في دائرة الضوء
تحولات التعبير..
عن الفكر الإسلامي المعاصر
بقلم: د. محمد يحيى
شهد الخطاب الدعوي أو الفكري الإسلامي (وأنا أفضل أن أسميه بالحديث
تجنباً للمصطلح الآخر غير الدقيق) تحولات عدة في السنوات الأخيرة، كادت
تنحرف به بعيداً عن المسار الصحيح، ولو كانت هذه التحولات حدثت استجابة
طوعية متدبرة لمتغيرات طرأت على الساحة، أو كانت من علامات النضج
والتطور إلى الأفضل: لكانت مما يستحق الترحيب والتشجيع، إلا إنها في نظري
وقعت تحت ضغط ظروف وأوضاع غير طبيعية وغير مقبولة فُرضت على هذا
الحديث الفكري الذي أقصد به الكتابات الإسلامية المتحدثة عن هذا الدين، ولعل
أبرز هذه الضغوط: تلك الضجة القبيحة المثارة في أجهزة الإعلام ومن ورائها
دوائر ثقافية واجتماعية وسياسية في الغرب بل وفي أنحاء عدة من العالم الإسلامي
ضد مجمل الأوضاع الإسلامية، وهي ضجة صاحبتها تحركات سياسية وأمنية
أثمرت اضطرابات وصراعات زادت الأمور بلبلة واضطراباً، وقد ولدت هذه
الضغوط الشديدة التحولات التي أعنيها في الحديث الديني المعاصر، ولا سيما ما
يصدر منه عن جهات وهيئات تقع بحكم طابعها تحت سيطرة أو تأثير الدوائر
صاحبة الحملة على الإسلام.
وإذا أردنا أن ندخل مباشرة إلى وصف معالم تلك التحولات دون أن نسهب في
تفصيل الضغوط والظروف غير الموضوعية التي أدت إليها، للاحظنا على الفور
تحول نبرة الحديث الديني ومحتواه من الطرح الإيجابي الواثق وأكاد أقول
(الهجومي) لولا الإيحاءات السيئة التي قد تحيط بهذه الكلمة إلى نوع من الموقف
الدفاعي والاعتذاري والتبريري الذي كان قسمة من قسمات الحديث الديني البارزة
في عنفوان الهجمة الغربية الاستعمارية والعلمانية في مطلع هذا القرن وأواخر القرن
الماضي.
ويلمح المرء سمات هذه الردة أو التراجع في الحديث الديني كأشد ما تكون في
نفي تهم التطرف والإرهاب والتعصب عن الإسلام والمسلمين في وجه الطرح الدائم
لهذه الاتهامات في الأجهزة المعادية، ويصاب المرء بالدهشة الشديدة بل وبالهلع
عندما يجد أن معظم الحديث الديني الإسلامي في الوقت الراهن يخصص للرد على
هذه الاتهامات، إلى حد أن نفي التهم أصبح طقساً مقدساً من طقوس الكتابة
الإسلامية.
ويتصور المتابع لهذه الكتابات ومنها ما يصدر عن مراجع دينية وعلمية
رسمية مرموقة المناصب أن الإسلام لا يحتوي من المبادئ إلا مبدأ نفي تهمة
التطرف والأصولية عنه، وأن هذا الدين ما نزل إلا ليعلن أنه العقيدة التي لا
تُغضِب الآخرين ولا تختلف معهم، وتمتزج بهذه الكتابات والأطاريح الاعتذارية
نبرة من الاستخذاء والإحساس بالدونية، وتكون عقدة بالذنب تجاه غير المسلمين،
الذين يفترض أن الإسلام قد عاداهم وظلمهم طيلة عهده بالوجود، وأذكر أنني
طالعت في أواخر جمادى الأولى مقالاً صحفيّاً يتناول لقاء وزير للشؤون الدينية في
بلد مسلم كبير مع وفد من التجار الألمان، وهالني أن الرجل لم يتحدث إليهم بكلمة
واحدة تعرفهم بمبادئ الإسلام أو عقيدته، بل تركز حديثه على موضوع واحد فقط،
وهو طمأنة زواره أن الإسلام بريء من التطرف والإرهاب، وكأنه يسم إخوانه
المسلمين بهذه التهم ثم يحاول الاعتذار للأجانب الذين لا يهتمون إلا بالصفقات
التجارية عن هؤلاء المسلمين، وقد وصل الأمر إلى أن العديد من المؤتمرات التي
تعقد هنا وهناك في العالمين العربي والإسلامي من جانب المؤسسات الدينية لا
تبحث إلا في قضية نفي التهم المختلفة عن الإسلام من التعصب إلى انتقاص حقوق
المرأة والإنسان.
