في إشراقة آية
د. محمد عز الدين توفيق
في هذا المقال أحاول الحديث عن بعض معاني النفس اللوامة التي أقسم الله
تعالى بها في قوله (عز من قائل) : [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] مستفيداً في قراءتي للآية من أبحاث علم النفس
المعاصر؛ بقصد توسيع إدراكنا لمعاني هذا القسم الإلهي، ومعرفة بعض المقاصد
التي وراء الإقسام بالنفس الإنسانية عندما تتصف بهذه الصفة (صفة اللوم) .
أسلوب القسم في القرآن الكريم:
سورة القيامة مكية بلا خلاف، وموضوعها يُعرف من أول آية فيها، ولذلك
سميت به، وهذا من براعة الاستهلال، عندما تعرف موضوع الكلام من أول جملة
تسمعها منه.
وتنضم سورة القيامة إلى مجموعة من السور القرآنية المبدوءة بالقسم، والقسم
في لغة الناس وكلامهم طريقة في تأكيد ما يخبرون به، فهم يقسمون على الخبر
لأنه صحيح، ومهم، ويترتب على جحده من طرف السامع خطر أو ضرر،
ويُقسم الشخص على كلامه إذا لمس في الناس تردداً في تصديقه، ولا يلزم أن
يكون متهماً عندهم بالكذب، فقد يكون مصدَّقاً فيهم، ولكن غرابة الخبر تدعهم في
تردد بين صدق الخبر وغرابة الخبر، فيأتي القسم ليدعم صدق الخبر ويقويه،
حتى لا يدعو استغرابه إلى التكذيب به، والذي أخبر به الرسل من أمور الغيب
غريباً على الناس وهم في عالم الشهادة؛ فيستدلون لهم بصدقهم في أمور الشهادة
أنهم صادقون فيما أخبروا به من أمور الغيب، ومن طرق الاستدلال: القسم.
يتكون أسلوب القسم من: مقسم به، ومقسم عليه، وأداة القسم، ومن أمثلة
وروده في القرآن: القسم الذي جاء في سورة العصر، والمقسم به هو: الزمان، ...
أو صلاة العصر، والمقسم عليه هو: سعي الانسان الذي يجعله اما من أصحاب
الحكم العام (الخسران) أو الاستثناء الخاص (النجاة) ، وقد تظهر لنا مناسبة بين
المقسم به والمقسم عليه، وقد لا تظهر، وفي الحالتين فإن اختيار المقسم به والمقسم
عليه وتجاورهما في أي موضع من كتاب الله لا يخلو من حكمة ومناسبة.
المُقْسَم به في القرآن الكريم:
والله يقسم في القرآن بذاته وبمخلوقاته، وقد جاء في كتابه المنزل الإقسام بهما، فمثال الإقسام بذاته فقط قوله (سبحانه) : [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] ... [النساء: 65] ، ومثال الإقسام بالمخلوقات فحسب قوله (تعالى) : [فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم ِ* وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ] [الواقعة: 75 - 79] ومثال الإقسام بهما معاً قوله ... (تعالى) : [فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *ومَا لا تُبْصِرُونَ *إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ] [الحاقة: 38 - 40] ، وهذا أعظم قسم في القرآن؛ لأن الله (عز وجل) أقسم فيه بكل شيء، ففيه الإقسام بالخالق والمخلوق، وبالغيب والشهادة وبالسماء والأرض، وبالدنيا والآخرة، وتضمن الإخبار بالغيب كله.
وإذا كان له (سبحانه) أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقد أقسم بعدد منها،
فلا بد أن تكون في اختيار المقسم به حكمة خاصة غير الحكمة العامة التي يأتي من
أجلها القسم، وهي: توكيد المقسم عليه.
وقد أبدى العلماء حكمتين للمقسم به في القرآن الكريم:
الأولى: توجيه نظر الإنسان إليه؛ لأنه آية من آيات الله، فيكون الإقسام
بتلك الآية وسيلة لتوجيه نظر الإنسان إليها وتدبر ما فيها من عبرة، وأكثر أقسام
القرآن الكريم من هذا القبيل، فجميع الآيات الكونية والنفسية التي وجه القرآن
الكريم النظر إليها بأساليب أخرى جاء الإقسام بها.
