متابعات
عفواً ... يا فضيلة المفتي
الحق خلاف ما ذكرت
بقلم: محمد شاكر الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم..
أما بعد.
فقد اطلعت في عدد جريدة الحياة رقم (12325) المنشور بتاريخ 12/7/
1417هـ، على حديث لمفتي مصر الجديد فضيلة الشيخ (نصر واصل) أجرته
معه الجريدة، ورغم ما لي من تحفظات على بعض ما جاء في حديثه السالف، فإن
من كلامه الذي استوقفني أكثر من غيره موضوعين:
الأول: حديثه عن المرتد المدعو (نصر أبو زيد) .
الثاني: حديثه عن إلزام فتوى المفتي للجميع.
لكن الذي أود مناقشته في هذه المقالة هو ما جاء من كلامه في الموضوع
الثاني، إذ إنني أرى أن الموضوع الأول يظهر فيه وجه الحق لكل من تابع بفهم
قضية المذكور، واطلع على بعضٍ من أقواله، وحيثيات الحكم الصادر بحقه، لذا: فإنه لا حاجة لي هنا في الحديث عنه، بل أعود إلى الموضوع الثاني الذي قد
يلتبس أو تخفى حقيقته على كثير من الناس.
ولنبدأ بذكر أقوال فضيلته في الموضوع المشار إليه حسبما جاء في الجريدة،
ثم نتبع ذلك بالمناقشة:
يقول عفا الله عنا وعنه ردّاً على سؤال الجريدة: (كيف ترى إصلاح الخلاف
القديم بين الأزهر ودار الإفتاء؟) ، يقول: (كانت هناك مشكلة في شأن من له حق
الولاية الشرعية على الفتوى في مصر، وأقول: إن هذه الولاية هي للمفتي وحده
دون منازع، وفتواه ملزمة، وإن أخطأ فهو مسؤول أمام الله (سبحانه وتعالى) ،
والعلاقة بين المفتي وشيخ الأزهر متصلة ومتشابكة إلا إن هناك اختصاصاً لكل
منهما، وشيخ الأزهر على قمة المؤسسة العلمية الأزهرية، ومن وظائفها: البحث
والاجتهاد، لكنها لا تصدر فتاوى، فهذه يصدرها المفتي؛ لأنه صاحب الحكم
الشرعي والولاية الرسمية على الفتوى) .
ويقول المفتي ردّاً على سؤال الجريدة: (لكن.. ألا ترون أن مثل هذا
الخلاف الذي يمس أموراً حياتية مثل: فوائد المصارف يثير بلبلة لدى الناس؟) .
يقول: (الفتوى الرسمية قالت: إن الفوائد حلال؛ لأنها مقبولة من الطرفين،
أما الرأي الآخر، فكان اجتهاداً، وتحويله إلى فتوى رغم وجود فتوى رسمية هو
الذي خلق تلك البلبلة، والرأي الملزم هو ما قال المفتي، ونحن متمسكون بهذه
الفتوى، وأؤكد أن كل فتوى صدرت عن دار الإفتاء ملزمة للجميع) انتهى المقصود
منه.
وأبادر إلى القول بأنه ليس من مقصودنا ولا يجوز لأحد أن يظن أننا في هذه
المناقشة نريد الانتصار لشخص من الأشخاص، إذ المقصود إن شاء الله هو
الانتصار للدين، وقد حان الآن وقت الشروع في مناقشة تلك الأقوال:
أولاً: إن فتوى المفتي هي إخبار عن أو بيان لحكم الشرع في القضية
المعروضة [1] ، والمفتي في حديثنا هنا هو: من تأهل لهذا المنصب واستحقه
بضوابطه المعروفة، ولسنا نتحدث عن الأدعياء، فهؤلاء خارجون عن حديثنا،
فنقول: لم يَقُمْ الدليل الشرعي على عصمة المفتي فيما يبلغه للناس أو يبينه من
أحكام الشرع، كما لم يقم الدليل الشرعي على وجوب التزام جميع المسلمين لما
يفتي به، إذ طبيعة عمل المفتي لا تقتضي ذلك الإلزام ولا توجبه.