إن للجانب الدفاعي في الفكر الإسلامي دوراً لا ينكر في الذب عن تعاليم الدين
وعقيدته ودحض الشبهات والافتراءات ببيان الحقائق جلية ناصعة، لكن لا يعني
هذا أن الحديث الديني ينبغي أن يكون كله مكرّساً لهذا الجانب، أو أن الدفاع عن
الدين في وجه الاتهامات لا بد وأن يتحول إلى نوع من الاعتذار المستخذي أو
التبرير دونما حاجة إلى تبرير، كما أن القيام بواجب الدفاع الفكري عن الدين لا
يعني تناول كل اتهام يوجه إلى هذا الدين من أي مصدر كان، لا سيما وأننا نشهد
في هذه الفترة سهولة وسيولة في توجيه الاتهامات إلى الإسلام من كل حدب وصوب، حتى من جانب صحف الدرجة الثالثة والأقلام المشبوهة التي لا يستطيع المرء
الرد عليها دون أن يحط من قدر نفسه بمجرد النزول إلى مستوى مخاطبتها، والفكر
الدفاعي الواعي والمتزن لا يمكن أن يستدرج إلى الدوران في حلقة مفرغة من الرد
(اللانهائي) الواحد على تهمة واحدة توجه بشكل (لا نهائي) أيضاً كما هو الحال في
تهم التطرف والإرهاب والأصولية التي نسمعها الآن توجه منذ أكثر من عقد من
الزمان وبالحدة نفسها والصيغ المبسطة ذاتها دون أن يفلح الرد والنفي الدائم لها من
جانب المسلمين في التخفيف منها أو إسكاتها، ولا بد لنا أن ندرك في هذا الصدد:
أن توجيه الاتهامات والشبهات إلى الإسلام والمسلمين لا يكون مدفوعاً إلا في حالات
قليلة بالرغبة الصادقة في المعرفة أو بسوء الفهم أو نقصه، فالباعث الأكبر وراء
هذا التوجيه الملح لِكَمٍّ محدودٍ من الاتهامات المبسطة المطروحة بشكل دائم رغم كل
الردود عليها هو تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وإشغالهم بالرد عليها، وحصر
تنوع وثراء الفكر الإسلامي في نطاق ضيق لا يتعدى مجرد نفي تهم محفوظة
مكررة بمقولات معادة مملة، كتلك الكتابات التي نعهدها والتي لا تفتأ تجتر مقولات
حقوق المرأة أو الأطفال أو العمال في الإسلام في وجه الاتهامات، دون أن تقدم لنا
أطاريح إيجابية حول كيفية ضمان هذه الحقوق في دنيا الواقع، أو تربط مفاهيم
الحقوق بالإطار الإسلامي الأوسع.
ويبدو على ضوء ما نراه حولنا من تردي الحديث الإسلامي إلى هوة الاعتذار
والتبرير وعُقَد الدونية والذنب: أن ما ابتغاه القائمون على الطرح الرتيب للاتهامات
ضد الإسلام قد تحقق بشكل كبير، فالتركيز الشديد على مجرد نفي الاتهامات
ومحاولة الرد عليها، ثم الرد مرة ثانية بعد إعادة طرحها.. وهكذا دواليك: قد حرم
الفكر الإسلامي من تقديم أي أطاريح إيجابية حول ماهية الإسلام، وطبيعة عقيدته
وشريعته، ومعالم حلوله لقضايا الحياة والإنسانية، ويزداد العجب والغيظ عندما
نجد من متابعتنا لما يجري في الغرب أن الفكر الكنسي النصراني هناك الذي هو
بحاجة شديدة إلى الدفاع عنه في مواجهة اتهامات حقيقية وخطيرة ظلت توجه إليه
على مدى سنين أو حتى قرون لا يشغل نفسه في هذه الفترة بالرد على الاتهامات،
بل يطرح النصرانية بشكل إيجابي يبرز أنها تقدم الحلول لمشكلات المجتمعات
الغربية! ! ، وأنها تستطيع معالجة أوجه الفشل والقصور في المذاهب العلمانية
نفسها التي كانت حتى عهد قريب تتعالى على نصرانية الكنائس وتصوب إليها
الاتهامات في مقتل، وهكذا.. فالفكر النصراني وهو واقع في وضع ضعف حقيقي
لا يرد ولا يستدرج إلى حلقة الفكر الدفاعي التبريري المفرغة، في حين أن الفكر
الإسلامي وهو القوى الواثق والواقف على أرض صلبة يجثو على ركبتيه؛ ليعتذر
عن نفسه ويبرر مجرد وجوده أمام اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا توجه
لغرض معرفة الحق، بل للكيد وللاستدراج إلى فخ الدفاع السلبي المعاد غير المقنع، وقد بلغ التردي في هوة الاعتذار والتبرير مداه حينما أصبحنا نجد أن جوانب
عديدة من الشريعة والأخلاق والقيم الإسلامية يجري تجاهلها بل وإسقاطها من بنية
الفكر الديني نفسه خوفاً من ألا تُعجب الأجانب وتصبح عرضة لتوجيه اتهامات
جديدة، وهكذا خفت الحديث أو اختفى عن تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إعداد
العدة للجهاد، أو تكريس الجهود لنشر الدعوة الإسلامية، أو رعاية قيم الفضيلة
والعفة والتماسك الأسري والحياء، إن أحداً لا يستطيع الآن في الحديث أو الخطاب
الديني الإسلامي أن يتحدث مثلاً عن ضرورة طاعة المرأة لزوجها، أو تطبيق
الحدود الشرعية، أو النهوض لمحاربة غير المسلمين المتسلطين على بلاد الإسلام، فكل هذا الحديث ممنوع في ظل سيادة نزعة دفاعية اعتذارية قد رتبت وجودها
على مجرد النفي الدائم والأزلي لاتهامات دائمة وأزلية.
إن هذا هو إحدى قسمات التحول في الحديث الديني المعاصر نتيجة لخضوع
بعض المتحدثين أو أكثرهم، للضغوط والظروف التي سلطت على هذا الخطاب.