المسلمون والعالم
العدواني الثلاثي … على السودان
بقلم: عبد العزيز كامل
في مطلع الثمانينيات، تسربت من إسرائيل أنباء عما يسمى بـ (مشروع
إنشاء دويلات طائفية) في منطقة الشرق الأوسط، ذلك المشروع الذي أذيعت بعض
تفاصيله حينها، بما يكشف عن عزم دولة اليهود بالتواطؤ مع الدول الغربية العمل
على إيجاد واقع جديد من التشرذم في المنطقة، يقوم على أساس تقسيم بعض الدول
القابلة للتقسيم الطائفي (المذهبي أو الديني أو القبلي) إلى دول طائفية، وهذا بالطبع
سيفتح أبواباً من الصراعات والنزاعات التي لا تنتهي، والتي ستعمل على
الإضعاف الدائم لتلك الدول، بما يسمح لأصحاب المشروع باستثمار هذه الأوضاع
لصالحهم في المنطقة.
ومما ذكر وقتها من ملامح ذلك المشروع: سعي تلك الدول الغربية إلى تقسيم
العراق إلى كيانات طائفية متعددة (سنة شيعة أكراد) ، والسعي إلى تكريس الطائفية
في لبنان وتحويلها إلى كيانات منفصلة، وكذلك الشأن في كل من اليمن التي يمكن
أن يستغل التنازع القبلي فيها، ومصر التي يتطلع الأقباط فيها للاستقلال بجنوب
مصر وغربها.
وكان السودان من ضمن الدول التي أشار المخطط إليها على أنها قابلة للتقسيم
الطائفي على أساس الدين، وأن المساعي ستجري لتقسيمه إلى قسمين أو ثلاثة بين
الطوائف الإسلامية في الشمال والنصرانية والوثنية في الجنوب.
ثم ما لبثنا أن سمعنا عن نشوء ما يسمى بـ (الحركة الشعبية لتحرير
السودان) عام 1982م بزعامة الصليبي (جون جارانج) ، ثم ازدادت الحرب الأهلية
في لبنان اشتعالاً، وظهرت بوادر سعي حقيقي لإنشاء دولة قبطية في مصر،
وكُشف عن نشوء حركات قبطية مسلحة في جنوب مصر تكدس الأسلحة في
الكنائس والأديرة، وتفاعلت قضية الانفصال بين شطري اليمن حتى وصلت إلى
حرب حقيقية في أواسط الثمانينيات، ثم عادت في التسعينيات.
ماذا يعني هذا؟ ، إنه يعني أن هناك من يخططون، ويدبرون، ويتصيدون
في الماء العكر، وما أكثر العكارة وأقل الصفاء في ماء العرب! .
إننا لا نقول بأن الأعداء من اليهود والنصارى قادرون على كل ما يريدون،
ولا نزعم أنهم يقولون للشيء كن فيكون، ولكن الشيء المؤكد: أنهم يتحركون في
الفراغ الذي نتركه لهم، ويملؤون الثغرات التي نفتحها في حصوننا أمامهم.
وماذا ننتظر من أعدى أعدائنا غير ذلك؟ [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] ، لقد
امتدوا في الفراغ الذي تركه المسلمون يوم تنازعت دويلات الطوائف المتصارعة
حول بيت المقدس فاجتاحها الصليبيون بحملاتهم، وامتدوا في الفراغ الذي أحدثته
دويلات الطوائف المتنازعة في الأندلس، فاستلبها منهم عباد الصليب إلى اليوم،
وشتتوا شمل دولة الخلافة في تركيا بعد أن صار الولاء للطين قبل الدين عند العرب
والعجم، فتنازعوا تحت رايات القوميات والوطنيات.
وعندما جاء الدور على فلسطين، ما كان أحد يتصور أن خلافات العرب
والمسلمين ستجمع شتات اليهود بهذه القوة وفي هذا الزمن الوجيز! .
ونعود إلى السودان، فنلقي نظرة حول الجولة الجديدة من صراع الأعداء
المجتمعين ضد الإخوة المشتتين! .