يقول القرافي: (المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق
بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص، إن كان المفتي مجتهداً) [2] ، ثم يبين
أن فتواه ليست ملزمة للجميع، ويجوز الفتوى بخلافها حتى وإن كان المفتي هو
الإمام الأعظم، فيقول: (النوع السادس: من تصرفات الحكام: الفتاوى في الأحكام
في العبادات وغيرها من تحريم الأبضاع، وإباحة الانتفاعة! ، وطهارة المياه،
ونجاسة الأعيان، ووجوب الجهاد، وغيره من الواجبات، وليس ذلك بحكم، بل
لمن لا يعتقد ذلك أن يفتي بخلاف ما أفتى به الحاكم أو الإمام الأعظم) [3] .
وفي هذا المعنى أيضاً يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) : (وما يجوز أن يحكم
به الحاكم، يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع، بل الفتيا أيسر، فإن الحاكم يُلزِم،
والمفتي لا يُلزم) [4] .
ويقول الشاطبي: (المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا إنه لا
يُلزمه المفتي ما أفتاه به) [5] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في بيان ذلك: (قد ثبت بالكتاب
والسنة والإجماع أن الله (سبحانه وتعالى) فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما
يأمر به وينهى عنه إلا رسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان صدِّيق الأمة
وأفضلها بعد نبيه يقول: (أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي
عليكم) [6] [7] .
من كل ما تقدم وغيره يتبين أن قول القائل: إن كل فتوى صدرت عن دار
الإفتاء، أو عن المفتي، أو عن فلان، هى فتوى ملزمة للجميع.. هو قول بيِّن
الخطأ.
ثانياً: أن المسلم لا يلزمه أن يقتصر في طلب الفتوى على مفتٍ واحد، بل له
أن يستفتي فيما ينزل به أكثر من مفتٍ ممن يثق في علمهم ودينهم و (اعتقد أنه يفتيه
بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان) [8] وإذا اختلفت فتوى المفتين عليه، أخذ
من تلك الفتاوى ما ترجح لديه منها بحسب قدرته.
يقول ابن تيمية في بيان ذلك: (وأما تقليد المستفتي للمفتي، فالذي عليه الأئمة
الأربعة، وسائر أئمة العلم: أنه ليس على أحد ولا شُرع له التزام قول شخص
معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن
منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه، ومنهم
من يقول: بل يخير بين المفتين، [و] إذا كان له نوع تمييز فقد قيل: يتبع أي
القولين أرجح عنده بحسب تمييزه، فإن هذا أولى من التخيير المطلق، وقيل: لا
يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد، والأول أشبه؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد
القولين: إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع: فله ذلك
وإن خالف قوله المذهب) [9] .
ويقول ابن القيم: (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال،
أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يعدل إلى مفتٍ آخر،
فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن
يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ ، فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع) [10] .
ولم يكن من هدي السلف الصالح استفتاء عالم بعينه دون نظرائه من العلماء،
والتزام أقواله كلها بحيث لا يخرج عنها، فإن ذلك من البدع الحوادث، ... ... كما ذكره ابن القيم [11] ، وابن عبد البر [12] ، وابن حزم [13] ، والشاطبي [14] ، ...
وولي الله الدهلوي [15] ، والفُلاني [16] ، وسند بن عنان المالكي [17] ، ومحمد
حياة السندي [18] ، والشوكاني [19] .
ومن هنا يتضح أن قول القائل: إن الولاية على الفتوى هي للمفتي وحده دون
منازع، وأن فتواه ملزمة هو تجنٍّ على الحق وتجاوز للحد، وادعاء ما أنزل الله به
من سلطان.
ثالثاً: أن الفتوى ليست حكراً على طائفة معينة أو فرد ما، بل كل من
استجمع شرائط الفتوى المعتد بها، حُقّ له أن يخبر عن أحكام الشرع؛ إذ الإخبار
عن أحكام الشرع وبيانها للناس هو من فروض الكفايات، وليس لأحد أن يحصر
الفتوى في فرد أو طائفة بحيث لا تصدر الفتوى إلا منه أو منهم، ويمنع من الفتوى
من هو مثلهم ممن تتحقق فيه شروط الفتوى، أخرج الدارمي في سننه من حديث
أبي كثير مالك بن مرثد أنه قال: (أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى،
وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْهَ عن ... الفتيا؟ ، فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عليّ، لو وضعتم الصّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) [20] .
قال ابن حجر (رحمه الله) : (إن الذي خاطبه رجل من قريش، وإن الذي نهاه
عن الفتيا عثمان (رضي الله عنه) ، وكان سبب ذلك: أنه كان بالشام، فاختلف مع
معاوية في تأويل قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ] [التوبة: 34] ، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا،
فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال
أبي ذر عن المدينة فسكن الرّبَذَة (بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة) إلى أن مات، رواه النسائي، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن
الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه) [21] .
