مقال
تأملات في فقه الجهاد
(1 من 2)
بقلم: د.محمد بن عبد العزيز الشباني
ترتبط قوة المجتمع الإسلامي بمدى تمسكه والتزامه بأسس وقواعد الإيمان
الذي يرتكز عليها البناء العقائدي للإسلام، وممارسته للتشريعات والأحكام التي
تمثل المنهج السلوكي لأفراد الأمة، في مجتمع يقوم تنظيمه السياسي والاجتماعي
والاقتصادي على هذه التشريعات والأحكام.
إن ضعف المجتمع الإسلامي وانهزامه يرتبط مباشرة بابتعاده وخروجه عن
أحكام الإسلام، سواء أكان منها ما يرتبط بسلوكيات الفرد، أو بالتنظيمات
الاجتماعية التي يجب على المجتمع المسلم الالتزام بها، لحماية المجتمع المسلم
وإبقائه مرتبطاً بمرتكزاته العقائدية والتشريعية المنظمة لأموره؛ فقد وضع الإسلام
منهجاً أوجب على كل فرد من أفراد مجتمع المسلمين ممارسته، كل بحسب طاقته
وقدرته وعلمه، يتمثل هذا المنهج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال
جهاد اليد واللسان والقلب، فموضوع الجهاد أكبر من أن يقصر على قتال الكفار من
النصارى واليهود وغيرهم.
لقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة من القرآن، تدور
كلها حول المفهوم الشامل للمجاهدة والمدافعة، يقول الإمام الماوردي في تفسيره
لقول الله (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
[البقرة: 218] : « (وجاهدوا) يعني: قاتلوا، وأصل المجاهدة: المفاعلة من قولهم: جهد كذا، إذا أَكَدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد
من صاحبه شدة ومشقة، قيل: فلان يجاهد فلاناً» [1] ، ويشير صاحب تفسير
(غرائب القرآن) إلى مفهوم الجهاد، فيقول: «والمجاهدة من (الجَهد) بالفتح، الذي
هو المشقة، أو من (الجُهد) بالضم: الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل جهد كذا، إذا أَكَدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد
العدو مثل ذلك، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله، كالمساعدة: ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصل القوة» [2] ، ويوضح الحافظ
ابن حجر (رحمه الله) في (فتح الباري) مفهوم الجهاد بقوله: «الجِهاد (بكسر الجيم) ، أصله لغةً: المشقة، يقال: جهدت جهاداً إذا بلغت المشقة، وشرعاً: بذل الجهد
في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما مجاهدة
النفس: فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها، وأما مجاهدة
الشيطان: فعلى ذم ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات، أما مجاهدة
الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساد: فباليد، ثم اللسان،
ثم القلب» [3] .
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم التي ذكر فيها لفظ (الجهاد) ضمن المفهوم العام
الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر يمكنه حصر متعلقاتها بالآتي:
1- مغالبة الكفار ومقاتلتهم، أي: المواجهة الحربية وقتالهم؛ لإلزامهم
بالدخول في الإسلام، مثل مشركي العرب، أو بدفع الجزية وفتح المجال أمام من
يرغب في الدخول في الإسلام بإزالة الخوف وتحقيق مبدأ «لا إكراه في الدين» ، ومن الآيات المؤكدة لهذا المعنى: قوله (تعالى) : [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: 142] ، ... وقوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً] [الأنفال: 74] ، وقوله (تعالى) : ... ... [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (?) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الصف: 10، 11] .
2- بذل المال للجهاد: وإطلاق لفظ الجهاد على بذل المال، وقد قدّم المال
على النفس في معظم الآيات التي تحدثت عن الجهاد؛ لما له من دور في تحقيق
غاية الجهاد، ومن ذلك قوله (تعالى) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] ... [الحجرات: 15] ، وقوله (تعالى) : [الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ] [التوبة: 20] .
3- جهاد الكلمة: من خلال الدعوة إلى الله، ورد شبهات المنافقين والكافرين
بالحجة والبرهان، والعمل على نشر الحق والخير، ومنع المنكرات الفعلية والقولية
من خلال الكلمة الصادقة والحجة القاطعة، يقول الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] [التحريم: 9] ، ومعروف أن المنافقين يمارسون
حياتهم ضمن المجتمع المسلم، ولكنهم يمارسون الكفر من خلال الكيد للإسلام بقول
الكلمة السيئة؛ لصرف الناس عن الحق وتشويه الأفكار والأحكام الإسلامية؛ بقصد
بذر بذور الشك، ولقد صور القرآن الكريم تلك الأساليب من الكيد للإسلام خلال
العهد النبوي وذلك: بالتحالف مع اليهود ومشركي العرب بزعامة قريش في عدد
من آيات الكتاب الحكيم، وحيث إن مجابهة المنافقين لا تتم من خلال المواجهة
العسكرية، وإنما من خلال الكلمة، فقد كان لجهاد الكلمة مكانة رفيعة وبارزة في
الدفاع عن الأساس العقدي والتشريعي للمجتمع المسلم، ولهذا: وجه الله رسوله إلى
الاستعانة بالقرآن الكريم للرد عليهم، يقول (تعالى) مخاطباً رسوله ومن معه ومن
بعده من المؤمنين: [فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] [الفرقان: 52] ، ويفسر ابن كثير هذه الآية بقوله: « (وجاهدهم) ، أي: بالقرآن، قاله ابن عباس، جهاداً كبيراً، كما قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] ... الآية [4] ، وقوله (تعالى) : [وَمَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] [العنكبوت: 6] ، قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من
الدهر بسيف» [5] .
