افتتاحية العدد
ردة.. ولا أبا بكر لها [*]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلقد قال بأبي هو وأمي: ( ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن
اعتصمتم به: كتاب الله) [أخرجه مسلم، كتاب الحج] ، وهذا ما وعاه صحابته
الكرام (رضي الله عنهم) ، فكانوا أمناء على العهد، أوفياء لرسالة الإسلام، حيث
تحملوا في سبيلها المحن والشدائد حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً؛ فاستقامت
دولة الإسلام وعز جانبها طوال القرون المفضلة، إلى أن أصاب الأمة داء الأمم:
الفرقة، والانحرافات العقدية، وما تبع ذلك من الاحتلال الأجنبي والتبعية والتقليد،
ثم ظهور الملل والنحل كالقاديانية والبهائية والبابية.. وغيرها من الفرق الباطنية
التي حكم العلماء المحققون بردتهم، وكان ظهور تلك الفرق بعدما عطلت الشريعة
الإسلامية في كثير من البلدان وعطل معها حد الردة؛ مما جرأ زعماء تلك الطوائف
المنحرفة على إظهار عقائدهم الضالة، فتبعهم كل ناعق، وسار على دربهم أدعياء
التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر من المدرسة العقلانية أو ما يسمى باليسار
الإسلامي الذين تبنوا الدعوة إلى محاكمة النصوص الشرعية مثلها مثل النصوص
البشرية، وإلغاء حكم الردة، وإباحة زواج المسلمة بغير المسلم! . ومن هنا:
جاءت الآراء المشبوهة التي طرحها أمثال (فرج فودة) ، و (سعيد العشماوي) ، و (محمد أحمد خلف الله) ، ثم ما أثاره مؤخراً المدعو (نصر حامد أبو زيد)
في كتاباته، ومنها: (مفهوم النص) ، و (إشكاليات القراءة وآليات التأويل) ... و (نقد الخطاب الديني) ، التي دعا فيها إلى محاكمة (النص القرآني) وتأويل
تعاليمه، بما يخرجها عن معناها الشرعي، ولقد فشل في نيل درجة (الأستاذية)
لما احتوته كتبه من أخطاء وتأويلات باطلة، حيث فضحه العلماء والمفكرون على
رءوس الأشهاد، ثم كونت لجنة أخرى من مناصريه بقدرة قادر أجازت أبحاثه،
وأعطته الدرجة التي يسعى إليها، لكنه فوجئ بفتوى علماء الأزهر بردته على
ضوء ما كتبه من آراء وأفكار منحرفة في حق الإسلام والحكم بالتفريق بينه وبين
زوجته، ولما طُعن في الحكم أكده القضاء الوضعي مرة أخرى ورفض نقضه..
ولا يستبعد أن يحاول (اللوبي العلماني) إصدار قرار بتبرئته، وتنصيبه عالما
يشار له بالبنان.
ويبدو أن ما تعرض له (أبو زيد) زمانه من دفاع مستميت لإلغاء الحكم
بردته، ومناصرة التيار العلماني له بكافة فئاته حتى صار حديث المنتديات ومتابعة
وسائل الإعلام.. قد أغرى بعض المنهزمين بتبني هذا النهج لينال بدوره شهرة
أخرى، حتى ولو على حساب ما يدين به من عقيدة وما ينتسب إليه من دين،
فقرأنا عن أستاذ مغمور بجامعة الكويت أنه بدأ بطرح آراء شاذة، والدفاع عن
المنحرفين فكريّاً بمقالات صحفية متوالية، ومن آخر ما كتبه: تهجمه على رسالة
الرسول، وما زعمه عنه من الفشل في إقامة دولة الإسلام!
ويكفينا أن جهة الفتوى هناك أدانت رأي المذكور واعتبرته مسيئاً للرسول.
العجيب: أن هذا الرجل كان في بداياته يتظاهر بالدين والدعوة للإسلام، وفتحت له
بعض المجلات الإسلامية صفحاتها في لقاءات ومشاركات عديدة، وكانت آراؤه
تناصر الاتجاه الإسلامي ضد فلول العلمانية، لكنه انتكس وبات يردد بصفاقة مزاعم
العلمانيين ضد التيار الإسلامي الذي يطلقون عليه (الإسلام السياسي) ، مع أن
المذكور ترجم رسالة عن الفكر السياسي لدى شيخ الإسلام (ابن تيمية) ، وهذه
ظاهرة مَرَضيّة بالفعل تستحق الدراسة، (نسأل الله السلامة) .
لقد كان لأمة الإسلام وحكامها على مر التاريخ مواقف حاسمة من الحركات
الشاذة والدعوات المشبوهة، التي كانت لا تجرؤ على طرح أفكارها في العلن؛
لخوفها من تطبيق حد الردة على كل منكِر لما علم من الدين بالضرورة.
وكذلك من سار على دربهم من المعاصرين، هم عادة ما يكونون ذوي
منطلقات مشبوهة وذوي أهداف معدة سلفاً، لهدم الإسلام من الداخل.