وطن إسلامي يتعرض لخطر ماحق وبلاء داهم من أعداء متربصين من
الداخل والخارج، يستهدفون فيه الدين والأرض والعرض، ومع هذا: فأحوال
ذوي القربى حوله لا تختلف كثيراً عن أحوال إخوان وجيران أهل الأندلس وقت أن
آلت للسقوط أو أحوال المحيطين بأهل بيت المقدس قبيل يوم الاجتياح.. الأحوال
هي نفسها، أو صور منها: تردد ... جبن.. تملص.. تجاهل ... شماتة..
تشكيك.. وفي أحسن الأحوال: انشغال!
ما حدث في السودان، وما يمكن أن يحدث في المستقبل المنظور، يمثل
خارطة جديدة تحدد المواقع والمواقف لكل طرف من الأطراف المشاركة في صنع
أحداث عالمنا الإسلامي، ويعيد رسم الولاءات والهويات التي قد يُختلف في فهمها
وتعريفها.
ومن معطيات هذه الخارطة الجديدة ينبغي للمسلم في السودان وغير السودان
أن يعيد النظر في المواقف من حوله؛ ليعرف من يوالي ومن يعادي، فإن الظروف
الحرجة فرصٌ لا تُعوض لوضوح الرؤى، وتمايز الصفوف، واستبانة الحق،
ففيها تنكشف بعض الغيوب بأمر الله فتكون شهادة، يعظ الله بها عباده [مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ
عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران: 179] ، وحقّاً لقد ميزت هذه الأزمة كثيراً من الخبيث
المختلف في خبثه، رغم أنها لا تزال في مبدء فصولها، وزادت كثيراً من الخبيث
وضوحاً رغم الاتفاق على خبثه.
ولنستعرض هنا شيئاً من مواقف الخبثاء أطراف التآمر، ولكن قبل ذلك لا بد
لنا من مراجعة ثلاث وقائع بالتحديد، أرى أنه يمكننا أن نفسر بها إلى حد كبير
أبعاد الفصل الأخير من السلسلة التآمرية على ذلك البلد الصابر.
الواقعة الأولى: وتعود إلى شهر نوفمبر 1992م، عندما طرحت أمريكا
مشروعاً على مجلس الأمن بشأن السودان، وكان يدور حول ما يمكن فعله تجاه ما
تعتبره واشنطن وحلفاؤها انتهاكات لحقوق الإنسان في السودان، وتمثل هذا في
إعدام رجل سوداني يدعى (تومي) بعد محاكمة علنية أدين خلالها بالتجسس لصالح
التمرد في الجنوب، وثبتت مسؤوليته عن إمداد المتمردين بمعلومات تسببت في قتل
مئات السودانيين، وصدر بالفعل قرار من الأمم المتحدة بإدانة حكومة البشير
لانتهاكها حقوق الإنسان في الجنوب، وقد رفض السودان القرار في حينه،
واعتبرته الخرطوم بداية مخطط ضد السودان، وقال عمر البشير وقتها: (إن
منظمة الأمم المتحدة أصبحت إدارة من إدارات وزارة الخارجية الأمريكية، وإنها لم
تبن قرارها بالإدانة حتى على قوانينها ونظمها ولوائحها) [وكالات الأنباء 10/12/
1992م] .
وتلقف راعي البقر الأسبق (رونالد ريجان) القرار الدولي، ودعا الأمم المتحدة
إلى التدخل العسكري في السودان لوقف ما زعمه: (إبادة القبائل السودانية في
الجنوب) !
وفي الشهر نفسه من العام المذكور: بدأت الولايات المتحدة بالتنسيق مع الأمم
المتحدة تنفيذ عملية غزو الصومال بحوالي 20 إلى 30 ألف جندي مدججين بأحدث
الأسلحة بحجة إطعام الجوعى! ، وكان واضحاً وقتها لكل المراقبين أن السودان هو
الخطوة التالية، أو المقصودة أصلاً من غزو الصومال، ولكن الغزو فشل،
وانسحب الأمريكان أذلة، وقيل وقتها: إن السودان كان له دور في إفشال الغزو،
لقيامه بمساندة المجموعات التي خاضت حرب عصابات ضد الغزاة.
