم الزكاة، ثم عرض أنواع الأموال

التي تجب زكاتها، بعد تناوله للمعنى اللغوي لكلمة (المال) ، ثم عرض ستة ضوابط

تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة، وفي هذه الحلقة يتناول بعض التفصيلات.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-

زكاة الأنشطة الزراعية:

يمثل القطاع الزراعي أحد المرتكزات الأساسية للنشاط الاقتصادي، فالثروة

الزراعية من أهم مصادر الدخل الذي يعتمد عليه مخططو التنمية الاقتصادية في

وضع الأسس والبرامج الخاصة بتحقيق النمو الاقتصادي.

لقد توسعت الأنشطة الزراعية، فظهرت منتجات زراعية تحقق دخلاً أكبر،

مثل: الخضروات، والفواكه والزهور، ويعود ذلك التنوع والتوسع إلى

استحداث وسائل وأنظمة فعالة في الإنتاج والتخزين والتسويق.

ويتكون الإنتاج الزراعي من قطاعات رئيسة، هي:

1- إنتاج الخضروات.

2- إنتاج المحاصيل الحقلية.

3- إنتاج الفاكهة.

إن ذلك التوسع والتنوع في الإنتاج الزراعي وتغير أساليب وأشكال التنظيم

الإداري للمزارع من حيث الملكية والتخصص الزراعي يستدعي دراسة أحكام

الزكاة فيما يتعلق بما استجد من منتجات، وبخاصة أن فقهاء المسلمين قد اختلفوا في

وجوب الزكاة لأنواع من المنتجات الزراعية، فمنهم من أوجب الزكاة في كل ما

تنتجه الأرض، ومنهم من قصره على أنواع معينة واستثنى بقية الأنواع، وكل

فريق يستند في رأيه إلى نصوص وقواعد شرعية، وهناك منتجات زراعية تحتاج

إلى دراسة حكم الزكاة فيها على ضوء الواقع المعاصر، مثل الخضروات والزهور، لا سيما وهي تحقق الآن عائداً اقتصاديّاً عالياً.

سبب الخلاف: إن سبب اختلاف العلماء حول زكاة المنتجات الزراعية يعود

إلى الاختلاف على مناط زكاة المنتجات الزراعية، فهل مناط الزكاة هو الأرض،

أو الزرع، أو مجموعهما؟ .

فجمهور الفقهاء يقول: إنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة، أي: الزروع، أما

الإمام (أبو حنيفة) فذهب إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب، وهو الأرض،

أما (محمد بن رشد القرطبي) فيرى أنه حق لمجموعهما، أي: للأرض

والزرع [1] .

تترتب على هذا الاختلاف في النظر في مناط الزكاة أحكام شرعية، مثل:

حكم ضياع الزكاة وهلاك بعض المال قبل الإخراج، أو موت المكلف الذي لم

يخرج الزكاة، أو عند بيع المنتج الزراعي وقد وجبت فيه الزكاة، فعلى من تقع

الزكاة، على البائع أم على المشتري والوارث؟ ، وكذلك في حالة الهبة، هل هي

على الواهب أو الموهوب له، أما ما تجب فيه الزكاة من الإنتاج النباتي فقد اتفق

العلماء على وجوب الزكاة في أربعة أصناف، من الحبوب: الحنطة، والشعير،

ومن الثمر: التمر والزبيب [2] .

إن السبب في الاختلاف حول زكاة المنتجات النباتية يعود أولاً إلى جنس

النبات، ووفقاً لذلك: فقد قصر بعضهم الزكاة على الأصناف الأربعة السابقة، وقال

بهذا (ابن أبي ليلى) ، و (سفيان الثوري) ، و (ابن المبارك) [3] ، ومنهم من أوجب

الزكاة في جميع المنتجات النباتية المدخرة المقتاتة، وهذا هو قول (مالك) ،

و (الشافعي) ، ومنهم من أوجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض، ما عدا الحشيش والحطب والقصب، وأخذ بهذا الرأي (أبو حنيفة) [4] .

علة الاختلاف: وعلة هذا الاختلاف يرجع إلى متعلق الزكاة: هل هو فقط

للأصناف الأربعة بعينها، أو إنه يتعدى إلى غيرها إذا وُجدت العلة فيها؟ .