الثانية: هي التنبيه على قدر المقسم به وفضله وشرفه، كما أقسم (تعالى)
بحياة نبيه، تبياناً لشرف هذه الحياة، فإنه أشرف عمر وأبركه بين أعمار الناس،
قال (تعالى) في قصة لوط وقومه: [لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] ... [الحجر: 72] وفي الإقسام بيوم القيامة والنفس اللوامة الحكمتان معاً؛ ففيه لفت النظر إلى الآيات المبثوثة فيهما، وفيه بيان قدر هذا اليوم وقدر هذه النفس.
المقسم عليه في القرآن الكريم:
لم يقسم في القرآن الكريم على مثل ما يقسم عليه الناس من أمور صغيرة
وتافهة، بل أقسم على القضايا الكبيرة، فأقسم على الحق الذي جاء به رسوله إلى
الناس، والله هو الحق، ولقاؤه حق، والنبيون حق، والجنة حق، والنار حق،
لقد أقسم القرآن الكريم على أعظم أركان الايمان وهو الإيمان بالله فقال (عز وجل) : [وَالصَّافَّاتِ صَفاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً *فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً*إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ]
[الصافات: 1- 4] ، وأقسم على صدق نبيه، فقال: [يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ* إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ] [يس: 1 - 3] ، وأقسم على صدق القرآن وأنه حق من عند
الله، فقال: [فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] [الذاريات:
23] ، وأقسم على صدق البعث وأنه واقع لا محالة، فقال [زَعَمَ الَذِينَ كَفَرُوا أَن
لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] ... [التغابن: 7] .
العلاقة بين المقسم به والمقسم عليه:
وحيث إن في كل قسم من أقسام القرآن مقسماً به ومقسماً عليه: فلا بد من
مناسبة بينهما، فإذا اتحد المقسم به والمقسم عليه وكانا شيئاً واحداً فالمناسبة هي هذا
الاتحاد نفسه، كما في سورتنا، حيث جعل (سبحانه) يوم القيامة مقسماً به ومقسماً
عليه. وإن اختلف المقسم به والمقسم عليه: فلا بد أن تظهر بعض المناسبات
بينهما، ففي قوله (تعالى) [وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى * والنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى * ومَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثَى * إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى] [الليل: 1- 4] ، كانت المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه: أن الليل والنهار هما وعاء الأعمال، ولا تتصور أعمال الناس خارج الزمن، فهم يتسلمون أعمارهم أقساطاً أقساطاً، ويصنعون منها أعمالاً تيسرهم لليسرى أو للعسرى.
وفي قوله (تعالى) [وَالْعَصْرِ*إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: 1-3] أقسم (تعالى)
بالعصر، وهو الزمان أو العمر؛ لأن المقسم عليه هو سعي الانسان الذي يجعله إما
من أصحاب الحكم العام (الخسران) أو الاستثناء الخاص (النجاة) ، وقد تظهر لنا
مناسبة بين مقسم به ومقسم عليه، وقد لا تظهر، وفي هذه الحالة فإن اختيار المقسم
به، والمقسم عليه وتجاورهما في أي موضع من كتاب الله لا يخلو من حكمة، ومناسبة.
النظر في القسم الوارد في سورة القيامة:
فلننظر في القسم الوارد في هذه السورة، لننظر أولاً في هذا الحرف الذي
سبق القسم، والذي قد يفهم منه نفي القسم، وليس كذلك: وليس هذا هو الموضع
الوحيد الذي جاء فيه القسم مبدوءاً بحرف (لا) ، فقد جاء في سورة البلد [لا أُقْسِمُ
بِهَذَا البَلَدِ] [البلد: 1] ، وفي سورة الانشقاق: [فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ] [الانشقاق:
16] ، وفي سورة الواقعة [فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ] [الواقعة: 75] ، وقد اتفق
المفسرون: أن (لا) في هذه المواضع ليست لنفي القسم، بل لتأكيده، والمعنى:
(أقسم) ، وأحسن ما قيل في زيادة (لا) على الفعل: أن ذلك مشهور في كلام العرب
كأن الخبر من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، والله (تعالى) أجل
وأعظم من أن يحتاج إلى القسم ليصدقه الناس، فهو أصدق القائلين، وإنما أقسم كما
قدمنا على ما جرت به عادة الناس في كلامهم من تأكيد الكلام بالإقسام عليه، ثم قدم
حرف (لا) لينفي ضرورة القسم، وهذا أبلغ في التأكيد، كما يحدث الرجل القوم
بحديث، ثم يقول لهم: إني لست بحاجة أن أقسم لكم على ما قلت؛ فإن دلائله
ظاهرة، وصدقه لا يحتاج إلى مزيد تأكيد.