الواقعة الثانية: وتعود إلى شهر فبراير من عام 1993م، عندما زار (بابا)
الكاثوليك السودان، حيث هوى من الطائرة ليقبل أرضها! ! ، إنه لم يقبلها بداهة
لأنها أرض يقام فيها التوحيد، ولكن لأنها أرض تهتز بغزو الصليبيين! ، ولقد
أثبت بتصريحاته المقصود بحركته، إذ خطب في حشد من النصارى هناك وقال:
(إن أسماء مسيحيي السودان منقوشة على كف المسيح تخرقها المسامير) [الشرق
الأوسط 12/2/1993م] ، وأمام حشد آخر من رعيته الكاثوليكية (200 ألف خرجوا
لاستقباله) قال: (.. إنكم تمارسون حياتكم وأنشطتكم وسط صعوبات جمة، وربما
ظننتم أحياناً أن بقية شعوب العالم قد نسيتكم، لكنكم لستم بعيدين أبداً عن (فكر الله
وقلبه) ! ! ، ولا تنساكم الكنيسة، وخليفة القديس (بطرس) والمسيحيون في كل
مكان يصلّون على الدوام من أجلكم! !) [الحياة 11/2/1993م] .
إن هذه الزيارة التي تجشمها (باباهم) لم تكن لمجرد الوعظ أو إسداء النصح،
بل كانت لها أبعاد أخرى أخطر، وقد عبر عنها بنفسه قائلاً: (إنني أعتبر زيارتي
للسودان أهم ثاني زيارة خارجية أقوم بها منذ زيارتي إلى بولندا أيام الحكم
الشيوعي) [الشرق الأوسط 13/2/1993م] ، وهذا التصريح فسرته العديد من
الدوائر الدبلوماسية على أنه يعني أن للزيارة أبعاداً خفية قد تتكشف مستقبلاً، حتى
إن جريدة (اللوموند) الفرنسية قالت في مقالها الافتتاحي في اليوم التالي للزيارة:
(على الصعيد الملموس: فإن انعكاسات زيارة البابا لا يمكن أن تقاس إلا على المدى
البعيد) !
الواقعة الثالثة: وتعود إلى أواخر يناير 1997م، حيث أُعلن عن تحقيق
كشف نفطي كبير في حقل الوحدة بجنوب السودان، وتأكد أن الاحتياطات المحتملة
للنفط (341) مليون برميل، وبلغ إنتاج أول بئر حوالي 10 آلاف برميل في اليوم، وهذا الكشف أعلنت عنه شركة (أراكيس إنيرجي) الكندية مع مشاركة صينية
وماليزية وسودانية، وزفت هذه الشركة إلى العالم بشرى أنها بدأت ضخ النفط مما
ترى أنه أكبر مشروع للطاقة في العالم [جريدة الحياة 29/1/1997م] ، ووصفت
أوساط أمريكية إمكانات النفط في السودان بأنها ضخمة! .
المقصود هنا: أن تلك الشركة الكندية فازت في مناقصة للتنقيب على النفط
أمام شركة أمريكية هي شركة (أوكسيدنتال) ، تلك الشركة التي خرجت من
المناقصة بقرار من عمر البشير ردّاً على قرار أمريكا بإمداد الدول الثلاث المعادية
للسودان (إثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا) بما قيمته 25 - 50 مليون دولار من ... الأسلحة! ...
أخطر قرار ينفذه البشير:
وهذه الواقعة إن صحت بتفاصيلها تلك تجعل هذا القرار أخطر من قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس عام 1956م الذي تسبب في العدوان الثلاثي على مصر، ولكن أين المنصفون؟ .
إن هذه الوقائع الثلاث من شأنها أن تفسر إلى حد كبير أبعاد ما حدث وما
يمكن أن يحدث في السودان بعد بدء الغزو الخارجي، وإذا أضفنا إلى تلك الوقائع
بدون تاريخ اتفاق كل من إثيوبيا وإسرائيل على إقامة سدود في الأراضي الإثيوبية
تتحكم في المياه المتدفقة إلى مصر والسودان.. فإن خيوط المؤامرة تتكامل ومعالمها
تتضح.