ولهذا: فمن قصر العلة على الأعيان فقد قصر الزكاة على الأصناف الأربعة، ومن قال بأن العلة هي الاقتيات، فقد أوجب الزكاة في جميع الأشياء المقتاتة،

ولكن من اعتبر أن العلة ليست الاقتيات وإنما متعلق الزكاة هو بالأرض، فقد

أوجب الزكاة في جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع، مثل:

الحشيش، والحطب، والقصب، وقد خالف بهذا المنهج القياسي، وأخذ بعموم

اللفظ مستشهداً بقول الرسول: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر،

وفيما سقي بالنضح نصف العشر) [5] ، واعتبر حرف (ما) الوارد في الحديث

بمعنى الذي، و (الذي) من ألفاظ العموم.

وقوله (تعالى) : [وَهُوَ الَذِي أََنشَأََ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ

وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ

وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] .

أما من أخذ بالقياس وجعل العلة الاقتيات: فقد فهم من هذا العموم ومن

(الزكاة) أنما قصد منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالباً إلا فيما هو قوت، أما من

غلّب العموم فإنه يوجبها قياساً على جميع ما تخرجه الأرض إلا ما أخرجه ...

الإجماع [6] .

وقد أدى ذلك إلى عدم إيجاب الزكاة في الخضروات؛ بحكم أنها غير مقتاتة

ممن يرى أن علة الزكاة هو الاقتيات، وبالتالي: فإن ما تجري به الفتوى في

الغالب: عدم وجوب الزكاة في الخضروات والفاكهة، علماً أن زراعة الخضروات

والفاكهة والزهور في هذا العصر أصبحت من الأنشطة الزراعية ذات العائد

الاقتصادي الجيد، بل إنها تفوق تلك المنتجات النباتية مما يقتات به مثل الحبوب..

كما أن المسقطين لزكاة الخضروات يحتجون زيادة على الأخذ بعلة الاقتيات بعدة

أحاديث.

وجوب زكاة كل ما يخرج من الأرض: إن واقع الأنشطة الزراعية والمتعلقة

بإنتاج الخضروات والفاكهة والزهور حيث أصبحت من الأنشطة الزراعية النباتية

المهمة يستوجب دراسة حجج المسقطين للزكاة عن هذه الأنشطة الزراعية، وتبني

وجهة نظر الإمام أبي حنيفة، الذي يوجب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض؛

حيث إن هذا الرأي هو الرأي المناسب الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها،

ولهذا: أرى الأخذ برأي الإمام أبي حنيفة بوجوب الزكاة على جميع ما يخرج من

الأرض، لعدة أسباب:

1- أن أدلة المسقطين للخضروات يعتورها الضعف، فلا يجوز العدول عن

أصل وجوب زكاة الزروع والأخذ بأحاديث ضعيفة [7] .

2- أن التغير الحاصل في أساليب وطرق الزراعة فيما يتعلق بزراعة

الخضروات والفاكهة والزهور، والتقدم في أساليب التخزين.. أتاح للمنتجات

الخضرية فرصة إطالة عمر الاستفادة منها، مع التطور في وسائل النقل بعيداً عن

مراكز الإنتاج؛ مما جعل هذا النوع من النشاط أكبر فائدة للمزارعين من زراعة

الحبوب، ولهذا: نجد أن الدول الغنية تعمد إلى تشجيع زراعة الحبوب من خلال

شرائها منهم بأسعار أعلى من أسعار منتجات الخضر؛ بقصد توفير احتياجات

الناس من الحبوب، وعلى ضوء هذه الحقيقة: فإن قواعد الشريعة وأصولها

تقتضي عدم استثنائها حتى تتحقق عدالة توزيع المال وفق مقتضى القاعدة التي

حددها الله في قوله (تعالى) : [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] [الحشر: 7] .

3- أن إنتاج الخضراوات في الماضي لم يكن يُهدف منه إلى تحقيق الثروة

والغنى، وإنما كان زراعتها بقصد الاستهلاك العائلي، بعكس ما هو حاصل في هذا

العصر، حيث أصبحت من المحاصيل الزراعية ذات المردود الاقتصادي الجيد.

تساؤل في محله: إن السؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو: لماذا

نوسع مجال أخذ الزكاة، ولا نكتفي بما ورد فيه النص وعدم الخروج على ما ذهب

إليه جمهور السلف؟ .

