مجله البيان (صفحة 2452)

دراسات شرعية

آثار التعبد بأسماء الله وصفاته

بقلم: محمد بن عبد الله الزغيبي

تمهيد:

إن البحث في أسماء الله وصفاته وفق ما جاء في الكتاب والسنة هو من أجلِّ

المعارف وأشرفها.

ولن نتعرض في هذا البحث المتواضع لكل ما يتعلق بالأسماء الحسنى [1] ،

ولكننا سنعرض لجزئية صغيرة، ولكنها مهمة وعظيمة، ألا وهي التعبد [2]

بأسماء الله وصفاته الحسنى، فإنه باب عظيم يضم بين جوانبه مسائل من التعبد،

فمنها: إحصاء ألفاظها وعددها، وكذلك: الدعاء بها، وثالثها: ما نحن بصدده،

وهو فهم معانيها ومدلولها [3] .

وفهم معانيها ومدلوها له مترادفات أخرى ذكرها ابن القيم في ثنايا كتبه، وهي: إدراك موجبها، وآثارها، ومقتضياتها، ومتعلقها، ولوازمها، وأحكامها.. فكل

هذه المترادفات المتقاربة تعني التعبد لله بأسمائه وصفاته، إذ كل اسم له تعبد

مختص به علماً ومعرفة وحالاً، وله صفة خاصة، وكل صفة لها مقتضى وفعل،

إما لازم، وإما متعدٍّ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه،

وأمره، وثوابه، وعقابه، وكل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها.

ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما

تقتضيه وتستدعيه من الأفعال.

فمثلاً اسم (السميع) من أسماء الله الحسنى، ولا بد من إثبات حكمه ومقتضاه،

وهو أنه يسمع السر والنجوى، ويسمع ضجيج الأصوات، على اختلاف اللغات..

وإدراك هذا الأثر من اسمه (تعالى) يورث العبد حالاً من التعبد والمراقبة والإنابة

إلى ربه (سبحانه وتعالى) .

واعلم أن التعبد بالأسماء والصفات الحسنى درجات ومراتب وأنواع كما سبق، وكلما زاد علم العبد بالله (جل وعلا) ارتفع في درجة التعبد، وأكمل الناس عبودية

هو المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية

اسم عن آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم) (الرحيم) ، أو يحجبه عبودية اسم (المعطي) عن عبودية اسم (المانع) ، أو عبودية اسم

(الرحيم) و (العفو) و (الغفور) عن اسمه (المنتقم) ، أو التعبد بأسماء التودد والبر

واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء.. ونحو ذلك.

وهو (سبحانه) يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم ويحب كل عليم،

جواد يحب كل جواد، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء وأهله، شكور

يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم [4] ، وإذا كان

(سبحانه) يحب المتصفين بأثر صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف،

وهو ما يسمى بالمعية الخاصة.

إن معرفة معاني الأسماء والصفات يحقق آثاراً ظاهرة لمن تعبّد لله بها، ومن هذه الآثار:

1- الأنس بالله ولمّ شعث القلب:

(وذلك إنما هو أثر تجلي الأسماء والصفات الحسنى على قلب العبد، فترتفع

حجب الغفلة والشك والإعراض، ويتم استيلاء سلطان المعرفة على القلب وقد

استولى على العبد نور الإيمان بالأسماء والصفات ومعرفتها، ودوام ذكرها،

والنظر إلى الواحد الفرد، الأول فليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء،

الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، سبق كل شيء

بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا فوق كل شيء بظهوره، وأحاط بكل

شيء ببطونه) [5] .

(وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حدٍّ كأنه يكاد يطالع ما اتصف به الرب

(سبحانه) من صفات الكمال ونعوت الإجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص،

حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه، فإن حجابه هو نفسه، وقد

رفع الله عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، فأفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب،

فصار يعبده كأنه يراه) [6] .

2- تعظيم الله (سبحانه وتعالى) :

فمن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها، فإن النظر في متعلقاتها يكسب

التعظيم للمتصف بها.

فمن شاهد صفة الكلام مثلاً زادته تعظيماً لله (تعالى) ولا بد، إذ لو أن البحر

يمده من بعده سبعة أبحر، وأشجار العالم كلها أقلام يُكتب بها كلام الرب (جل

جلاله) لفنيت البحار ونفدت الأقلام، وكلام الله (عز وجل) لا يفنى ولا ينفد، فمن

شاهد الصفات الأخرى بمثل هذه المشاهدة من العلم والقدرة ونحوها، وجال قلبه في

عظمتها: ازداد معرفة وتعظيماً لله (سبحانه) [7] .

3- إدراك مقتضيات الصفات طريق لإثباتها:

فوجود هذا الكون المدبر المحكم الواسع يتطلب ربّاً مالكاً حكيماً عليماً، وكذلك

وجود المخلوقات بأنواعها وأشكالها يوجب وجود خالق، ووجود الجناية والتقصير

من العبد يوجب إثبات اسم (الغفار) .. وغيره من الأسماء والصفات.