فما أحوجنا إلى التعامل مع أصحاب هذه الأطاريح المنحرفة بحزم، وبيان
انحرافهم عن الصراط المستقيم؛ حتى لا يضللوا غيرهم، وما أشد حاجة الأمة إلى
التطبيق صراحة لما تذكره في دساتيرها وأنظمتها من أن دين الدولة هو الإسلام،
فإنها مدعوة إلى تطبيق حد الردة باعتباره حكماً شرعيّاً محكماً ورد في الكتاب
والسنة، يقول (تعالى) : [وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] [المائدة: 5] ، ويقول: (من بدل دينه فاقتلوه) [متفق عليه] ، وألا
تجعل الذوات الحاكمة فقط هي المحمية والمصانة، إذ إن الله ورسوله أولى من
غيرهما بالاحترام والتبجيل.
ومعلوم للقراء الكرام أن هجوم العلمانيين على الإسلام والسخرية منه ومن
المنتسبين له بدعاوى تافهة: سبق أن فضحناها وبينّا أن تلك التهجمات ذات أهداف
مكشوفة، وأن المراد هو: الهجوم على الإسلام ذاته، والإسهام فيما أسموه بـ
(تجفيف المنابع) .. نسأل الله أن يعاملهم بما يستحقونه.
ومن تحصيل الحاصل: أن تلك الاتجاهات المعادية للإسلام قد شجعت على
الارتداد عن دين الإسلام في بعض الدول، وعلى سبيل المثال لا الحصر: ما
حصل من تنصِّر أحد مواطني الكويت الذي التجأ إلى إحدى كنائسها بعد الحكم عليه
بالردة من طائفته، ثم الموقف المتميع حيال هذه الحالة إلى حد أن أتيح له محامياً
يدافع عنه، وفي الأخير: سُرِّب المرتد وسافر خارج البلد.
وقد ذكر أن هناك أعداداً أخرى أعلنت الردة عن الإسلام، ولا ندري عن مدى
صحة ذلك، وكذلك كان الرسام المصري (بيكار) قد تبنى النحلة البهائية في
قضية سابقة، وتسوهل معه فيها، وتم إطلاق سراحه.
إننا نرى أن الموقف يحتاج إلى وقفة ومزيد تأمل لعلاج هذه المسألة والبحث
عن حلول مناسبة لها؛ إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن يرتد مسلم بحق عن دينه
سوى:
1- ضعيف إيمانٍ ممن وُسوِس له بالشبهات وأغري بالشهوات.
2- من سقط في شباك المنصرين، فتعرض لغسيل فكري متواصل.
3- من جهل دينه، وأعرض عن تعلمه، والعمل به، حري به أن يضل
ضلالاً بعيداً.
4- من ألقي من أبناء المسلمين إلى المدارس التنصيرية للدراسة بها،
وتشربوا مبادئها. والحلول الناجعة للوقوف في وجه هذا الطوفان الذي يعمل ليل
نهار في جل ديار الإسلام هي: قلب تلك المظاهر، والقضاء المبرم على أسبابها،
والعمل المتواصل لإيقاف تلك الهجمة التنصيرية القائمة في وسائل الإعلام،
وضرورة فسح المجال لدعاة الإسلام كي يقوموا بدورهم ويقولوا كلمتهم في تلك
التيارات المنحرفة، وفضح رموز التيار العلماني المنافق الذي يدافع عن المرتدين
بدعوى الحرية الشخصية! ، ويعمل على إبراز وتلميع مثل هذه الحالات؛ لإشاعة
الفاحشة والانحراف العقدي في الأمة.
بقيت مسألتان، هما:
أولاً: أن الردة ليست فقط اعتراف فلان من الناس بارتداده عن الإسلام أو
إقراره بذلك، وإنما تكون الردة أيضاً بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام الكثيرة،
ومنها: بغض شيء جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو عمل به ظاهراً.
الاستهزاء بشيء من دين الله. الاعتقاد بأنه يمكن الخروج على شريعة ... الإسلام [**] .
ثانياً: تظاهر العلمانيين بالإسلام، وفي الوقت نفسه: محاربته بتبني أفكار
مضادة له، والدفاع عن الزنادقة والمرتدين.. فعليهم أن يوضحوا للناس حقيقة
إسلامهم والتبرؤ من كل ما يناقض الإسلام، أو أن يعلنوا صراحة موقفهم الرافض
لهذا الدين، فيعرفهم الناس على حقيقتهم.
كم نحن بحاجة ماسة إلى حزم الخليفة الراشد (أبي بكر الصديق) ، وموقفه
العظيم من المرتدين، الذي أصر فيه على حربهم.. حتى عادوا إلى الإسلام.
والله نسأل أن يقر أعيننا بنصر الإسلام وعز المسلمين، وأن يرينا في أعداء
دينه إن لم يهتدوا يوماً أسود، وما ذلك على الله بعزيز