إن الإجابة على هذا التساؤل تندرج ضمن فهم أهداف الإسلام بوصفه ديانة

وتنظيماً لأحوال الناس، فمن المعروف أن من مقاصد الإسلام: صيانة النفس

والعرض، وأن من مستلزمات ذلك: إشباع حاجات الفرد من خلال تحقيق التكافل

الاجتماعي، ولتحقيق ذلك فقد شرعت الزكاة، ولم يترك الله (سبحانه) للناس تحديد

مَن تٍدفع إليه الزكاة، بل حدد مصارفها؛ بقصد تحقيق الغاية التي من أجلها جعل

الله الزكاة ركناً من أركان الإسلام، وإن من مقتضيات تحقيق ذلك: وجوب شمولية

الزكاة لجميع مصادر الدخول الاقتصادية، وناتج الأرض يعتبر من أهم مصادر

تحقيق الثروة، فاستثناء نوع من الإنتاج بعدم تحقق وجوب الزكاة فيه يظهر عدم

عدالة الإسلام (حاشا لله أن يكون الإسلام كذلك) ، بل إن الإسلام قد شمل في أحكامه

جميع نواحي الحياة، وقد حاد الناس عن أحكامه، إما جهلاً بها، أو انحرافاً عنها،

بقصدٍ أو بغير قصد، وبخاصة في هذا العصر الذي أصبحت مقاليد الأمور فيه

بأيدي أعداء الإسلام ظاهراً أو باطناً، فأبعدت الشريعة الإسلامية في كثير من

البلدان من أن تحكم الحياة، وتولى زمام الأمر من يدعو إلى فصل الدين عن الحياة، وجعل تنظيم حياة الناس منوطاً بأهواء المضلين عن سبيل الله ومن يرغبون أن

تكون الحياة عوجاً.

إن أدلة إيجاب الزكاة على الخضراوات والفاكهة والزهور هي تلك الأدلة التي

قام عليها حكم وجوب الزكاة في الخارج من الأرض، وهي قوله (تعالى) :

[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ] [البقرة: 267] ، وقوله (تعالى) : [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] ، وحديث ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي جاء فيه: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) [8] ، وحديث جابر (رضي الله عنه) : أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سُقي بالسانية نصف

العشر) [9] .

على ضوء ذلك: فما هو النصاب والمقدار الذي تجب فيه الزكاة بالنسبة

للخضروات وغيرها من الإنتاج النباتي الذي يرى جمهور الفقهاء عدم وجوب الزكاة

فيه؟ .

قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من بيان مقدار النصاب والمقدار الذي

تجب فيه الزكاة بالنسبة لما أوجب فيه جمهور الفقهاء الزكاة من الناتج النباتي.

إن مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة هو: بلوغ الإنتاج خمسة أوسق،

وهذا هو قول جمهور العلماء والصحابة إلا مجاهداً وأبا حنيفة ومن تابعه، فقد

أوجبوا الزكاة في قليل ذلك وكثيره، مستدلين بعموم قول الرسول: (فيما سقت

السماء والعيون العشر) باعتبار أنه ليس له حول فلا يعتبر له نصاب [10] .

لكن قول الجمهور أرجح، كما دلت عليه أحاديث الرسول الصحيحة، مثل ما

رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس فيما دون خمسة

أوسق صدقة) ، وهذا خاص ويجب تقديمه على العموم وعدم اعتبار الحول؛ لأن

اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غيره؛ لأنه مظنة الكمال

والنماء في سائر الأموال، والنصاب إنما اعتبر ليبلغ حدّاً يتحمل المواساة منه؛

فلهذا اعتبر النصاب؛ حيث إن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى

بدون تحقق النصاب كسائر الأموال الزكائية [11] .

إن السؤال الذي يمكن طرحه بعد أن أخذنا برأي الأحناف في وجوب الزكاة

في كل ما تخرجه الأرض هو: كيف يتم تحديد النصاب بالنسبة لمنتجات

الخضروات والفاكهة والزهور.. وغير ذلك من المنتجات النباتية غير المكيلة

واليابسة والجافة والرطبة؟ .

إن أساليب تسويق هذه المنتجات في الوقت المعاصر، وطرق التخزين والنقل

لهذه المنتجات.. يؤدي إلى تكاليف إضافية على الإنتاج، وإذا أخرجنا الزكاة عيناً

من هذه الأصناف من الإنتاج النباتي ففيه ضرر على بيت مال المسلمين، أما إذا

أخذت الزكاة بعد البيع من إجمالي البيع وبدون احتساب تكاليف الشحن والتسويق

والتخزين ففيه ضرر على المزكي.

