دراسات شرعية
مقدمة في التنوع المشروع
(صفة الصلاة أنموذجاً)
(1 من2)
بقلم: سلمان بن عمر السنيدي
مدخل:
العبادات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنواع، لا يلزم أن
يرجح نوع منها دون غيره بلا مرجح؛ أو يفعل واحد منها مع هجر الأنواع
الأخرى، بل كمال العمل بالسنة: أن يفعل ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-
من أنواع العبادات على الصفة التي فعلها من غير كراهة لشيء من ذلك، قال شيخ
الإسلام تأكيداً لهذا الأمر: (العبادات التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- على
أنواع، يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثل:
الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة؛ وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها،
ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها، وإن قيل إن بعض
تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يفعل هذا تارة
وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر كالاستفتاح ... فجميع ما
شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- له حكمة ومقصود؛ فلا يهمل ما شرعه من
المستحبات) [1] .
وقال (رحمه الله) : (الصواب: مذهب أهل الحديث ومَن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي؛ لا يكرهون شيئاً من ذلك؛ وليس لأحد أن يكره ما سن رسول الله؛ والوسط: أنه لا يكره هذا ولا هذا، ومن تمام
السنة في هذا: أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا في مكان وهذا في مكان؛ وهذا
أصل مستمر في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها) [2] .
ولابن القيم (رحمه الله) كلام نفيس عند ذكر منهجه في تأليف كتابه (زاد المعاد
في هدي خير العباد) ، قال (رحمه الله) : (وليس مقصودنا إلا ذكر هديه -صلى الله
عليه وسلم- الذي كان يفعله هو؛ فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب،
وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله شيء؛
ونحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز وما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي
النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله) [3] .
وذكر الشوكاني ما يشبه القاعدة في ذلك، فقال: (والحق إن صح تعدد الواقعة: أن الأحاديث المشتملة على زيادة يتعين الأخذ بها؛ لعدم منافاتها للمراد) [4] .
وقد أكد الشاطبي في الموافقات على التوسط في ذلك، وهو تحري الأعم
الأغلب والأكثر والمداومة على ما هو مشهور وإن كان العمل على وفق الآخر لا
حرج فيه، وقد حذر من ملازمة العمل النادر، فقال: (أما لو عمل بالقليل دائماً
للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين
ما فيها.
والثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه، إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف
هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه؛
إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال؛ فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد، فالحذر الحذر من مخالفة الأولين! ؛ فلو كان ثم فضل ما، لكان الأولون أحق به، والله المستعان) [5] .
وتعليقاً على حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قال فيه: (لا يجعل أحدكم
للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقّاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد
رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن يساره) ، يقول ابن المُنيّر:
(وفيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التيامن مستحب
في كل شيء، أي من أمور العبادات، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه: أشار إلى كراهيته) [6] .
متى يكون التنوع مشروعاً؟
يشترط للعمل بالتنوع بين الصفات المتعددة في أي عبادة شرطان:
الأول: صحة الدليل الذي يفيد نوعاً من الصفات المشروعة في العبادة.
الثاني: خلو المسألة من تعارض لا يقبل التنوع، فيصار إلى ترجيح إحدى
الصفات؛ وهذا يكون غالباً إذا كانت الحادثة لم تقع إلا مرة واحدة واختلفت فيها
الروايات، فلا سبيل إلى التنوع؛ بل لا بد من الترجيح لأحد الوجهين أو الصفتين، فإن وجود التعارض صارف لوجود التنوع؛ يقول الشاطبي (رحمه الله) : (وهو
واضح في أن العمل العام هو المعتمد، على أي وجه كان، وفي أي محل وقع،
ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل، ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير ...
وبسبب ذلك: ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح
نفسه في العمل بالقليل، إلا قليلاً، وعند الحاجة، ومس الضرورة، إن اقتضى
معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل، أو عدم صحة في الدليل، أو احتمالاً لا
ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك) [7] ، ويقول شيخ الإسلام ابن
تيمية (رحمه الله) : (إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة
أثراً يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله) [8] .
