مجله البيان (صفحة 2352)

دراسات شرعية

السبيل إلى انحسار البدع

بقلم: سلمان عمر السنيدي

البدع مظهر نشاز في مجتمع المسلمين، وجرح غائر يستشري في أقطار

كثيرة، ويظهر في صور متعددة؛ وما يزال غلاّ كئيباً على عقول المسلمين بالتقليد

والتعصب والجهل، وتشكل البدع ظلاماً على الأبصار، يحجب نور السنة وفرقان

الاتباع، وكل بدعة في دين الله قديمة كانت أو حديثة لها ما يضادها في شرع الله،

مما سطر العلماء فيه جهوداً مكتوبة ومواقف مشهودة.

فتكونت لأهل السنة والجماعة سبيل واضحة لمواجهة البدع وأهلها، مما

سيظل طريقاً واضحاً له أساليبه، ومنهجه، وأهدافه، وغايته.

ولقد كانت جهود العلماء ومواقفهم العظيمة زاداً كشف للأمة عمق هذا السبيل

ومتانته، ويمكن تقسيم جهود العلماء في سبيل مقاومة البدع إلى الجهود التالية:

أولاً: نشر العلم النافع وإحياء العمل بالسنة:

نشر العلم والعمل به غاية ومقصد لذاته؛ وهو كذلك وسيلة لإزالة البدع

ودحضها والقضاء عليها.

ولقد كان همّاً تحمله الأمة المسلمة، وفي مقدمتها العلماء وطلاب العلم، كلّ

يحمله بحسب منزلته وجهده وعلمه؛ وذلك لحفظ الدين وحمايته من النقص والزيادة، ومن التحريف والتعطيل، لقول الرسول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأوليل الجاهلين) [1] .

وفي الشرع المطهر دلائل كثيرة على الحض على حفظ العلم ونشر السنة،

ومن ذلك: قوله: (نضّر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فرب مُبَلّغ

أوعى له من سامع) [2] .

وفي حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من دعا إلى

هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) [3] .

ومن ثمرات هذا السبيل المبارك: القضاء على البدع، وكسر شوكتها،

وتبديد ظلامها أمام سلطان العلم ونور الدليل.

وما نبتت للبدع نابتة إلا بقصور هذا الجانب، وما كسفت شمس السنة في

بلاد إلا عمتها البدع، وتمكنت فيه المحدثات، وظهرت فيها المنكرات، فعن عمرو

بن العاص (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،

حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا

وأضلوا) [4] .

ثانياً: الوقاية من البدع:

إن الوقاية من ظهور البدع من مقاصد الشريعة؛ ولقد جاء التحذير في كتاب

الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من البدع وأسبابها، ويمكن تقسيم

النصوص والآثار الواردة في هذا المجال إلى ما يلي:

1- التحذير من اتباع الأهواء، كما في قوله (تعالى) : [وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [ص:26] وقوله: [وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ] [المائدة:48] ، وقوله: [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أََهْوَاءََهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذاً لَّمِنَ ... الظَّالِمِينَ] [البقرة: 145] وقوله: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ] [الجاثية: 23] .

2- التحذير من التقليد بغير علم، كما عاب الله (تعالى) على من قال: ... [إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون] [الزخرف: 22] .

وقال (سبحانه) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أََنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أََلْفَيْنَا

عَلَيْهِ آبَاءَنَا أََوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ] [البقرة: 170] .

وقد حذر الرسول من تقليد الأمم السابقة: (لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم) [5] .

3- التحذير من إحداث البدع في الدين، لحديث عائشة أن رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [6] ، وفي

رواية لها أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [7] ، وعن

جرير بن عبد الله أنه سمع الرسول يقول: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل

بها بعده كتبت عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء) [8] ،

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من دعا إلى

ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) [9] .

قال مالك: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان

الرسالة؛ لأن الله يقول: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا

يكون اليوم ديناً) [10] .

4- التحذير من البدع وأهلها، لحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ... ضلالة) [11] ، وفي رواية: (وكل محدثة بدعة) [12] ، وفي حديث العرباض بن سارية: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) [13] .

وفي قوله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ ... ... فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] ، قال ابن عطية: (هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد) [14] .

