الافتتاحية
كلمة في البناء الدعوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى
آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كانت الصحوة الإسلامية في العقود الماضية بحاجة إلى الانتشار والاتساع
الأفقي، وتكثير سواد الصالحين، ونحسب أنها ما زالت بحاجة إلى ذلك الانتشار
والامتداد، من أجل تبليغ الرسالة، وإقامة الحجة على العباد.
ولكنها في هذه المرحلة على وجه الخصوص بحاجة أشد إلى نظرة إلى الداخل، نظرة بعمق داخل الفرد بوصفه فرداً، وداخل الأمة بعامة؛ لتنمية وترسيخ
الإيجابيات عقديّاً وعمليّاً، لتمتين قواعد البناء، والاهتمام بالنوعية، ورفع الكفاءة،
وذلك يتطلب بلا شك جهداً أكبر في تعميق جذور الدعوة الإسلامية في شتى أنحاء
الأرض؛ لكي ترسخ وتقوى ويشتد عودها، ثم تنمو نموّاً محكماً متزناً، بعيداً عن
العشوائية والارتجال.
ولعلّ من أبرز المعضلات التي تواجه الصحوة الإسلامية في مرحلتها الحالية: ضعف المَلَكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي، مما أدى إلى
ضعف الخطط وإغفال دراسة الأهداف القريبة والبعيدة، وبناء كثير من المشاريع
والبرامج الدعوية على غير أسس علمية، وإنما هي غالباً ردود أفعال آنية غير
مدروسة، ومجرد عواطف غير موجهة..!
إن بناء الرجال، وتوظيف الطاقات البشرية في مقدمة التصحيح الذي يتطلع
إليه المخلصون، إذ إن اكتشاف المعادن الكريمة من الرجال، وإعدادها إعداداً
متكاملاً لتحمل أعباء المسؤولية، هو القاعدة الأساس التي تبنى عليها كافة الفعاليات
والأنشطة المختلفة.
ولا شك في أنّ الصحوة الإسلامية تحوي أعداداً غير قليلة من رجالات الأمة،
ولكن نسبة كبيرة من هذه الأعداد تُعَدّ طاقات كامنة خاملة، عاجزة عن الحركة
والإنتاج فضلاً عن الابتكار والإبداع! ؛ لكونها مقيدة بآسار من التبعية والاتكالية،
فقد أنهكت السلبية والغثائية والتفلت من المسؤولية جسم الأمة الإسلامية في كثير من
قطاعاتها، وأصبحت بعض رجالات الأمة أرقاماً هامشية، لا تعْدُ أن تكون تكثيراً
لسواد الصالحين فحسب، دون أن يكون لها دور أكثر جدية في العطاء والبناء! ،
وصدق الرسول الكريم: (تجدون الناس كأبل مئة، لا يجد الرجل فيها راحلة) [1] .
لقد بدت مساحة الخير الواسعة التي امتدت فشملت قطاعات كبيرة من الأمة
أرضاً خصبة قابلة للتنمية، والاستنبات والرعاية، وبدا أبناء الصحوة محتاجين إلى
اليد التي تنقلهم من العاطفة النقية إلى الإخلاص المؤصل، ومن الثقافة العابرة إلى
العلم الراسخ، ومن العبادة الآلية إلى التنسك المخبت، ومن المشاعر الطيبة إلى
الوعي الواثق، ومن الشعارات العامة إلى الإيمان الصادق.
ونحسب أنه آن الأوان للنهوض من هذه الغفلة، والتخلص من تلك السلبية،
فإنّ المهمة الكبرى التي تواجه المصلحين والدعاة والمربين في كثير من المحاضن
التربوية: هي اكتشاف تلك الطاقات، وإعادة بناء المحاضن العلمية والتربوية
القادرة على احتوائها، وتنميتها، وتوجيهها التوجيه الأمثل، وفق خطط علمية
مدروسة، ورؤى منهجية محكمة.
إن للتربية الإيمانية المتكاملة أثراً كبيراً في بناء الطاقات، وتنميتها،
واستثمارها استثماراً مناسباً..
تأمّل حال العرب قبل الإسلام، وانظر إلى التخلف العقلي والفكري الذي كان
يسيطر عليهم، ثم انظر كيف استطاع الإسلام تكوينهم تكويناً جديداً، نقلهم من وهدة
الجاهلية وضلالها وسكرتها، إلى نور الإسلام وصفائه وإيجابيته، وأضحى رعاء
الشاء قادة للأمم كلها، حين تساقط تحت أقدامهم عرشا كسرى وقيصر.
لقد كان من أوائل ما نزَل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الله
(تعالى) : [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (?) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 1-4] .
تتحدث هذه الآيات عن الإعداد والبناء من أجل تحمل المسؤولية العظيمة: [إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] ... [المزمل: 5، 6] .
وكان للصحابة (رضي الله تعالى عنهم) نصيب وافر من هذه التربية الكريمة، قال الله (تعالى) : [إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[المزمل: 20] .
إنّ إحياء الشعوب، وبناء الأمم، وصناعة الحضارات، يتطلب جهداً عظيماً، تتآلف فيه كافة الإمكانات والطاقات البشرية منها على وجه الخصوص، ولن يتم
ذلك إلا بشحذ الهمم وتقوية العزائم والسعي الحثيث لبناء الرجال.
إن الله (تعالى) اختار نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- ليكون المثل الأعلى
والقدوة الحسنة للناس كافة، [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
فكانت سيرته العطرة منهجاً عمليّاً يعكس الحياة الإسلامية في أسمى صورها،
فقد كان الرسول-صلى الله عليه وسلم- حاكماً عادلاً، وأباً حنوناً، وقائداً موجهاً،
وداعية مخلصاً.. فالطريق الحق هو طريقه، والمنهج الكامل هو منهجه، وذلك ما
دلنا عليه الهدي الكريم في قوله (تعالى) : [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] .