إن الرأي الذي يمكن الأخذ به وفيه تحقيق لمصلحة بيت المال ومصلحة

المزكي: أن يتم تحديد الزكاة من خلال تحديد تكلفة الإنتاج للحصة العينية للزكاة

منسوبة إلى إجمالي التكاليف مأخوذة من صافي الربح.

ففي هذا الأسلوب تجنب للمحاذير التي أشرت إليها، فمثلاً: إذا كان هناك

مزارع ينتج طماطم، وكمية الإنتاج بلغت مئة كيلو جرام، وتكلفة الكيلو جرام

الواحد: ريال سعودي واحد، فإن الزكاة العينية على أساس أن الإنتاج فيه مؤنة

وسقي 5%، فيتم تحديد الزكاة على النحو التالي:

مقدار حصة الزكاة العينية هو: 100 × 5% = 5 كيلو جرام.

ومقدار تكلفة حصة الزكاة هو: 5 × 1 = 5 ريالات.

وإذا قدر أن صافي الربح هو 50 ريالاً، فيتم احتساب الزكاة بقسمة تكلفة

إنتاج الحصة العينية وهو خمسة ريالات على إجمالي التكاليف وهو مئة ريال

مضروباً في صافي الربح، أي: = 2. 5 ريال.

إن افتراضنا للأخذ بهذا الرأي في تحديد وعاء الزكاة للمنتجات النباتية غير

المكيلة مقاس على ما قاله الفقهاء في تحديد مقدار النصاب في الحبوب غير المصفاة، وفي الثمار بعد الجفاف، يقول ابن قدامة في هذا الخصوص (وتعتبر خمسة

الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة أوسق عنباً

لا يجيء منه خمسة أوسق زبيباً لم يجب عليه شيء؛ لأنه حال وجوب الإخراج

منه، فاعتبر النصاب بحاله، وروى الأثرم عنه: أنه يعتبر نصاب النخل والكرم

عنباً ورطباً، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب تمراً، اختاره أبو بكر، وهذا محمول

على أنه أراد: يؤخذ عشر ما يجيء به منه من التمر إذا بلغ رطبتها خمسة أوسق؛

لأن إيجاب قدر عشر الرطب من الثمر إيجاب لأكثر من العشر، وذلك يخالف

النص والإجماع فلا يجوز أن يحمل عليه كلام أحمد ولا قول إمام) [12] .

ووجهة القياس: نقصان العنب بعد الجفاف، والثمر بعد تحوله من الرطب

إلى التمر، وفي الخضروات: فإن قيمتها والاستفادة من الإنتاج لا يتحقق إلا من

خلال اتباع أساليب التسويق الحديثة من تخزين وتبريد وتغليف ونقل..، وهذه

تحتاج إلى تكاليف معينة؛ مما يؤيد ما طرحناه من اقتراح حول ذلك.

إن تحديد نصاب المنتجات النباتية الذي إذا بلغ الإنتاج هذا المقدار وجبت فيه

الزكاة قد حددته أحاديث الرسول، من ذلك مثلاً قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق

صدقة) ، وهو حديث متفق عليه، ووفقاً له كما يراه جمهور العلماء فإن الزكاة لا

تجب في الخارج من الأرض إلا إذا بلغ خمسة أوسق، وقد خالف أبو حنيفة جمهور

العلماء بحيث أوجب الزكاة في قليل ناتج الأرض وكثيره، مستدلاً بعموم حديث

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فيما سقت السماء والعيون العشر) ، باعتبار

أن الناتج من الأرض ليس له حول، فلا يعتبر له نصاب، ولكن هناك أحاديث

حددت الأنصبة فيما ليس فيه حول، وإن حديث تحديد النصاب قد خصص عموم

الحديث الذي استشهد به الإمام أبو حنيفة، مثل: التخصيص لسائمة الإبل،

والفضة، فهذه أموال تجب فيها الزكاة ولم تجب في قليلها، وإن عدم اعتبار الحول

بالنسبة لناتج الأرض بسبب اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه، أما في غير

ناتج الأرض فقد اعتبر الحول لأنه مظنة لكمال النماء، والنصاب اعتبر ليبلغ حدّاً

يحتمل المواساة فيه [13] .