فالسودان مستهدف دينيّاً وحضاريّاً، ومستهدف عسكريّاً وأمنيّاً، ومستهدف
اقتصاديّاً.. بتروليّاً ومائيّاً.
مستهدف من حلفٍ ثلاثي: نصراني يهودي علماني.
أما أطراف هذا الحلف وأعضاؤه وأدواته، فهذه أخبارهم:
أولاً: الولايات المتحدة:
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية منطقة القرن الإفريقي خط الدفاع الثاني عن
منطقة الخليج الاستراتيجية، وقد أضيف إلى هذه الأهمية بُعد آخر، وهو ترشيح
بعض بلدان تلك المنطقة وعلى رأسها السودان والصومال لأن تكون مصادر ثروة
طائلة (النفط في السودان، واليورانيوم في الصومال) .
وأمريكا تعلن دائماً أنه يهمها الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي؛ لأهميتها
الاستراتيجية البالغة، ولكن يبدو أن الاستقرار بمفهوم الأمريكان هو ألا يقر لأهل
الأرض قرار، فلا بد من تسليح شعوب ضد شعوب، وطوائف ضد طوائف، لقد
كان لوزير الخارجية الأمريكي السابق (كريستوفر) رحلة إفريقية، الهدف منها
حسب ما أعلن: تكثيف الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية، وبخاصة في القرن
الإفريقي، وترجمت هذه الرغبة عمليّاً كما ذكرنا سابقاً بتقديم أمريكا دعماً عسكريّاً
لثلاث من الدول المحيطة بالسودان، يتراوح ما بين 25 إلى 50 مليون دولار،
وهذه الدول هي: (إريتريا إثيوبيا أوغندا) .
وكان ذلك قبل العدوان على السودان بأقل من شهر، وقد أعلنته جريدة الـ
(واشنطن بوست) ولم تنفه الإدارة الأمريكية، في إشارة إلى تبنيها العلني لخطة
الهجوم على السودان، وعبّر مستشار الأمن القومي الأمريكي (أنطوني ليك) (يشغل
الآن منصب مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية) ، عبر عن نوايا أمريكا المعلنة
ضد السودان بقوله: إن واشنطن ستعمل على احتواء السودان من خلال جيرانه:
إثيوبيا، إريتريا، أوغندا، مصر!
ثانياً: الأمم المتحدة:
بات من الحقائق الملموسة أن أمريكا تحارب بخنجر مسموم ذي نصلين،
أحدهما: القوة العسكرية، والثاني السلطة التشريعية الدولية من خلال مجلس الأمن
(الأمريكي) .. أقصد (الدولي) ، ولهذا فقد أوعزت إليه أن يُحكم طوق الحصار
والعقوبات على حكومة السودان؛ لإضعافها، تمهيداً لإسقاطها.
ومنذ أيام الأمين (بطرس) الإفريقي ومسلسل الخذلان لأهل السودان لا ينقطع، فعندما احتلت إثيوبيا مواقع ونقاطاً حدودية داخل الأراضي السودانية في ديسمبر
1995م، وجهت السودان شكوى إلى مجلس الأمن حول هذا الاعتداء في حينه،
إلا إن المجلس لم يقبل هذه الشكوى، وأحالها (بطرس) إلى منظمة الوحدة الإفريقية، باعتبارها في نظره تتعلق بمسألة داخلية إفريقية!
ولكن مسألة أخرى داخلية إفريقية حولتها الأمم المتحدة بعد ذلك إلى قضية
دولية، وهي حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري على أرض إثيوبيا، إذ اتهمت
إثيوبيا المسؤولة عن أمن ضيوفها السودان بالتقصير أمنيّاً، مما تسبب في الحادث،
واتهمته بعد ذلك بالضلوع في الحادث دون دليل مثبت، وعلى الرغم مما هو
متعارف عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فقد فتح مجلس الأمن بتلك
الحادثة باب العقوبات الدولية على السودان في القرارات (1044، 1054) ، وتم
تصعيد هذه العقوبات إلى حد فرض حظر جوي على السودان!