مراتب التنوع المشروع من حيث الطريق الذي جاء به التنوع:
المرتبة الأولى:
ما دل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تنوعه وجاء في رواية
واحدة، ومثاله: تنوع القراءات الوارد في حديث عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم، حيث قرأ كل واحد منهما سورة الفرقان بقراءة مختلفة عند رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فقال لكل واحد منهما: (هكذا أنزلت) [9] .
المرتبة الثانية:
ما دل قول الصحابي على مشروعية كلا النوعين، ومثاله: ما رواه ابن
مسعود (رضي الله عنه) من تنوع انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من القبلة بعد
انقضاء الصلاة عن اليمين وعن الشمال، حيث قال (رضي الله عنه) : (قد رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [10] ، ومفهوم
كلامه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل كلا النوعين.
المرتبة الثالثة:
ما انفرد صحابي أو أكثر بذكر نوع من هديه -صلى الله عليه وسلم-،
وانفرد غيره بذكر نوع آخر، ومثاله: تنوع الأذان، وتنوع التشهدات في الصلاة،
وعامة التنوعات من هذا المرتبة.
مراتب التنوع المشروع من حيث درجة التنوع:
يمكن تقسيم التنوع المشروع بحسب درجة التنوع إلى ثلاث مراتب، كما يلي:
المرتبة الأولى:
التنوع المطلق، وهو ما يتساوى فيه الفضل بين الأنواع، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية (رحمه الله) : (فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد شرع تلك
الأنواع، إما بقوله وإما بعمله، وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض: كانت
التسوية بينها من العدل، والتفضيل من الظلم؛ وكثير مما تتنازع الطوائف من
الأمة في تفاضل أنواعه لا يكون بينها تفاضل، بل هي متساوية، وقد يكون ما
يختص به أحدهما مقاوماً لما يختص به الآخر، ثم تجد أحدهم يسأل: أيهما أفضل
هذا أو هذا؟ ، وهي مسألة فاسدة؛ فإن السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل،
فمن قال: إن بينهما تفاضلاً حتى نطلب عين الفاضل!
والواجب أن يقال: هذان متماثلان؛ أو متفاضلان، وإن كانا متفاضلين:
فهل التفاضل مطلقاً، أو فيه تفصيل، بحيث يكون هذا أفضل في وقت، وهذا
أفضل في وقت؟) [11] .
المرتبة الثانية:
تنوع يكون فيه أحد الأنواع أفضل؛ لكونه أشهر وأكثر استعمالاً، ويؤخذ ذلك
من وصف الصحابة لفعله -صلى الله عليه وسلم-، أو ما نقل من فعل الصحابة
وهديهم، أو ما اشتهر من فعل السلف الصالح وطريقتهم السائرة.
واختلفت تسمية هذا الفرق بين النوعين عند الفقهاء، وفيما يلي بعض أقوالهم
التي توضح اختلاف تسميتهم:
فمنهم من (يسمي المشهور: السنة المؤكدة، وغيره: غير المؤكدة) [12] .
ومنهم من (يسمي السنة: ما واظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-،
والمستحب: ما فعله مرة، أو مرتين، أو أحياناً، ولم يواظب عليه) ، نُقل ذلك عن
القاضي حسن والبغوي والخوارزمي من الشافعية [13] .
ومنهم من (يسمي السنة: ما واظب -صلى الله عليه وسلم- على فعله مع
تركٍ ما بلا عذر، وما لم يواظب عليه: مندوباً ومستحبّاً وإن لم يفعله بعدما رغّب
فيه) [14] .
وقال ابن الهمام (رحمه الله) : (حديث (من ثابر على ثنتي عشرة ركعة ... ) ، إنما يصلح دليل الندب والاستحباب لا السنة؛ لما عرفت أن السنة لا تثبت إلا
بنقل مواظبته) [15] .
وأما عن وصف الصحابة (رضي الله عنهم) صلاة النبي: (أنه كان يفعل كذا
... ) فيقول ابن دقيق العيد: (كان) تشعر بكثرة الفعل أو المداومة، وقد تستعمل
في مجرد وقوعه) [16] .
قال شيخ الإسلام (رحمه الله) : (يستحب بعض المأثور ويفضل على بعض إذا
قام دليل يوجب ذلك التفضيل ولا يكره الآخر) [17] .