لقد حددت الأحاديث الصحيحة مقدار النصاب في الحبوب والثمار على أساس

خمسة أوسق، وأجمع العلماء على أن الوسق ستون صاعاً، وخمسة أوسق هي

ثلاثمئة صاع، وهو يعادل 653 كجم [14] .

أما تحديد مقدار النصاب للمنتجات التي لا يمكن أن تقدر بالكيل مثل: القطن

والزعفران والزهور فقد اختلف في تقديرها على أقوال:

1- على أساس المنتجات غير المكيلة إذا بلغ قيمة الخارج منها قيمة المكيلة.

2- تقدير قيمة غير المكيل بمئتي درهم بنصاب النقود.

3- تقدير قيمته بما يعادل وزنها المكيل، وهو 653 كجم.

4- وجوب الزكاة فيما ينتج بدون تحديد نصاب، سواء أكان قليلاً أو كثيراً..

ونحن نأخذ بالرأي الأول [15] .

وتواجه محصلي الزكاة أو المكلفين فيما يتعلق بإخراج زكاة المنتجات

الزراعية مشكلة تحديد وعاء الزكاة، وقد أوجبت السنة النبوية بالنسبة للمنتجات

المكيلة والقابلة للتخزين مثل: الحبوب والتمر أسلوب تحديد الوعاء، وذلك بما

عرف بـ (الخَرْص) ، حيث يتم بالظن تقدير التمر والزبيب والحبوب الجافة

المستخرجة وهي على أشجارها قبل أن تجف، فقد روى أبو داود، وابن ماجة،

والترمذي، عن عثمان بن أسيد (رضي الله عنه) : أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) [16] ،

ولتجنب الخطأ والإضرار بالمزارعين، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

بمراعاة ذلك، فقد روى ابن حبان والحاكم وأبو عبيد والبيهقي في السنن، عن سهل

ابن أبي خيثمة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وإذا خَرَصتم

فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) [17] .

وهناك ظاهرة تتعلق بالمنتجات المكيلة مثل التمور والزبيب، حيث يتم بيعها

قبل جفافها، مثل: بيع التمر رطباً والزبيب عنباً، وهذا يحقق دخلاً نقديّاً أكثر مما

لو خرص تمراً أو زبيباً، وإذا جعل نصيب بيت المال بعد اكتمال نضجه وتحوله

إلى تمر أو زبيب قد يفوت مصلحة مستحقي الزكاة بهذا، فإنه يمكن أن يتم الخرص

في بداية النضج قبل أن يصبح تمراً أو زبيباً، ويحدد مقدار نصيب بيت المال عند

الجِذاذ النهائي، ويُرى: كم بيع من الرطب والعنب؟ ، فما نقص عن مقدار

الخرص يحسب نصيب بيت المال بعد خصم تكاليف التسويق، فمثلاً: لو قدر أنه

تم خرص التمر بثلاثين ألف كيلو جرام، وعند جذاذه أصبح مقداره عشرين ألف

كيلو، بنقص قدره عشرة آلاف كيلو التي تمثل مقدار ما نقص من التمر بعد جفافه

دون ما تم بيعه، وإذا قدر أن ما تم بيعه رطباً قدره خمسة آلاف كيلو، فإن مقدار

الزكاة المقدرة بعد الجذاذ هو عشرون ألفاً مضروباً في 5%، أي: إن نصيب

الزكاة هو ألف كيلو، وما تم بيعه من نصيب بيت المال رطباً يساوي خمسة آلاف

مضروباً في 5%، يساوي مئتين وخمسين كيلو، فإذا كان سعر بيع الكيلو أربعة

ريالات، فإن إجمالي بيع حصة الزكاة من الرطب هو:

250 × 4 = 1000 ريال، يخصم منها حصة بيت المال في التسويق،

فإذا كانت تكلفة التسويق 20% من قيمة البيع: فإن إجمالي تكاليف التسويق الخاص

بنصيب بيت المال هو: 1000 × 20 % = 200 ريال، ويكون نصيب بيت

المال من قيمة البيع هو: 1000 - 200 = 800 ريال.