ثالثاً: دول الجوار:
كان لا بد من تسريع الخطى نحو الإيقاع بحكومة السودان، بدلاً من الاعتماد
على الإيقاع البطيء لمفعول العقوبات الدولية السياسية والاقتصادية، وتقرر إشعال
الأرض تحت أقدام السودانيين بنيران مجاورة صليبية، تنفث فيها رياح علمانية،
وبدأت حرب قذرة خطط لها بدهاء، بدأت منذ شهر 9/1417هـ (12/1/1997م)
إذ هجم الأحباش على منطقة النيل الأزرق في جنوب السودان، واقتحم ما لا يقل
عن ستة آلاف جندي نصراني إثيوبي، وألف نصراني جنوبي، وما يقدر بعشرة
إلى سبعة عشر ألف علماني من منافقي أو مغفلي المعارضة الشمالية، فاحتلوا مدن
(الكرمك) ، و (قيسان) ، و (جوفا) ، وقرى حدودية أخرى، واستهدفوا بعد ذلك
مدينة (الدمازين) ذات الأهمية الاستراتيجية؛ لكونها مركزاً لتوليد الطاقة الكهربائية
التي تغذي العاصمة الخرطوم، ومرة أخرى تثبت الشرعية الدولية أنها ليست أكثر
من شريعة غاب؛ فعندما طلب السودان من مجلس الأمن أن يبعث بمفتشيه للتحقق
من وجود دور لدول أجنبية في الهجوم، حالت أمريكا دون إنفاذ ذلك! .
وبعد أن احتلت إثيوبيا مدينتي (الكرمك) و (قيسان) وسلمتهما لقوات (جون
جارانج) ، سلمته كذلك نقطة (الديم) الحدودية التي يقاس منها منسوب مياه النيل
أوقات الفيضان!
أما إريتريا: فقد انبعث أشقاها (أفورقي) الصليبي، وسارع إلى الاستجابة
المبكرة للدعوة الظالمة بمناصبة السودان العداء، فبادرت حكومته إلى قطع العلاقات
مع السودان متهمة إياه بمساعدة تنظيم الجهاد الإسلامي الإريتري.
وأقبل حاكم إريتريا على خطوة دبلو (ماشية) هي الأغرب من نوعها في
تاريخ العلاقات بين الدول، إذ سلم السفارة السودانية في أسمرا إلى المعارضة،
لتجعلها مركزاً للتخطيط والتآمر على الحكومة السودانية! .
وأما أوغندا فرئيسها (يوري موسيفيني) صليبي حاقد، حكم أوغندا حكماً
صليبيّاً بعد أن كانت إحدى الدول الإسلامية في عهد (عيدي أمين) ، و (يوسيفيني)
هذا صديق شخصي وزميل دراسة للأسقف (جارانج) !
أما موقف جارة السودان الشقيقة الكبرى مصر، فهو موقف عجيب غريب من
بلد عربي مسلم ضد جار شقيق له، مهما كان الخلاف بينهما.
فالسودان عمق استراتيجي لمصر، ولا يؤمَن جانب (جارانج) وعصابته فيما
لو آلت الأمور إليهم لا قدر الله، وحينها لا ينفع الندم.
رابعاً: إسرائيل:
السيطرة على النيل حلم قديم، بل عقيدة عتيدة عند اليهود، فعبارة التوراة
المحرفة لا تزال تعلو الكنيست الإسرائيلي: (لنسلِك أعطي هذه الأرض، من النهر
الكبير نهر النيل إلى نهر الفرات) ، ونهر النيل (الكبير (لا يمكن السيطرة عليه من
رأسه، بل لا بد من جذوره، وإسرائيل اليوم تمد يديها حثيثاً إلى جذوره وأصوله.