وقد أشار الشاطبي (رحمه الله تعالى) إلى هذه المرتبة: حيث إن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قد يكون فعله في عبادةٍ ما مستمرّاً على طريقة معينة، ولكنه يُؤثِر
أحياناً قليلة فعلاً مخالفاً للأول، إما من جهة الكثرة أو الوقت أو الحال، فيتبعه في
ذلك الصحابة والسلف الصالح، وحكمه الذي ينبغي فيه: الموافقة للعمل الغالب
كائناً ما كان؛ وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه، ولا بد من تحري ما تحروا
وموافقة ما داوموا عليه، وإن فرض أنه يقتضي التخيير؛ فعملهم إذا حقق النظر
فيه لا يقتضي مطلق التخيير؛ بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة
وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه، وأما الأئمة والعلماء والفضلاء
المقتدى بهم: فإن هؤلاء منتصبون لأن يقتدى بهم فيما يفعلون، فيوشك أن يعتقد
بهم الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوماً عليه أنه واجب، وسد الذرائع مطلوب
مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع [18] .
وقد يفعل المرجوح أحياناً لمصلحة راجحة، وعن ذلك يقول شيخ الإسلام:
(قد يكون ترك المستحبات لغرض راجح أفضل من فعله، بل الواجبات كذلك،
ومعلوم أن ائتلاف الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو تركها
المرء لائتلاف القلوب كان ذلك مستحبّاً، ويكون فعله أفضل إذا كانت مصلحة
ائتلاف القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، ولو كان أحدهما أفضل لم يجز أن
يُظلم من يختار المفضول، ولا يذم، ولا يعاب، بإجماع المسلمين، ولا يجوز
التفرقة بذلك بين الأمة، ولا أن يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى
بغير ذلك المستحب من أمور أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير؛ ولا يجوز أن
تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات بحيث يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه خرج
من دينه، أو عصى الله ورسوله) [19] .
المرتبة الثالثة:
التنوع المقيد، وهو ما يكون فيه أنواع مشروعة تفعل للحاجة، أو للتعليم،
أو لبيان الجواز.. ونحو ذلك، كما علم جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أوقات الصلاة، فصلى به في أول الوقت وفي آخر الوقت [20] .
وقسم الشاطبي اختلاف أفعاله -صلى الله عليه وسلم- إلى قسمين:
الأول: أن يكون له سبب، كتأخير صلاة الظهر للإبراد، وحكم هذا النوع:
أن يتبع السبب.
الثاني: ألا يتبين لذلك سبب [21] ، فيجعل فعله -صلى الله عليه وسلم-
حادثة عين لا يقاس عليها، كالخاص به.
أقسام المَوَاطن من حيث اجتماع الأنواع فيها وعدمه:
القسم الأول:
مواطن لا تجتمع فيها الصفات المتنوعة، بل ينوب بعضها عن بعض، فيأتي
الإنسان مرّة بصفة، ومرّة أخرى بصفة أخرى، مثل: أنواع الأذان، وأنواع
التشهدات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : (ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن
يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد: لا يمكنه أن يأتي
بتشهدين معاً، ولا بقراءتين معاً، ولا بصلاتي خوف معاً، وإن فعل ذلك مرتين
كان ذلك منهيّاً عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة، ومكروه أخرى ... ،
وذلك من وجوه:
الوجه الأول: ليس سنة، بل خلاف المسنون؛ فإن النبي -صلى الله عليه
وسلم- لم يقل ذلك جميعه جميعاً، وإنما كان يقول هذا تارة وهذا تارة، إن كان
الأمران ثابتين عنه فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة وإن كان جائزاً.
الوجه الثاني: أن جمع ألفاظ الدعاء والذكر الواحد على وجه التعبد مثل جمع
حروف القراء كلهم على سبيل التلاوة والتدبر بدعة مكروهة قبيحة، إلا على سبيل
الدرس والحفظ.
الوجه الثالث: أن الأذكار المشروعة أيضاً لو لفّق الرجل له تشهداً من
التشهدات المأثورة فجمع بين حديث ابن مسعود وصلواته وزاكيات تشهد عمر
ومباركات ابن عباس، بحيث يقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات
والمباركات والزاكيات، لم يشرع له ذلك، ولم يستحب؛ فغيره أولى بعدم
الاستحباب.