ولننظر ثانياً في المقسم به الأول، وهو يوم القيامة: وقد سُمي بيوم القيامة؛
لأن أبرز حدث يقع فيه هو قيام الناس لرب العالمين، فالبعث والحشر والحساب،
هذه المواقف الثلاثة يشهدها الناس وهم قيام، فهو يوم القيامة.
ولننظر ثالثاً في المقسم به الثاني، وهو النفس اللوامة: وكلام المفسرين في
معناها يدور حول معنيين:
الأول: أنها النفس البشرية بصفة عامة، مؤمنة أو كافرة، تقية أو فاجرة،
فإن كل نفس تلوم صاحبها على أشياء، وإنما يختلف موضوع اللوم والباعث عليه
حسبما تدين به كل نفس من مبادئ وتعتنقه من تصورات.
الثاني: أنها النفس المؤمنة: فإن نفس المؤمن هي اللوامة، تلومه على كل
فعل حتى تطمئن أنه وقع خالصاً، وهذا المعنى الثاني مشتق من الأول، فالنفس
المؤمنة تشترك مع غيرها في أصل الصفة، وتتميز بموازينها الخاصة في وضع
اللوم موضعه الصحيح، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المعنى العام هو الأظهر؛
لأن له نظائر في أقسام أخرى، مثل القسم الوارد في سورة الشمس، حيث أقسم ... (سبحانه) بالنفس البشرية كما سواها، مؤمنة أو كافرة، تقية أو فاجرة، ونحن
سنحتفظ بالمعنيين كليهما لأنهما متكاملان، والاختلاف بينهما اختلاف تنوع لا
اختلاف تضاد، كما أن الإقسام بالنفس اللوامة إذا كانت هي النفس البشرية له معنى، وإذا كانت هي النفس المؤمنة له معنى آخر.
عندما تكون النفس اللوامة هي النفس البشرية:
عندما تكون النفس اللوامة هي النفس البشرية: فإن الإقسام بها في هذه الحالة
تنبيه على ما فيها من آيات، وخامة الآيات العقلية والمعرفية، فإن الإقسام بالنفس
البشرية وما تتمتع به من ملكات عقلية متعددة دعوة للتفكر في ذلك كله؛ ذلك أن
اللوم الذي وصفت به النفس البشرية في هذا القسم نوع من أنواع التفكر، والتفكر
إحدى عمليات العقل الداخلية المرتبطة بخاصية الفكر واللغة، فقد اتضح من أبحاث
علم النفس المعرفي أن اللغة ليست وسيلة للتخاطب الخارجي فقط، بل هي النظام
الأساس الذي يستخدمه الإنسان في التفكير أو الكلام النفسي، واللوم اتجاه من
الاتجاهات التي يسير فيها التفكر، فعندما يتجه تفكير الإنسان إلى أعماله
ولمراجعتها فهذا لوم، وتذكير الإنسان بالنفس اللوامة دعوة للنظر في آيتين:
إحداهما: آية الفكر بصفة عامة، والثانية: آية التذكر بصفة خاصة، لأن النفس
إنما تقوم بهذا اللوم بواسطتهما، وليس المجال مجال بسط ما قاله العلم الحديث في
آية الفكر، والعجز الذي أصابه عندما حاول بيان الصلة بين الجسم والعقل، فالعلم
البشري عندما يصعد من المستوى البيولوجي إلى المستوى العقلي في السلوك
الإنساني يلتقي بالتعقيد في قمته، وقد قال أحد العلماء: (إذا وفق النوع البشري في
استعمال كل وسائله الحالية لبناء كمبيوتر يمكن أن يفعل كل شيء يقوم به العقل
الإنساني سيكون هذا الجهاز بحجم كرتنا الأرضية، ولن يعرف أحد كيف سيبرمجه) .
ورغم هذا العجز الذي أصاب العلم البشري في فهم الصلة بين الفكر والسلوك، فإن القرآن الكريم دعا إلى التفكر في آيات الأنفس جسمية وعقلية؛ لأن نظر
الاعتبار غير متوقف على نظر التسخير، فإن الجهل بكيفية حدوث عمليات العقل
العليا لا يمنع من التفكر فيما يحدثه ويمارسه الإنسان، لقد وصف القرآن الكريم
النفس ب (اللوامة) ، وهذا يعني أن اللوم إحدى عملياتها، فالإنسان ليس مجموعة
من الاستجابات وردود الأفعال الآلية أو الحيوانية، ولكن الإنسان قوة حية واعية،
تفكر وتقرر وتفعل، وحياته الفكرية ممتازة في الاحتفاظ بالمعلومات إذا تم تدريبها،
وحصول التذكر المفاجئ لأحداث قديمة دليل على أن الاحتفاظ يحل في كل وقت،
أما حجم المعلومات التي تضمها سجلات الذاكرة فقد لا تتسع لها أضخم مكتبات
العالم.