أما بالنسبة لمقدار غير المكيل: فقد يصعب الخرص، خاصة الخضروات

والزهور وبقية الفواكه؛ لتفاوت النضج؛ حيث لا يتم النضج في وقت واحد، وإنما

يتتابع النضج والقطف، فكلما نضجت كمية قطفت وبيعت، حتى يتكامل الإنتاج

وتنتهي قدرة الشجرة على الإفراخ.

ويرى جمهور العلماء عدم خرص المنتجات النباتية ما عدا النخل

والعنب [18] ، ولهذا: فإن تحديد مقدار الزكاة يتم لهذه الأنواع من المنتجات من خلال حصر الإنتاج الفعلي الذي تم بيعه والاستفادة منه بعد خصم جميع تكاليف التسويق والنقل والتخزين.

من الأمور التي يثور التساؤل حولها: ما يتعلق باستهلاك المُزَارِع مما ينتجه، وهل يتم استثناؤه أو يدخل ضمن الإنتاج وتقع عليه الزكاة؟ .

الإجابة على هذا التساؤل تجده في حديث سهل بن أبي خيثمة أن النبي -صلى

الله عليه وسلم- قال: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا

الربع) [19] ، ولتحقيق هذا التوجيه النبوي: يكون خرص الإنتاج الكلي، ثم

خصم مقدار الربع أو الثلث مما خرص، لتكون الكمية المتبقية هي التي يقدر عليها

مقدار الزكاة، فلو أن الخرص بلغ ثلاثين ألف كيلو، فمقدار ما يتم عليه تحديد

الزكاة على أساس الثلث هو عشرون ألف كيلو، وعلى أساس الربع: اثنان

وعشرون ألف وستمئة كيلو، هذا بالنسبة للأصناف التي يتم خرصها، أما

الأصناف غير الخاضعة للخرص: فإن ما يتم تحديده هو: مقدار ما يتم بيعه، وما

يأكله المزارع فلا يضم إلى ما بيع، قياساً على التخفيف فيما يخرص.

ومن الأمور التي تثار أيضاً ويدور حولها النقاش فيما يتعلق بخصمها من

وعاء الزكاة وكيف يتم معالجتها أمران:

الأمر الأول: الديون التي تحملها المُزَارع من أجل الإنفاق على نفسه أو من

أجل الزراعة، فالإمام أحمد (رحمه الله) يرى أن الدّيْن الذي عليه من أجل الزراعة

يخصم من الناتج، أما الاستدانة من أجل الإنفاق على نفسه وأهله فلا يخصم؛ لأن

ما أنفقه على الإنتاج من مؤونته، وقد روي بهذا القول عن ابن عباس (رضي الله

عنهما) ، وأما عبد الله ابن عمر (رضي الله عنهما) فهو يرى خصم الديون من

إجمالي الناتج [20] ، ونحن نميل إلى الأخذ برأي ابن عمر (رضي الله عنهما)

بخصم الديون، سواء ما كان من أجل الزراعة أو من أجل الإنفاق على نفسه وأهله، بشرط أن تكون الديون حَالّة في وقت وجوب الزكاة، وألا تكون وسيلة من وسائل

التمويل الرأسمالي، أي: ألا تكون ديون ناشئة بسبب شراء أصول رأسمالية، مثل: المكائن، والحراثات والحصادات، ففي هذه الحالة لا تخصم.

الأمر الثاني: أجرة الأرض، فقد اختلف في مدى خصمها من الناتج، فمالك، والثوري، وشريك، وابن المبارك وابن المنذر يرون أن الزكاة على الناتج دون مالك الأرض، أما أبو حنيفة (رضي الله عنه) فيقول: إن الزكاة على مالك الأرض؛ لأنه من مؤنتها أشبه بالخراج [21] .

وقد رد ابن قدامة على من يرى أنها على مالك الأرض بقوله: (ولنا: أنه

واجب في الزرع فكان على مالكه، كزكاة القيمة فيما إذا أعده للتجارة وكعشر زرعه

في ملكه، ولا يصح قولهم: إنه من مؤنة الأرض؛ لأنه لو كان من مؤنتها لوجب

فيها وإن لم تزرع كالخراج، ولوجب على الذمي كالخراج، ولتقدر بقدر الأرض لا

بقدر الزرع، ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دون مصرف الزكاة) [22] ،

وعلى ضوء ذلك، فهناك رأيان:

الأول: هو مذهب أبي حنيفة، الذى يرى أن الزكاة على مالك الأرض؛ لأن

الأجرة من مؤنتها أشبه بالخراج، حيث إن العشر حق الأرض الثابت لا حق الزرع، والأرض هي أرض المالك، وكما إن الأرض تستنمى بالزراعة فهي تستنمى

بالإجارة، فكانت الأجرة مقصودة.