ويبين شيخ الإسلام (رحمه الله) الحالة التي يمنع فيها العالم من الفتوى بقوله:
(وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه أخطأ، فإن بين
له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع،
بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك، وجب أن يُمنع من
ذلك، ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته
باتفاق المسلمين، ولا مَنْعه من ذلك القول، ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان
يقول: إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء
المسلمين) [22] .
رابعاً: أن المفتي قد خلط في حديثه ذاك بين الفتوى والقضاء، إذ كثيراً ما
يختلط هذا بذاك على العوام أو غير المتخصصين، فكان خلطه في ذلك من ثلاثة
وجوه:
الأول: عده الفتوى ولاية من الولايات الشرعية، وهذه في القضاء وليست
في الفتوى.
الثاني: قوله بلزوم كل ما صدر عن دار الإفتاء للجميع، وهذا فيما صدر عن
القاضي أو الحاكم في قضايا الأعيان.
الثالث: جعله المفتي مفتقراً لكونه مفتياً إلى إسناد هذا الأمر إليه من ولي
الأمر، وهذا في القضاء.
ولتفصيل هذا الاختلاط الواقع في الحديث عن الفتوى نقول:
1- إن الفتوى ليست ولاية من الولايات الشرعية، وإنما الذي يقال في حقه
إنه ولاية مما يمكن أن يشتبه أمره على العوام أو غير المتخصصين إنما هو القضاء، وقد عدد الماوردي في (الأحكام السلطانية) وكذلك أبو يعلى الفراء في كتابه
(الأحكام السلطانية) الولايات، فذكر كل واحد منهما القضاء فيما ذكرا من الولايات، ولم يذكر واحد منهم الفتوى، وكذلك عَدّ القرافي في كتابه (الإحكام في تمييز
الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) الولايات، وقسمها إلى خمسة عشر
قسماً، وذكر فيها القضاء، ولم يذكر فيها الإفتاء، وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام (ابن
تيمية) في كتابه (السياسة الشرعية) كثيراً من الولايات، وتحدث عن أحكامها،
فذكر منها القضاء ولم يذكر الإفتاء، وبالجملة: فلست أعلم أحداً ممن يُعتد به ذكر
(الإفتاء) ضمن الولايات.
2- إن القول الملزم إنما هو للقاضي أو الحاكم (والقاضي والحاكم لفظان
مترادفان في اصطلاح الفقهاء) والمفتي إنما له الإخبار، ف (المفتي مخبر محض،
والحاكم منفذ وممضٍ) [23] .
وقال علاء الدين الطرابلسي (فحقيقة القضاء: الإخبار عن حكم شرعي على
سبيل الإلزام، ومعنى قولهم: (قضى القاضي) ، أي: ألزم الحق أهله) [24] وقال
ابن الشحنة الحنفي: (القضاء في اللغة عبارة عن اللزوم، ولهذا سمي القاضي
قاضياً؛ لأنه يلزم الناس، وفي الشرع يراد بالقضاء: فصل الخصومات وقطع
المنازعات) [25] .
وقال ابن القيم فيما نقله عن أبي عثمان الحداد: (القاضي أيسر مأثماً وأقرب
إلى السلامة من الفقيه [يريد المفتي] ؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من
ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنى وتثبت تهيأ
له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة) انتهى.
يقول ابن القيم معقباً: (وقال غيره: المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي؛
لأنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله، وإن شاء تركه، وأما القاضي فإنه يلزم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم،
ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء، فهو من هذا الوجه خطره أشد) [26] .
والشاهد فيه: قوله عن المفتي: إنه (لا يُلزم بفتواه) ، وقوله عن القاضي:
إنه (يلزم بقوله) ، والفتوى أوسع مجالاً من القضاء، إذ كل ما يقضي فيه القاضي
أو الحاكم يمكن للمفتي أن يفتي فيه، والعكس ليس بصحيح، فليس كل ما يفتي فيه
المفتي يمكن أن يقضي فيه القاضي، يقول ابن القيم تعليقاً على ما نقلناه سابقا:
(فكلّ خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به،
ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى، فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي
وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله،
فالمفتي يفتي حكماً عامّاً كليّاً: أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه
كذا، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلزم،
وفتوى العالم عامة غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير) [27] .