والإنسان عندما يمارس حياته العادية لا يعي دور الذاكرة في حياته، ولكنه
عندما يتصور نفسه بدون ذاكرة سيعلم أنه يرتد إلى لحظة الولادة، وفي هذه الحالة
سيعجز عن أبسط الأعمال، ولن يعرف اسمه وعنوان بيته، فالذاكرة هي مدة العمر
وجرابه الذي يجمع الخبرات والمعلومات، والغريب: أننا نحمل معنا هذه الصرة
ولا نعرف أين هي، فإلى الآن لم يعرف العلماء أين تقع المراكز والأقسام التي
نحتفظ فيها بذكرياتنا، وكيف تتم برمجتها في تلك الأقسام، وهناك جملة من
النظريات تقدم تفسيرات مختلفة.
إن العلماء حائرون في معرفة تلك الورقة وذلك الحبر وتلك الحروف التى
يستخدمها عقلنا لتدوين وحفظ ما يصل إليه من معلومات، ولا زال الغموض يكتنف
مسلسل الذاكرة الثلاثي: التسجيل والاحتفاظ والاستدعاء، فلماذا يدعو القرآن الكريم
إلى النظر في آية التفكير عامة، وآية التذكر خاصة؟ ، ليس الهدف هو فهم كيفية
حدوث هذه العمليات، فهذا شأن العلوم البشرية التي تدرس الظواهر من أجل التنبؤ
والتسخير، بل الهدف هو: الاعتبار بها، سواء فهم مسلسل حدوثها أو لم يفهم.
إن هذه الملكات العقلية اللغوية ليست لحل مشكلات الحياة فقط، وليست
لمجرد التكيف مع البيئة والدفاع عن الذات والصراع من أجل البقاء، بل هناك
الوظيفة الإنسانية العليا، وهي استعمال هذه الملكات في محاسبة النفس ومراجعتها
استعداداً لحساب الآخرة.
ورغم أن الذاكرة نفسها سجل تدون فيه أعمال الانسان إلا أننا نؤمن بأن الله ... (تعالى) وكل بكل إنسان ملائكة يدونون أعماله تدوينا مستقلاً عن ذاكرته، ولا
يعرض لهذا التدوين ما يعرض للتدوين البشري من الاضطراب أو التحريف، ولأن
الإنسان لا يطلع في الدنيا على هذا التدوين الملائكي ليعرف ما فيه: جعل الله له
كتاباً -هو الذاكرة - يدون علومه واعماله، وبإمكانه الاطلاع على صفحات هذا
الكتاب في أي وقت، ولا يختلف ما فيه عما في الكتاب الآخر إلا في طريقة
التدوين.
الخلاصة: أن النفس اللوامة، إذا كان المقصود بها هو النفس البشرية،
فالإقسام بها لأجل توجيه نظر الإنسان إلى آيات الله في نفسه.
إذا كانت النفس اللوامة هي النفس المؤمنة:
وإذا كانت النفس اللوامة هي النفس المؤمنة، فالإقسام بها تنويه بقدرها
وشرفها عند الله (تعالى) ؛ لأنها وجهت ملكاتها العقلية في مجال التسخير، وهذا
تشترك فيه مع بقية النفوس، وفي مجال الاعتبار، وهذا ما تنفرد به، وبه
استحقت التنويه، هذا التنويه نالته النفس المؤمنة لأنها استشعرت هذه الملكات
الفكرية في أسمى مجال، وهو التهيؤ للقاء الله والتدرب على المحاسبة الشاملة التي
ستجرى بين يديه، فأي نفس لوامة يعني القرآن الكريم؟ .
لابد أن نتساءل هذا التساؤل؛ لأن اللوم منه ما هو إيجابي وما هو سلبي،
فالسلبي هو: اللوم العابر الذي لا أثر له، كما يلوم المرء نفسه، ويعتب عليها إذا
سمع موعظة، أو مرت به شدة، فإذا ابتعدت الموعظة وزالت الشدة انمحى أثر
ذلك اللوم، وزال وشم ذلك العتاب، فهذه ليست النفس اللوامة التي نوه بها القرآن
الكريم حتى جعلها الحق (سبحانه) مقسماً به في إحدى سوره.