الثاني: مذهب الجمهور الذين يرون أن العشر على المستأجر؛ لأن العشر

حق الزرع لا حق الأرض والمالك لم يخرج له حب ولا ثمر.

إن سبب الاختلاف يعود إلى فكرة (على أي شيء تقع الزكاة؟) ، على

الأرض، أم على الزرع، أم على مجموعهما كما سبق مناقشته؟ .

من الفقهاء المعاصرين (فضيلة د/يوسف القرضاوي) من يرى ضرورة أن

يشترك الطرفان في الزكاة، بحيث لا يعفى المستأجر إعفاءً كليّاً من وجوب الزكاة

كما ذهب أبو حنيفة، ولا يعفى المالك إعفاءً كليّاً، حيث تجب الزكاة كلها على

المستأجر [23] ، ولتطبيق هذا الرأي فقد أخذ بمفهوم صافي الربح من عائد الزروع

بعد خصم الديون والنفقات من البذور، بحيث يرفع ما يوازيها من المحصول، ثم

يزكى ما بقي إن بلغ نصاباً، ولقد اعتبر أن أجرة الأرض من نفقات الزرع

كالخراج، فيجب أن تعد ديناً على المستأجر فيقطع من الخارج ما يقابل الأجرة،

على أن يتولى مالك الأرض زكاة ما دفع إليه، بدلاً من المزارع، ممثلاً في الأجرة

التي يقبضها [24] ، وبالتالي: فإن فضيلته خصم مقدار الأجرة وترك للمالك حق

التصرف بإخراج زكاة الأرض.

نحن نتفق مع فضيلته بضرورة مشاركة مالك الأرض في إخراج الزكاة،

لكننا نختلف معه في الأسلوب الذي اتبعه.

إن الأسلوب الذي أراه يتمثل في أن هناك طريقتين للاتفاق مع المالك: إما أن

تكون أجرة الأرض جزءاً من الإنتاج، وبالتالي: الزكاة واجبة على الناتج جميعه

باعتبارهما شريكين، فلو فرض أن للمالك 20% من الناتج، وقدر الناتج بثلاثة

آلاف كيلو من القمح، فتخضع الزكاة للناتج الإجمالي، أي: ثلاثة آلاف، فمقدار

الزكاة باعتبار أنها مسقية بالآلات: 5%، أي: مئة وخمسون كيلو، والصافي بعد

الزكاة هو: ألفان وثمانمئة وخمسون كيلو، فيكون نصيب مالك الأرض هو خمسمئة

وسبعون كيلو، بدلا من ستمئة كيلو من إجمالي الناتج، ففي هذه الحالة تم دفع

الزكاة مباشرة من المستأجر، لكنها أصبحت من الأجرة لصالح بيت المال حيث

اشترك المالك والمستأجر في دفع الزكاة باعتبار أن الزكاة بالزرع نفسه وفق مذهب

الجمهور.

الطريقة الثانية: إذا كان الإيجار مبلغاً نقديّاً مثلاً، وكانت الأجرة ستمئة ريال، وبلغ الإنتاج ثلاثة آلاف كيلو، وتكلفة الكيلو مثلاً: ريال واحد، أي: إن تكلفة

الإنتاج هي ثلاثة آلاف ريال، فيخصم من الإيجار المستحق له مقدار نصيبه من

الزكاة، فكمية الزكاة المستحقة على الناتج هي: مئة وخمسون كيلو، ونصيب

المالك من الزكاة يحسب باعتبار أن نصيبه من الإنتاج هو ستمئة كيلو فمقدار الزكاة: ثلاثون كيلو، وتكلفة الكيلو: ريال واحد، فمقدار الزكاة: ثلاثون ريالاً، فتخصم

مقدار الأجرة خمسمئة وسبعون ريالاًِ، أما الثلاثون ريالاً المخصومة فتعطى لبيت

المال، إما نقداً، أو عيناً حسب رغبة ولي الأمر، أخذاً بمفهوم أن الزكاة تؤخذ من

عين مال المزكي، وأن المستأجر هو وكيل لبيت المال في تحصيل الزكاة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015