دراسات تربوية
ومظاهر الانحراف فيه
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
يمكن القول بأن التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني هذه (العبادة) ؛ لأن الدين
استعانة وعبادة، كما يشير إليه قوله (تعالى) : [إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ... [الفاتحة: 5] ، وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية
الصحيحة، ومن ذلك: قوله (تعالى) : [وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
[المائدة: 23] ، وقوله (تعالى) : [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ... [الطلاق: 3] .
وقال (تعالى) عن أوليائه: [رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ]
[الممتحنة: 4] ، وقال (تعالى) لرسوله: [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ ... المُبِينِ] [النمل: 79] ، وكذلك: [وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ] [الفرقان: 58] .
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها:
أ- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب
(هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون) [1] .
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: ((حسبنا
الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم، حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: ... [إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ ... ... الوَكِيلُ] ) [2] .
ج- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً: (لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) [3] .
تعريف التوكل بمعناه الصحيح:
التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل
بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه:
أ -فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله) عن التوكل: (هو حال
للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء
والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه
الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به،
ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه) [4] .
ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين (حفظه الله) في شرحه لكتاب
التوحيد، حيث قال: (التوكل: هو الاعتماد على الله (سبحانه وتعالى) في جلب
المطلوب وزوال المكروه، مع فعل الأسباب المأذون فيها) [5] .
تباين الخلق في توكلهم على الله (سبحانه) وأفضلهم في ذلك:
وضّح الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) هذه المسألة أتم توضيح بقوله:
(فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل، وإن تباين
متعلق توكلهم:
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته،
وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله،
فارغاً عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه: من رزق، أو عافية،
أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد.. ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب
هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.
فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق،
وواجب النفس وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية،
أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين
في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم
ومقاصدهم، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول
رغيف) [6] .
التوكل وأنواعه:
1- توكل الموحدين الصادقين:
وحقيقته: الاعتماد على الله (عز وجل) وحده، والثقة بكفايته مع فعل
الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها؛ فخالق الأسباب
ومسببها هو الله وحده.
2- التوكل الشركي، وهو نوعان:
أ - أكبر، وهو: (الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً
في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر) [7] .
ب - الشرك الأصغر، وهو: (الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه..
وغير ذلك، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه
مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم
يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد
في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر) [8] .
3- التوكل الجائز:
(وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك بعض
مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده) [9] (كمن وكّل شخصاً
في شراء شيء أو بيعه، فهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه، وكأنه يشعر أن
المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن
يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن
يشتري له أضحية) [10] ، ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور،
وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له، فرجع الأمر كله لله وحده.
ضوابط الأخذ بالأسباب:
الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من
التعلق بها والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - (الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها،
ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل
المقصود، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن
شاءه الخلق) [11] .
2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة: كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده) [12] ... 2 - (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا.
3 - (أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون
مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله (عز وجل)
بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها) [13] .
4 - (إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا
يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله (عز
وجل) ، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع
المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق) [14] .
5 - (إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا
يضعفه، فإن أضعفه، وفرق على العبد قلبه، وشتت همه: فترْكه أولى، وإن لم
يضعفه: فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا
تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله (عز
وجل) ، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب
المنوي به القربة) [15] .
(إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل، فمن عطل
الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول
الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون
توكله عجزاً أو عجزه توكلاً) [16] .
(وسر التوكل وحقيقته هو: اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره
مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله
(توكلت على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان
شيء، وتوكل القلب شيء) [17] .
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه:
بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه، فيجدر
بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا
العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض
أبناء الأمة في عجزهم، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به.. وما إلى
ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة، هذا.. ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف،
وظهور الفِرَق: أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف، يضاف إلى ذلك: ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط
النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه
وقدره وملكه وقهره وعظمته.. وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم
العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين
بحقيقة هذا الدين وأصوله: نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ
الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.
وفي الفقرات التالية: أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا
الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا؛ حتى نتجنبه، ونحذر منه.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب، والذين وقعوا في هذا
الانحراف على صنفين:
أ- صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا
عجزه توكل، وتوكله عجز، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله
(عز وجل) ، ولايبرر شهوته بشبهة، وفي ذلك يقول ابن القيم (رحمه الله تعالى) :
(وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.
ومنه: اشتباه التوكل بالراحة، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل، ...
وإنما هو عامل على عدم الراحة..) [18] .