إن خبراء الحروب وخبراء الاقتصاد في العالم يتحدثون منذ سنوات عن أن
الحروب القادمة في الشرق الأوسط ستكون حروب مياه، وها قد بدت معالم أول
حرب للمياه، وبأموال السحت اليهودي أو أموال صندوق النقد الدولي يشرع لليهود
في بناء السدود هناك، عند الجذور، بالاتفاق مع الأحباش الإثيوبيين، والنصارى
الإريتريين، حيث يجري العمل للسيطرة على منطقة البحيرات التي تغذي نهر
النيل بموارده المائية من بحيرتي (فيكتوريا) التي ينبع منها النيل الأبيض، و (تانا)
التي ينبع منها النيل الأزرق، وهما يلتقيان في الخرطوم.
الحكومة الإريترية الآن صناعة إسرائيلية، وإسرائيل هي المصدر الأساس
لتسليح هذه الدويلة الصغيرة المستكبرة، الضعيفة المستقوية، وقد أقامت إسرائيل
قاعدة عسكرية كبيرة في الأراضي الإريترية عام 1994م، تحتوي على أجهزة
متطورة ونقاط مراقبة وتجسس يمكن أن تقع تحت طائلتها أراضي السودان وأعالي
البحر الأحمر بشواطئه وموانيه، وبسلاح إسرائيل احتل نصارى إريتريا جزيرة
(حنيش) ، ليتحقق حلم آخر لليهود، وهو تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة إسرائيلية، بدءاً من ميناء (إيلة) المسمى (إيلات) ، وانتهاءً بمضيق باب المندب الذي تتهدده
(حنيش) !
خامساً: الجيش الجنوبي:
(جارانج) أو (قرنق) أو (غارانغ) على اختلاف بين الصحف الناطقة بالضاد
رجل واضح، ليس في أهدافه غموض أوالتواء، شكل حركة أسماها: (الجيش
الشعبي لتحرير السودان) ، نعم.. السودان، كل السودان، فهو يعتبر العرب
والمسلمين أقلية وافدة، ويقول: (العرب في الشمال كالبيض في جنوب إفريقيا،
وإنهم سيخرجون من السودان كما خرج العرب من الأندلس التي مكثوا فيها قروناً
طويلة) !
وبما أن العرب والمسلمين أقلية تحكم السودان كما يزعم فهو لهذا يريد أن
(يحرر) كل السودان، ووسيلته في ذلك (حركة تحرير السودان) ، لا جنوب
السودان فقط! .
إن هذا الحلم الأسطوري لا يزال يساور صنيعة مجلس الكنائس العالمي، ففي
حديث أجرته جريدة الشرق الأوسط في 11/9/1417هـ، قال بالحرف الواحد:
(هدفنا ليس احتلال أجزاء في الجنوب أو في الشرق، بل تحرير البلد ككل) ! !
فمن أي شيء يريد تحرير البلد ككل، هل من أشخاص الحكومة الحالية؟ ، لا..
فهو يحارب قبل مجيئها، ولكنه يقصد بالطبع توجهها، وهو الإسلام، فهو ما صعد
حربه وما سعرها إلا بعد أن بدأت تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية في عهد الرئيس
الأسبق (جعفر نميري) رغم ما قيل عن أهدافها وقتذاك.
والمصيبة: أن الوجه القبيح لـ (جارانج) وجد من يطليه بالأصباغ ويجمله
بـ (المكياج) ، ليتحول من انفصالي خائن إلى مصلح وحدوي ناصح، فبعد أن
وضع أهل الشمال يمينهم في يمينه أغروه بالمزيد من الطغيان والعصيان، وأمدوه
بشرعية ما كان يحلم بها، ووضعوه في المقدمة: مقاتلاً تحت راية الصليب يقود
رعاعاً يزعمون التوحيد! ، وما دام الصادق (المهدي) قد وضع يده في يد (جارانج)
(الضال) فمن حقه أن يهاجم من يرفعون راية الجهاد ضد جيشه الصليبي، لقد قال:
(تتحدث الجبهة عن الحرب باعتبارها جهاداً، لكن جهاد ضد من؟ ، ضد
السودانيين؟ ، نحن في التجمع الوطني نمثل السودان كله) ! ، نعم، (جارانج)
وطني من التجمع الوطني، والدليل على وطنيته أن رسالته للدكتوراه أعدها عن
مشروع قناة (جونقلي) في جنوب السودان، تلك القناة التي كانت من المفترض أن
تجمع مياه المستنقعات لتصب في النيل الأبيض، وتوفر ما يزيد على ستة عشر
مليار متر مكعب من المياه التي تضيع في بحر الغزال.