ويقول القرافي في (الفرق بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم) : (اعلم أن
العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة، بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها
من الإخبارات فهي فتيا فقط، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو
باطلة، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجساً فيحرم على المالكي بعد ذلك
استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا، إن كانت مذهب السامع عمل بها، وإلا
فله تركها والعمل بمذهبه) [28] .
3- المفتي لا يفتقر في كونه مفتياً إلى جهة تسند إليه أمر الإفتاء غير تحقق
شروط المفتين فيه، في حين أن القاضي لا يصير قاضياً بتحقق شروط القضاء فيه
حتى يُسنِد إليه أمر القضاء من له الحق في ذلك الإسناد، وهو الخليفة أو من يقوم
مقامه، يقول الماوردي: (ولو اتفق أهل بلدٍ قد خلا من قاضٍ على أن قلدوا عليهم
قاضياً، فإن كان إمام الوقت موجوداً بطل التقليد، وإن كان مفقوداً صح التقليد
ونفذت أحكامه عليهم، فإن تجدد بعد نظره إمام لم يستدم النظر إلا بإذنه، ولم
ينقض ما تقدم من حكمه) [29] .
ويقول الشيرازي وبنحوه ابن قدامة الحنبلي وابن الهمام الحنفي: (لا تجوز
ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام؛ لأنها من المصالح
العامة) [30] .
والمفتي المتحقق فيه شروط الإفتاء له أن يفتي ولا يفتقر ذلك إلى تعيين من
جهة ما؛ لأن ذلك من قبيل تبليغ الدين، وبالتالي: فليست هناك فتوى يقال عنها:
إنها فتوى رسمية، وأخرى يقال عنها: إنها غير رسمية، طالما أن الفتوى خرجت
ممن يحق له أن يفتي، ومعيار الصواب في الفتوى قائم على الالتزام بنصوص
الشرع والإفتاء بها أو بموجبها، وليس لفتوى امتياز على فتوى أخرى إلا
بانضباطها بذلك المعيار.
خامساً: أن الربا حرام بالنص والإجماع المتيقن، لا تُحله فتوى يقال عنها:
إنها رسمية أو غير رسمية، وكل فتوى خالفت ذلك التحريم فهي فتوى باطلة يحرُم
الإفتاء بها أو العمل بمقتضاها، وليس ما يقال عنه من فوائد البنوك إلا صورة من
صور الربا المحرم بالنص والإجماع، وذلك أن حقيقة هذه الفائدة إنما هي (زيادة
اشترطت في رأس المال في مقابل الأجل) [31] (التأخير) ، سواء أكانت الزيادة
مما يعطيها البنك للمودع (المُقرض) أو يأخذها البنك من المقترِض، فكل ذلك من
الربا الجلي بيقين.
وهذه الصورة المحرمة من صور الربا لا يُحلّها وجود فتوى يقال عنها إنها
رسمية قالت بحلها، كما لا يُحِلّها القول بأنها معاملة: (مقبولة من الطرفين) ؛ إذ
ليس قبول الطرفين في المعاملات هو الموجب الوحيد للحِل في المعاملات، فالقمار
حرام ولو كان برضا الطرفين، والزنا حرام ولو كان برضا الطرفين.. فالرضا
وإن كان معتبراً في المعاملات لكنه لا يحل ما حرم الله، وهذا واضح لا إشكال فيه.
ومن كل ما تقدم:
يتبين لنا أن كلام المفتي على قصره قد احتوى على كثير من الأمور المخالفة
للشريعة، من ذلك:
1- قوله إن الإفتاء ولاية.
2- قوله إن المفتي الذي عينه ولي الأمر هو الذي له حق الفتوى دون غيره
من أهل العلم.
3- قوله إن فتوى المفتي ملزمة لكل الناس.
4- خلطه وعدم تفريقه بين الإفتاء والقضاء.
5- قوله بحل فوائد البنوك، ومخالفته في ذلك للإجماع القطعي لعلماء الأمة
قديماً وحديثاً.
وأخيراً:
فإن هذه الأخطاء الكثيرة الكبيرة المتتابعة ليس من السهل غض الطرف عنها، لاسيما وأنها جاءت ممن يتصدر الفتوى.
ولعل هذا الحديث الذي أدلى به فضيلة المفتي كان فرصة للتذكير وتبيين هذه
الأمور، التي أصبحت تخفى على بعض المفتين في هذا العصر.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح،
وأن يثقل به موازيننا يوم العرض عليه، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه ويرينا
الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
... ... ... ... ... ... ... ... والله من وراء القصد،