الوجه الرابع: أن هذا إنما يفعله من ذهب إلى كثرة الحروف والألفاظ، وقد
ينقص المعنى أو يتغير بذلك، ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل
المقصود وإن كان بعضها يحصله أكمل، فإنه إذا قال: ... (اللهم صلِّ على محمد
وآل محمد) ، أو قال: (اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته) ، فأزواجه وذريته
من آله بلا شك، أو هم آله، فإذا جمع بينهما وقال: (على آل محمد، وأزواجه
وذريته) لم يكن قد تدبر المشروع.
فالحاصل: أن أحد الذكرين، إن وافق الآخر في أصل المعنى، كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد وإن كان المعنى متنوعاً: كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى، وعلى التقديرين: فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع، وأما الجمع في صلوات الخوف أو التشهدات أو الإقامة أو نحو ذلك بين نوعين: فمنهي عنه باتفاق المسلمين) [22] .
القسم الثاني:
مواطن يشرع للإنسان فيها صفة يفعلها أحياناً، ويتركها أحياناً، مثل ارتفاع
صوته بالقراءة بالآية والآيتين فيما حقه الإسرار، فيكون المشروع فيها يدور بين
الفعل والترك.
القسم الثالث:
مواطن يمكن للإنسان أن يأتي بالصفات المتعددة المشروعة بعد إتيانه ... بالواجب، مثل: أذكار الركوع، وأذكار السجود.
اهتمام العلماء بالتنوع المشروع:
لقد اهتم العلماء بالتنوع المشروع: ففي طبقة الصحابة (رضي الله عنهم)
كانوا يقرؤون القرآن بقراءات متنوعة كما سمعوها من النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقرهم على ذلك التنوع، فعن عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة
رسول الله؛ فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فكدت أساوره [23] في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته برادئه [24] ، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ ، قال:
أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: كذبت [25] ، فإن رسول الله
قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها؛ فقال
رسول الله: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعت يقرأ، فقال
رسول الله: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني،
فقال رسول الله: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما
تيسر منه) [26] .
وكذلك أنكر عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) من يستمر على صفة واحدة
في موطن شُرع فيه التنوع، وجعل ذلك من مكر الشيطان بالإنسان؛ حيث ألزم
نفسه بعمل لم يلتزمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال (رضي الله عنه) : (لا
يجعل أحدكم نصيبِاً للشيطان من صلاته: ألا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ينصرف عن شماله) [27] .
ولقد اختلف اهتمام العلماء بالتنوع المشروع، فأخذ صوراً متعددة:
فابن خزيمة (رحمه الله) في صحيحه يعبر عن التنوع المشروع بتعبير آخر،
فيقول في باب ترجيع الأذان: (وهذا من جنس اختلاف المباح؛ فمباح أن يؤذن
فيرجع في الأذان ويثني الإقامة، ومباح أن يثني الأذان ويفرد الإقامة؛ إذ قد صح
كلا الأمرين من النبي) [28] ، وأورد أربعة مواطن يعبر عنها بالاختلاف المباح
في كتاب الصلاة من صحيحه.
وأما محمد بن رشد القرطبي (رحمه الله) فيذكر في ذلك ما يشبه القاعدة،
فيقول: (فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض) ،
ويعلق على من ذهب مذهب التخيير بينها بأنه قول حسن [29] .
أما ابن تيمية (رحمه الله) فقد أخذ اهتمامه بالتنوع المشروع صوراً عدة: منها: حثه على الأخذ بالتنوع المشروع وعدم كراهيته شيئاً من ذلك، وجعلها ك القاعدة العامة.
ومنها: بيانه أن الأخذ بهذه القاعدة يجعل كثيراً من اختلاف المذاهب يزول،
ويبقي اختلاف اختياراتهم بين السنن المشروعة، وذلك طريق إلى اجتماع الأمة
بموافقة هديه؛ حيث إن السنة مقرونة بالجماعة.