4- إدراك أسرار الشريعة وحقيقة الأحكام الشرعية:

فمن كانت له معرفة بأسماء الله وصفاته، واستقرار آثارها في الخلق والأمر، رأى الخلق والأمر ينتظمان بها أتم انتظام، ورأى سريان آثارها فيها، وعلم بحسب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله، وما لا يليق، فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده وحكمته، وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه مما لا يليق به، فإذا رأى في بعض الأحكام جوراً أو سفهاً وعبثا ومفسدة، فليعلم أنه ليس من أحكامه ودينه، وأنه بريء منه ورسوله؛ فإنه إنما أمر بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا بالسفة) [8] .

5- الطمأنينة:

والطمأنينة إلى أسماء الرب وصفاته نوعان: أحدهما: طمأنينة إلى الإيمان

بها وإثباتها واعتقادها، وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية، فمثلاً:

التعبد باسم (القدير) يوجب الطمأنينة إلى القَدَر وإثباته، ويقتضي الطمأنينة إلى

مواضع الأقدار التي لا قدرة له على دفعها، فيسلِّم لها، ويرضى بها، ولا يسخط،

ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه الله؛

لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يُخلق.

فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم، وهي قدر زائد

على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها [9] .

أمثلة توضح كيفية التعبد بمعاني الأسماء والصفات:

سنتطرق لبعض الأسماء والصفات، وإلا فإن توضيح ما مضى لجميع

الصفات أمر يطول، ولكن يمكن فهم الأسماء والصفات على ما سنذكره:

1- السميع:

إذا استشعر العبد بقلبه سمعه (سبحانه) لأصوات عباده على اختلافها وجهرها

وخفائها، وأن سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، ولايشغله من جهر عن

سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على

كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كصوت واحد، فعلم أن الله يسمعه: فلا

يقول إلا خيراً، بل يستحي أن يسمع الله من كلامه ما يخزيه ويفضحه عنده، وإنما

يشتد في ألا يسمع منه إلا الكلام الحسن، بل ويكثر منه؛ حتى يحظى عند ربه

(سبحانه) [10] .

ويستشعر أن الله يسمع كلام أعدائه، وأن الله ليس بغافل عنهم ولا يرضى ما

يقولون، فعند ذلك يعلم أن الله معه وأنه ناصره لا محالة، وقد قال ابن القيم في

النونية معبراً عن هذا المعنى:

وهو السميع يرى ويسمع كل ما ... في الكون من سر ومن إعلان

ولكل صوت منه سمع حاضر ... فالسر والإعلان مستويان

والسمع منه واسع الأصوات لا ... يخفى عليه بعيدها والداني

2- العزيز:

وسنتعرض لطرف من معنى هذا الاسم العظيم، وهو مشاهدة عزة الله

(سبحانه) في تقديره (تعالى) على عبده بالمعاصي والذنوب.

فيشاهد عزة الله بأن قلّب قلبه وصرّف إرادته على ما يشاء (سبحانه) ، وحال

بين العبد وقلبه وأن يعرف أنه مدبّر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا

بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير، في قبضة عزيز حميد [11] .

3- الودود:

فهو يحب عباده الصالحين ويحبونه؛ فإن العبد إذا شاهد بقلبه غنيّاً كريماً

جواداً، عزيزاً قادراً، كل أحد محتاج إليه بالذات، وهو غني بالذات عن كل ما

سواه، وهو مع ذلك يود عباده ويحبهم، ويتودد إليهم بإحسانه وتفضله عليهم: كان

له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب [12] .

4- السلام:

وحقيقة هذه اللفظة (السلام) هي: البراءة والخلاص والنجاة من الشر

والعيوب، فإذا علمت أن الله هو (السلام) فتعلم أن تجاوزه عنك في معصيتك وذنبك

سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة، كما أن عذابه سلام عن أن

يكون ظلماً أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله.

وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة

العباد ورحمتهم.

وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من

كونها محبة حاجة إليه أو تعلق أو انتفاع بقربه.

فتأمل كيف تضمن اسمه (السلام) كل ما نُزِّه عنه (تبارك وتعالى) ، واستشعر

هذا بقلبك؛ فإنه يبعث على تعظيم ربك (سبحانه) [13] .

5- الجبار:

ولاسمه (الجبار) ثلاثة معان:

1- أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده ويجبر كسر القلوب المنكسرة، فكم جَبَر من كسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل، فإذا عرف العبد هذا

المعنى تعبد لله بمقتضاه، وسأله بأن يجبر كسره، ويعينه على عبادته.

2- أنه القهار، فهو يجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته، فيستشعر

العبد أن أفعاله بقدرة الله، ويعلم أن أعداء الدين لن يصيبوه إلا بما قضى الله وأراد.

3- أنه العلي بذاته فوق جميع مخلوقاته، فلا يستطيع أحد منهم أن يدنو منه،

فيبعثه ذلك على تعظيم ربه وإدراك عزته واستعلائه [13] .

والله أعلم، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015