وفي قوله (تعالى) : [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] [الأنعام: 153] ، قال الشاطبي: (والسبل هي أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي؛ لأن المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحدٌ

طريقاً تسلك دائماً على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع

المحدثات) [15] .

وقال مجاهد في قوله: [وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ] [الأنعام: 153] : (السبل: البدع والشبهات) [16] .

وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: (أوصيك بترك ما أحدث

المحدثون، وعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من

الخطأ والزلل والحمق والتعمق) [17] ، ويقول ابن القيم: (واشتد نكير السلف

والأئمة للبدع، وحذروا منها أشد التحذير؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها

له أشد من عامة الفواحش والظلم والعدوان) [18] ، وقال القاضي أبو يعلى:

(أجمع الصحابة والتابعون على مقاطعة المبتدعة) ، وقال البغوي: (وقد مضت

الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا، مجمعين متفقين على معاداة

أهل البدع ومهاجرتهم) [19] ، وقال الغزالي في الإحياء: (السلف اتفقوا على

إظهار البغض للظلمة والمبتدعة وكل من عصى معصية متعدية إلى غيره) .

ثالثاً: دوافع مواجهة البدع:

وتبرز أهمية التصدي للبدع وأهلها فيما يلي:

1- حراسة الدين وحفظه:

يقول ابن تيمية: (فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ الدين وتبليغه؛ فإذا لم

يبلغوا الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال الله

(تعالى) : [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أََنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي

الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا]

[البقرة: 159، 160] ، فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها؛ فلعنهم

اللاعنون حتى البهائم) [الفتاوى] .

2- باب من أبواب الجهاد:

عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:

(جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [20] ، قال شيخ الإسلام: (فالراد

على أهل البدع مجاهد؛ حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل

من الجهاد..، والنصح واجب في المصالح الدينية الخاصة والعامة؛ ومثل أئمة

البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن

حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ ، فقال:

إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيّن: أن نفع هذا عام للمسلمين من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ

تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفعه بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك:

واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد

الدين، وكان فسادهم أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا

استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون

القلوب ابتداءً) [21] .

3- إقامة العدل:

وذلك بإقامة ميزان الاعتدال في الولاء والبراء بحق وعلم، وذلك حين

تصرف المحبة ويعقد الولاء جهلاً لمن لا يستحقها، وحين يحصل التعدي والجفاء

ظلماً لمن لا يستحق ذلك، فالواجب هو التصدي لأهل المخالفات والبدع بالعلم

والعدل، ومحو ما ينشره أهل الظلم والجهل من الولاء والبراء بغير علم ولا كتاب

منير، قال شيخ الإسلام: (وصار كثير من أهل البدع يعتقدون اعتقاداً هو ضلال، يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، وإزاء هؤلاء المكفرين

بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه

ويجهلون بعضه، ولا ينهون عن البدع، ولايذمون أهل البدع، ولايعاقبونهم،

ويقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في موضع الاجتهاد التي

يسوغ فيها النزاع، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب ... والسنة) [22] .

مراتب مهمة في كشف البدع:

ومن هنا كانت ضرورة انتصاب طائفة للرد على أهل البدع، وكشف حقيقتها، وسبر رؤوسها الداعين إليها، وتحذير الأمة من شرورهم، وذلك برصد الأحداث، وتقديرها، وتقويمها، وتصورها على وجه الواقع، ثم القيام حسب الوسع

والطاقة بالمراتب التالية:

المرتبة الأولى: الرد على أهل البدع:

وذلك بمراعاة المنهج القويم في الرد عليهم، المتضمن ما يلي:

1- كشف تاريخ البدعة وأصل نشأتها وارتباطها بأصحابها الذين أحدثوها،

وأنه لا أصل لها في دين الله.

2- توثيق الرد بالاعتماد على كلام الخصوم في كتبهم ومقالاتهم، وعدم

الاكتفاء بالكتب التي تروي أجزاءً من مقالاتهم؛ لأن هذا أبلغ في الحجة وأسلم في

النقل.