أما اللوم الإيجابي: فهو اللوم الذى يستمر في النفس وتعقبه محاسبة يتبعها
تغيير، فشأننا بهذا اللوم الإيجابي، وعنه نتحدث.
كيف يبدأ اللوم في النفس:
لقد أكدت آخر الأبحاث في علم النفس المعرفي أن تغير الأفكار هو المدخل
الصحيح لتغيير أي استجابات شعورية أو خارجية، وأثبت علماء النفس المعروفون
أن كل عمل اختياري يقوم به الإنسان يسبقه نشاط فكري داخلي، وهذا نفسه ما
قرره الإسلام الذي دعا إلى البدء بتغيير هذا النشاط المعرفي الداخلي، ولقد اهتم
العلماء المسلمون - قبل علماء النفس الحديث - بالخواطر والأفكار الأولى التي
تدور في قلب الانسان قبل أن تتحول إلى قرارات وأعمال ظاهرة، وقرروا أن
القلب في نشاط دائم، وشبهوه بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولابد لها من شيء
تطحنه، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي في الرحى، وبين هؤلاء العلماء أن أحسن طريق لإحداث التغيير في الشخصية هو تغيير
الاتجاه الذي تسير فيه الخواطر والأفكار.
فما هي الفكرة المركزية التي إذا تغيرت صارت النفس لوامة؟
إنها ليست سوى فكرة الإنسان عن نفسه، حيث تتغير نظرته لأصله وغايته
ومصيره، فتتغير- تبعاً لذلك - فى (قراءاته) وتأويلاته للكون والتاريخ والمجتمع
والحياة، ويستقبل الوجود والزمان بنظرة جديدة، حتى إنه يتعجب: كيف لم يكن
يرى الأشياء من قبل كما يراها الآن رغم قرب هذه النظرة الجديدة منه، فهي في
أعماق فطرته، وهي في كل شيء، وفي نفسه، فيكون مثله كما قال الشاعر:
ومن العجائب والعجائبُ جَمّة ... قربُ الحبيب وما إليه وصول
كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وكما قال الآخر:
ومِنْ عَجَبٍ أنّي أحِنّ إليهمُ ... وأسأل عنهم دائماً وهُمُو معي
وتطلبهم عيني وهم في سَوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
هذه اللحظة التي تنطلق فيها عملية اللوم تسمى لحظة التوبة، أو لحظة الهداية، وهي الميلاد الثاني؛ لأن به يدرك حكمة الميلاد الأول، وبين الميلادين مشابهات، ففي الميلاد الأول: يكون الرحم مغلقاً من عنقه، ولا يزال عند المخاض ينفتح
ويتسع حتى يبلغ سداه، فيخرج الوليد، وفي الميلاد الثاني: يتفتح القلب وتتسع
نافذة النور فيه، حتى يبلغ هذا النور أقصاه ويضيء أقطار القلب، فيحصل فيه
الايمان، وتحل به الهداية.
في الميلاد الأول: يتكلم الأطباء عن تقلصات للرحم تأخذ صورة نبضات
متباعدة، ولا تزال تتقارب وتتسارع حتى تزف لحظة الميلاد، وفي الميلاد الثاني
أيضاً: تبدأ ومضات متباعدة، ولا تزال تتقارب وتتسارع وتقوى حتى تبدد ظلمة
القلب، وتمزق الحجب التي تحجب عنه النور.
في الميلاد الأول: يخرج الإنسان من عالم الرحم، وهو عالم ضيق صغير
مظلم، إلى عالم واسع فسيح مضيء، وفي الميلاد الثاني: يخرج القلب من تصور
ضيق صغير مظلم إلى تصور واسع مضيء يتسع للغيب والشهادة.
وقد وصف القرآن الكريم لحظة الهداية بأنها حياة من بعد موت، ونور من
بعد ظلمة، فقال (تعالى) : [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا] [الأنعام: 122] .
ودعا كل إنسان أن يعيش هذه اللحظة ويجتاز هذه التجربة التي تشبه القَوْمة
التي تأتي بعد رقاد طويل، قال (تعالى) [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] .