ماذا فعل (جون) بعد أن أنهى رسالته وبدأ ثورته، لقد أوقف العمل في هذا
المشروع، ثم عمد إلى نسف منشآت تلك القناة وطرد مهندسيها المصريين
والسودانيين! .
إن قوات (جارانج) الآن تتجه الآن بعد الاستيلاء على (الكرمك) و (قيسان)
إلى التحكم في ولاية النيل الأزرق، وبالتالي: في 85% من المياه المتدفقة إلى
الشمال في مصر والسودان! .
فهل بدأت المعارضة تجني ثمار ثورتها الديمقراطية (المسلحة) ؟ ! .
سادساً: حقيقة المعارضة:
تضم فصائل التجمع الوطني للمعارضة التجمعات التالية:
1- الحزب الاتحادي الديمقراطي، بزعامة (الميرغني) .
2- مؤتمر البجا القيادة الشرعية.
3- الحزب الشيوعي السوداني.
4- حزب الأمة، بزعامة (الصادق المهدي) .
5- الحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة (جون جارانج) .
وقد حسمت فصائل المعارضة الأربعة الأولى أمرها بتبني الخيار المسلح
(الخروج) لمنازلة السلطة القائمة تحت قيادة الفصيل الخامس صاحب الراية
الصليبية! ، فهل يمكن أن يدعي رئيس حزب الأمة بعد ذلك أنه (صادق) أو
(مهدي) ؟ !
وأكثر من هذا: لقد سئل المهدي سؤالاً صريحاً.. هل تقبل بأن يحكم
(جارانج) السودان، وأن تعيش في ظل حكومة سودانية يحكمها هذا الرجل؟ ،
فأجاب بلا تلعثم كعادته في الفصاحة: (نعم أقبل.. إذا كان ذلك هو اختيار الشعب
في ظل حكم ديمقراطي) [المجتمع العدد 1238] ، أقول: أيها الصادق في
ديمقراطيتك.. نحن نكفر بهذه الديمقراطية التي تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
وأخيراً: هناك حقيقة لا بد من تسجيلها، وكلمة لا مناص من قولها، وهي
أن التوجه الحالي في السودان لم يصنعه الترابي ولا البشير، بل هو توجه أصيل
وعميق في ضمير الشعب السوداني الذي التف حول كل من دعا إلى الإسلام.. لقد
التف السودانيون منذ قرن من الزمان حول الحركة المهدية رغم ما شابها من
انحراف، وما كان التفافهم حولها إلا لأنها رفعت الراية الإسلامية وقاتلت تحت
لوائها الإنجليز النصارى.. والتف السودانيون حول (جعفر نميري) بقوة عندما
ادعى الحكم بالشريعة الإسلامية، وحتى المهدي زعيم الأنصار لم يلتف السودانيون
قبل ذلك حوله إلا لتدثره بالثوب الإسلامي وادعائه نصرة الدين، فشعب السودان
مسلم متدين قبل الترابي وبعده، وقبل البشير وبعده، والذين يحاربون التوجه
الإسلامي في السودان، لا يحاربون الترابي ولا البشير، إنما يقفون أمام إرادة أمة
اختارت الإسلام منهجاً وسبيلاً.
أما الترابي، فلسنا مع طروحاته العقلية أو شطحاته الفلسفية التي نجزم بأن
عوام المسلمين والمؤمنين من أهل السودان لا يفهمونها، ولو فهموها ما تبنوها، أما
خواصهم وعلماؤهم فالأمل معقود على ريادتهم لصحوة علمية وتربوية تقود هذا
الشعب جياش العاطفة إلى الإسلام ... الإسلام وحده، لا إلى الثورات ولا إلى
الجبهات.