3- بيان تناقض المنهج الداعي إلى البدعة مع نفسه، وأن أهله ملزمون

بالتناقض أو ترك البدعة.

وفي موقف ابن عباس وجداله للخوارج خير مثال على ذلك، حيث قال لهم:

أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم، أترجعون؟ ، قالوا:

وما لنا لا نرجع، قال: أما أن علي (رضي الله عنه) حكّم الرجال في دين الله:

فإن الله قال عن صيد المحرم: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ] ، وقال في المرأة

وزوجها: [فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا] ، فصير الله ذلك إلى حكم

الرجال، فنشدتكم الله: أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم

أفضل أو في حكم أرنب ثمنه ربع درهم وفي بضع امرأة؟ ، قالوا: بلى هذا أفضل، قال: أخرجتم من هذه؟ ، قالوا: نعم. قال: فأما قولكم: قاتل، ولم يَسْبِ، ولم

يغنم؛ أَفَتَسْبُون أمكم عائشة؟ ! ، فإن قلتم: نسبيها، فنستحل منها ما نستحل من

غيرها: فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا: فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين

ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ ، قالوا: بلى. قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة

المؤمنين، فإن نبي الله-صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية قال: اكتب يا علي:

هذا ما صالح عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو سفيان

وسهيل ابن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، قال رسول الله: اللهم تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، قال ابن عباس:

فرجع من الخوارج ألفان، وبقي بقيتهم.

ولقد كان لعمر بن عبد العزيز مع الخوارج موقفاً آخر حينما جادلهم فقالت

طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفِّر أهل بيتك وتلعنهم، وتتبرأ منهم، فقال عمر:

إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني: هل تبرأتم من فرعون، أو

لعنتموه، أو ذكرتموه في شيء من أموركم؟ ، قالوا: لا، قال: كيف وسعكم تركه

ولم يصف الله عبداً بأخبث من صفته إياه؟ ، ولا يسعني ترك أهل بيتي ومنهم

المحسن والمسيء والمخطئ والمصيب.

4- تحديد المخالفة ونقض الوصف القائم بالبدعة وذمه، وتحرير موطن

الانحراف والضلال.

5- الإنصاف والعدل مع أصحاب البدعة في ثلاثة مواطن:

أ- بالتفريق بينهم وبين من هم أسوأ منهم في الانحراف الابتداعي، وفي هذا

يقول ابن تيمية: (ومما ينبغي أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في

أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول

عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد

على غيره من الطوائف الذين هم أبعد من السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من

الباطل وما قاله من الحق، لكن قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق

وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد باطلاً بباطل

أخف منه، وهذا أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا

لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون:

كان من نوع الخطأ، والله (سبحانه وتعالى) يغفر للمؤمنين خطأهم في ... ... مثل ذلك) [23] .

ب- التفريق بين أصحاب البدعة الواحدة، فالداعين إليها يختلفون عن غير

الداعين من المقلدين والأتباع، وكذلك من يوالون عليها ويعادون: فإنهم يختلفون

عن الذين يجعلونها بمنزلة الخلاف السائغ، يقول ابن تيمية: (السلف يفرقون بين

الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكر فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم:

فإنه ليس شرّاً من المنافقين الذين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل علانيتهم

ويكل سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثير منهم) [24] .

ج- عدم معاملتهم بمثل ما يعاملون به أهل السنة والجماعة؛ فلا يرد ضلالهم

بتكفير أهل القبلة بتكفيرهم.. وهكذا، وإنما يعاملون بما يستحقون.

6- تنزيل الأحكام على الأقوال والأفعال لا على الأشخاص، إلا بعد يقين،

قال شيخ الإسلام: (إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى كفر وتفسيق

ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً

تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، إن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق

القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق

والتعيين) [25] ، (وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفر بالكتاب، والسنة

والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، ولا يجب

أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير

وتنتفي موانعه) [26] ، (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط

حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه

بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) [27] .

7- فتح باب العودة للخصم واحتواؤه، ومن ذلك: الدعاء له بالهداية والرحمة.