أن تقوموا كما يقوم هذا النائم من نومه، فيسمع، ويبصر، ويعقل، وهذا لا
يعني أن الإنسان قبل الهداية لم يكن يفكر، بل كان يفكر، لكنه لم يكن يتفكر،
وكان يشاهد، لكنه لم يكن يشهد، وكان ينظر، لكنه لم يكن يعتبر، والتفكير غير
التفكر، والمشاهد ة غير الشهود، والنظر غير الاعتبار.
التفكر (هذه العملية العقلية السامية) يستفيد من كل عمليات التفكير لكنه
يختلف عن التفكير المعتاد في كونه لا يسعى الى حل مشكلات، بل إلى الاعتبار
بآيات، فالمعارف والإدراكات التي اكتسبهما الشخص بوسائله المعرفية هي نفسها
مادة هذا التفكر.
بداية النفس اللوامة: يقظة تشتغل منها الوظيفة الإنسانية للسمع والبصر ... والفؤاد، فيخرج الإنسان من دائرة الذين قال الله فيهم [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] [الأعراف: 179] .
إنما نفى عنهم في حال الغفلة الوظيفة الإنسانية للأعين والآذان والقلوب ولم
ينف الوظيفة الحيوانية (الفسيولوجية) .
وأول ثمرات هذه القوَْمة: هو النظر فيما سلف من الإساءة وما تقدم من
التقصير، وكان قبل ذلك غافلاً عنه، ناسياً له [ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
فَأَعْرَضَ عَنْهَا ونَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ] [الكهف: 57] .
وكيف ينسى أو يغفل الآن ومعه فكرة وبصيرة وعزم؟ ! .. ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ .. وإن الفاجر يمضي قُدُماً ما يعاتب نفسه.
وهذه المحاسبة، هل تكون قبل العمل أو بعده؟ ... الصحيح أنها قد تكون
قبل الفعل أو بعده، وقد ذكر (سبحانه) عن المتقين أنهم يتذكرون قبل الفعل، أو
يتذكرون بعده، قال (سبحانه) في لومهم أنفسهم بعد الفعل: [والَّذِينَ إذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] [آل عمران: 135] ، وقال (عز وجل) في لومهم أنفسهم قبل الفعل [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: 201] .
واللوم الذي يكون قبل الفعل أنفع من الذي يكون بعده؛ لأن الأول يعترض
السوء وهو لازال خاطرة أو فكرة، بينما يمنع الذي يكون بعد الفعل من تكراره فقط.
اللوم حراسة للفضاء النفسي:
ويمكن تشبيه اللوم قبل الفعل بالحراسة التي تضربها الدول على مجالها
الجوي، فترغم كل طائرة غريبة على الانسحاب، وسماء الفكر لدى الإنسان
مستهدفة في كل لحظة بخواطر كثيرة: إلهامات ووساوس، فإذا كانت للقلب حراسة
فإنه يأذن لخواطر الخير، ويمنع خواطر السوء، كلاهما يجول في الصدر ينتظر
الإذن بالهبوط، فيؤذن لإلهامات الملك وتطرد وساوس الشيطان.
وإذا أردنا أن نُفَصل هذا المثل أكثر نقول: إن الخاطرة الطارئة تثير
رادارات القلب، فيستدعي كافة المعلومات اللازمة لإصدار القرار، وتجري
مشاورات مع الأقسام المختصة تنتهي بإصدار حكم على هذه الخاطرة، يكون أساس
الرفض أو القبول.
اللوم مناعة روحية:
كان ذلك تشبيهاً (عسكرياً) ، ويمكن أن نستعير تشبيها آخر من عالم
البيولوجيا والطب يقرب إلينا دور اللوم الذي تقوم به النفس قبل الفعل، فمعروف
أن الجسم يملك جهازاً دفاعياً يحميه من هجوم الجراثيم، ويتكون هذا الجيش من
كتائب، هي عبارة عن مجموعات من الخلايا البيضاء الحية تدور في الجسم
وتحاصر المهاجمين وتدمرهم، ومع تكرار المعارك يتكون في الدم ما يشبه
(المضادات الحيوية) التي تكون خط مناعة يمنع الجراثيم من اختراق الجسم
والدخول فيه، وكذلك اللوم: إذا تكرر أفرز شبيهاً بخط المناعة ذاك، يمنع
الوساوس والخواطر من أن تلج وتتحول إلى أفعال.
نسأل الله أن يقينا مواضع الزلل، ويرزقنا النفس اللوامة التي تحرس
جوارحنا من مضلات الفتن.