ب- أما الصنف الثاني: فقد أُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله (عز وجل)
وجهله بسنن الله (سبحانه) في ارتباط المسببات بالأسباب، وأن الأخذ بالأسباب
بضوابطها الموضحة سابقاً لا ينافي التوكل، بل إن تركها قدح في حكمة الله (عز
وجل) ، ونقص في العقل، وما علم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه (سبحانه) هو
أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه، يقول الإمام ابن رجب (رحمه
الله تعالى) : (واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدّر الله
سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله (تعالى) أمر بتعاطي
الأسباب مع أمره بالتوكّل، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل
بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]
[النساء: 71] ) [19] .
ويتحدث ابن القيم (رحمه الله تعالى) عن توكل الرسول وصحابته الكرام مع
أخذهم بالأسباب، فيقول: ( ... وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين،
وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، وجميعُ أصحابه،
وهم أولو التوكل حقّاً، ... فكانت هممهم (رضي الله عنهم) أعلى وأجل من أن
يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي؛
فيجعله نصب عينيه، ويحمل عليه قوى توكله) [20] .
2- ويقابل الانحرافَ السابق انحرافٌ في الجانب المقابل، ألا وهو الإفراط
في فعل الأسباب والتعلق بها محبةً وخوفاً ورجاء، ومعلوم ما في هذا الانحراف من
خطر شديد على التوحيد، فهو إما شرك أكبر: إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر
استقلالاً، وإما شرك أصغر: إذا لم يعتقد ذلك، ولكنه تعلق بها وحابى من أجلها،
وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه. وما أكثر من يقع
منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله (عز وجل) ، ولكن ما بين مُقِلٍّ
ومكثر، وإن وجد من يحقق التوكل على الله (عز وجل) في أمور الدنيا فإن
المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقل وأقل، وفي ذلك يقول الشيخ محمد ابن
عثيمين (حفظه الله) :
(ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة
أوالعادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في
الغالب على الأسباب الظاهرة، وننسى ما وراء ذلك، فيفوتنا ثواب عظيم وهو
ثواب التوكل) [21] .
3- ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة، لا
من مقامات الخاصة، ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يطلب به إلا
حظوظ الدنيا، كما هو شأن عامة الناس، وهذا غلط، فإن أعظم ما يُتوكل على الله
فيه الأمور الدينية، وحفظ الإيمان، وجهاد أعداء الله (عز وجل) ، ورجاء ثوابه
(سبحانه) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(.. وعلى هذا: فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا
يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط، بل التوكل في الأمور الدينية ... أعظم) [22] .
4- جبن القلب والخوف من المخلوق:
إن مما ينافي حقيقة التوكل: الخوف من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب
أو فعل ما يحرم، محاباة للمخلوق أو خوفاً من شره، ومثل ذلك يكون أيضاً في
الطمع والرغبة، فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شرِّه إذا أدى إلى ضعف
التعلق بالله (عز وجل) وضعف الثقة به (سبحانه) ؛ فإن هذا يقدح في التوكل،
ويضعفه إن لم يذهبه، ومن تعلق بشيء وُكِلَ إليه، ومن وكل إلى غير الله (عز
وجل) ضاع وهلك، وخاب وخسر.. ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على
هذا الضعف: ما يعتري بعض الدعاة وهو في دعوته إلى الله (عز وجل) من خوف
على نفسه أو رزقه أو منصبه، الأمر الذي يؤدي ببعضهم إلى ترك ما هم عليه من
تعليم للعلم أو دعوة إلى الله (عز وجل) ، والإحجام عن مجالات الخير ونفع الناس،
بحجة الحذر والبعد عن الفتن.. والله (سبحانه) أعلم بما في قلوب العالمين. ثم إنه
لو كان يغلب على الظن حصول الأذى والابتلاء لكان لذلك بعض الوجه في الأخذ
بالرخصة وترك العزيمة، أما وأن الأمر على العكس من ذلك؛ حيث يغلب على
الظن عدم التعرض للأذى، فإنه لا تفسير لهذه المواقف إلا ضعف التوكل على الله
(عز وجل) ، والوسوسة الشديدة، والمبالغة في الخوف، والحذر الزائد من المخلوق
الضعيف، وتهويل أمره، وهذا من كيد الشيطان ووسوسته، وكأننا لم نسمع ولم نعِ
قوله (تعالى) : [إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] [آل عمران: 175] .
يقول صاحب الظلال (رحمه الله تعالى) : (والشيطان صاحب مصلحة في
أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قويّاً قادراً قاهراً بطّاشاً جباراً، لا
تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مُدافِع، ولا يغلبه غالب، الشيطان صاحب
مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فَتَحْت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب
والبطش: يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه، يقلبون المعروف منكراً، والمنكر
معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويُخفتون صوت الحق والرشد
والعدل.. والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في
صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ... ومن هنا: يكشفه الله ويوقفه عارياً، لا
يستره ثوب من كيده ومكره، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته؛
ليكونوا على حذر، فلا يَرهبوا أولياء الشيطان، ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف
من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته) [23] .