المرتبة الثانية: مناظرة رءوس البدعة ومحاجتهم:

قال ابن عبد البر: (قال بعض العلماء: كل مجادل عالم، وليس كل عالم

مجادل. يعني: أنه ليس كل عالم يتأتى له الحجة، ويحضره الجواب، ويسرع

إليه الفهم بمقطع الحجة، ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة

ومذاكرة) [28] .

قال المزني: (وحق المناظرة أن يراد بها الله (عز وجل) ، وأن يقبل منها

ما يتبين) [29] ، ويلزم المناظر ما يلي:

1- المطالبة بالدليل؛ لقوله (تعالى) : [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ]

[البقرة: 111] ، وقوله (تعالى) : [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ ... حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] ، وقوله (تعالى) : [إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا] [يونس:68] .

2- إحكام النقض: كما قال إبراهيم (عليه السلام) للنمرود حين قال: [أَنَا

أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ

فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ] [البقرة: 258] ، ولما رأى ابن مسعود (رضي الله عنه) جماعة

يعدون تسبيحهم بالحصى، قال لهم: (والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من

ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة) [30] .

3- الإقناع بالدليل، وذلك يتطلب الأمور التالية:

أ- صحة الحجة. ... ... ب- صحة الدلالة.

ج - ترتيب الأدلة. ... ... د- ترك التشهي.

4- حسن الصياغة: وذلك بسلامة اللغة، وسهولتها، والاقتصاد في ... العبارة [31] .

المرتبة الثالثة: تعزيرهم وكسر شوكتهم:

وذلك بمعاقبتهم بما يستحقون من العقوبات الشرعية، من: هجرهم، وترك

توقيرهم، ونزع ولايتهم، وحرمانهم من العطاء، وطردهم، وسجنهم، وقتلهم،

قال شيخ الإسلام: (من كفّر المسلمين أو استحل دماءهم وأموالهم، ببدعة ابتدعها، ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: فإنه يجب نهيه عن

ذلك وعقوبته بما يزجره ولو بالقتل أو القتال؛ فإنه إذا عوقب المعتدون من جميع

الطوائف، وأُكرم المتقون من جميع الطوائف: كان ذلك من أعظم الأسباب التي

ترضي الله ورسوله وتصلح أمر المسلمين) [32] ، وذلك حين تكون لأهل السنة

ولاية قائمة.

المرتبة الرابعة: إزالة رسومهم:

مثل تسوية الأضرحة، ومنع كتبهم، ومنع اجتماعهم على البدع.. ونحو ذلك أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال علي (رضي الله عنه) لأبي

الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟ : أن لا تدع صورة إلا

طمستها ولا قبراً إلا سويته) [33] .

وكما فعل عمر بن الخطاب بقطع شجرة (بيعة الرضوان) لما رأى بوادر الغلو

فيها قامت أو تكاد.

المرتبة الخامسة: الثبات والصبر حال تسلط أهل البدع:

ويذكر ابن تيمية (رحمه الله) صوراً من هذا التسلط في فتنة الجهمية ودعوتهم

إلى القول بخلق القرآن، فيقول: (امتحنوا الإمام أحمد وسائر علماء وقته، وفتنوا

المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهّم بالضرب والحبس والقتل والعزل

عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادات وترك تخليصهم من العدو) [34] .

فالواجب والحالة هذه الصبر، والثبات، والتمسك بالدين، والحذر أن تزل

قدم بعد ثبوتها، والنظر إلى تسلط الأعداء على أنبياء الله، وكيف كانت العاقبة

للمؤمنين، وكيف أن التاريخ يحفظ للصابرين جميل فعلهم بحفظ الدين وتثبيت

العامة على الدين.

وأما متى يسوغ السكوت عن البدع، فذلك في مقامين:

الأول: أن يكون في الرد مفسدة أعظم، فليس كل راد مؤهلاً لذلك، قال شيخ

الإسلام: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة

وجواب الشبهة؛ فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في

المقاتلة أن يقاتل علجاً قويّاً من علوج الكفار) [35] .

والثاني: أن يلحق الداعي بلاء فادح، فهو مخير بين الأخذ بالعزيمة أو الأخذ

بالرخصة الموسعة للمستضعفين من الرجال والنساء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015