وذكر (رحمه الله) وجوهاً خمسة تدعو إلى التنوع المشروع، وأنه أفضل من
المداومة على نوع واحد، وتقدم ذكره لأربعة وجوه تدل على ضعف الجمع في
عبادة واحدة بين نوعين في وقت واحد، وذكر اثني عشر موضعاً للتنوع المشروع، جمعها في قوله: (جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة
أثراً يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع
صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان: الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة: شفعها
وإفرادها، وفي أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات،
وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود
السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد: بإثبات الواو وحذفها، وغير ... ذلك) [30] .
أما الشاطبي (رحمه الله) فقد أفرد المسألة الثانية عشرة من كتاب الأدلة
الشرعية في الموافقات لذلك، فقال: (كل دليل شرعي لا يخلو:
أ- أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائماً أو أكثريّاً.
ب- أو لا يكون معمولاً به إلا قليلاً أو في وقت ما.
ج- أو لا يثبت به عمل) [31] .
ثم أكد المثابرة على ما هو الأعم والأكثر من عمل السلف المتقدمين وإن كان
العمل على وفق الآخر لا حرج فيه، ثم ذكر أمثلة على ذلك، وقد تميز بذكر لوازم
المداومة على العمل القليل [32] .
أما ابن مفلح (رحمه الله) فينقل ما يشبه القاعدة في ذلك عن شيخه تقي الدين
في تنوع الاستفتاح: (قال شيخنا: الأفضل أن يأتي بكل نوع أحياناً، وكذا قاله في
أنواع صلاة الخوف وغير ذلك، وأن المفضول قد يكون فاضلاً لمن انتفاعه ... به أتم) [33] .
ويعلق المرداوي موضحاً السبب في ذلك التنوع، فيقول: (وهو الصواب؛
جمعاً بين الأدلة) [34] .
وأما الشوكاني (رحمه الله) فإنه يوافق ابن تيمية في قاعدة الأخذ بالسنن
وتنوعها دون هجر بعضها أو اختيار نوع دون غيره، وأكد على الأخذ بالأحاديث
المشتملة على زيادات ثابتة، ولا يصار إلى الترجيح إلا إذا كانت الحادثة ... واحدة [35] .
أما من العلماء المعاصرين:
فإن المحدث محمد ناصر الدين الألباني (حفظه الله) له في ذلك كتاب قيم هو
(صفة صلاة النبي) ضمنه جل الصفات المتنوعة في الصلاة من التكبير إلى التسليم، دون ذكر الأذان والإقامة والأذكار بعد السلام وصلاة الخوف، وأما صفات الصلاة
على الميت: فذكرها في كتابه الجنائز، وفي كتاب صفة الصلاة ذكر الأحاديث
دون ذكرٍ لاختيارات الفقهاء، متمثلاً القاعدة التي أكدها في مقدمة كتابه، وهي:
الأخذ بجميع السنن الثابتة دون هجر شيء منها، وكان يعبر عن تفاوت التنوع في
هديه -صلى الله عليه وسلم- بكلمات، منها قوله: (وتارة يفعل) ، و (ربما يقول) ،
و (أحياناً يفعل) .. حيث ترك للقارئ تمييز المشهور من السنة: الأكثر فعلاً من
النادر أو الأقل فعلاً، وذكر في كتابه اثني عشر موطناً يشرع فيها التنوع.
وأما سماحة الشيخ (عبد العزيز بن باز) (حفظه الله) : ففي كتابه (صفة صلاة
النبي) على صغر حجمه، ذكر خمسة مواطن تتنوع فيها الصفات المشروعة،
وقال مبيناً القاعدة في ذلك: (لثبوت الصفتين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
الأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة) [36] .
وأما الشيخ (محمد بن صالح العثيمين) (حفظه الله) : فقد أخذ اهتمامه بالصفات
المتنوعة في الصلاة تقسيمه للعلماء تجاه العبادات الواردة على وجوه متنوعة، فذكر
من يرى أن الأفضل الاقتصار على واحدة، ومن يرى فعل جميعها في أوقات شتى، ومن يرى جمع ما يمكن جمعه، وصحح القول الثاني، ومن جملة اهتمامه: ذكره
فوائد لفعل العبادات الواردة على وجوه متنوعة، وقال: (وهذه قاعدة ينبغي لطالب
العلم أن يفهمها: أن العبادات إذا وردت على وجوه متنوعة فإنها تفعل على هذه
الوجوه، على هذا مرة، وعلى هذا مرة) [37] .