4- مغالبة النفس وجهادها: بمنعها من الوقوع في الشرك والكفر والفسوق
وارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب، ويطلق القرآن على هذه المدافعة النفسية لفظ
الجهاد، يقول (تعالى) : [وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ] [لقمان: 15] فقد
نزلت هذه الآية في سعد بن مالك (رضي الله عنه) وموقفه من أمه، وكان بارّاً بها،
ومع ذلك: لم يتابعها على دينها مع ما يبذله من بر وطاعة وحسن خلق معها، كما
أن من المجاهدة: الصبر على تحمل الأذى في سبيل العقيدة، والالتزام بما أمر الله
به من فعل، وترك ما نهى الله عنه من فعل، يقول (تعالى) : [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] ، وقد ذكر ابن كثير عن
ابن أبي حاتم عن أبي أحمد من أهل عكا تفسيراً لمفهوم هذه الآية أنه قال: «الذين
يعملون بما يعلمون: يهديهم الله لما لا يعلمون» ، وهذا لا يحصل إلا بمجاهدة
النفس.
يرتبط الجهاد حسب المفاهيم السابقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
من حيث إن الجهاد هو وسيلة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبدون
ممارسة المجتمع المسلم بمختلف فئاته وفقاً للضوابط الشرعية وظيفة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر: فإن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام يفقد دوره
الحافظ لقيم ومبادئ وتشريعات الإسلام، ولهذا: فهناك التلازم فيما رواه مسلم في
صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما من نبي بعثه الله في
أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها
تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو
مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» [6] .
فهذا الحديث يؤكد التلازم بين الجهاد بالمعنى العام والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بشكل واضح؛ حيث يحدد أن الإيمان الذي يمثل الركيزة التي يقوم عليها
البناء الاجتماعي للمجتمع المسلم إنما يقوم على مجاهدة أولئك الذين يريدون أن
ينحرف المجتمع المسلم عن مساره قولاً وفعلاً، فمقاومتهم جهاد، وعليه: يأتي
التوجيه النبوي لمجموع أفراد الأمة بوجوب تغيير المنكر، كما جاء في الحديث
الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول: «.. من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [7] .
لقد جاءت لفظة (المنكر) في هذا الحديث بصيغة التنكير التي تفيد العموم،
وقد ذكر الحسن بن محمد النيسابوري في كتابه غرائب القرآن عند تفسيره لقوله
(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104] مفهوم الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بقوله: «إن لفظ (الخير) جنس، تحته نوعان: الترغيب في فعل ما
ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته، والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان، فقال: ويأمرون بالمعروف، وينهون
عن المنكر [اي: أتبع كلمة (الخير) المشتملة على النوعين، الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر] ، واختلفوا في أن كلمة (مِنْ) في قوله (منكم) للتبيين أو للتبعيض، فذهبت طائفة إلى أنها للتبيين؛ لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه.. وقال آخرون: إنها للتبعيض،
إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كالنساء والمرضى والعاجزين، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون
الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما،
وكيف يباشر» [8] .
أنواع وأشكال الجهاد:
إن مراتب الجهاد المرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتحدد في
ثلاثة أشكال حسبما حددها حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) على النحو
التالي:
أولاً: الجهاد العسكري، وهو جهاد يقصد منه إزالة المنكر الذي يحتاج إلى
استخدام القوة لتغييره.. والمنكر الذي يحتاج إلى استخدام القوة من خلال الجهاد
العسكري ينقسم بدوره إلى: جهاد لنشر الإسلام، باعتبار أن أكبر المنكرات هو
الصد عن الإسلام من خلال محاربة الإسلام والمسلمين ومنع الناس من أن يعبدوا
الله وفق ما شرعه.. وإلى جهاد لصد الكفار من اليهود والنصارى ممن استباح ديار
المسلمين واحتلهم واستذلهم وحاربهم وحارب كل من سعى لتطبيق منهج الله وشرعه
في ديار الإسلام من خلال التهديد بمختلف صوره قولاً وفعلاً.
هذا الجانب من الجهاد قد ضعف، بل أصبح من الأمور التي يُتكلم فيها على
استحياء، فنجد المقولة التي يُراد لها أن تتعمق في العقل المسلم: إن الإسلام دين
يدعو إلى السلام، ولو كان السلام يقوم على التمكين لغير شرع الله! ، وبالتالي:
فلا يجوز محاربة الكفر وإعلان الجهاد لتبليغ رسالة الإسلام وإزالة الطواغيت التي
تصد الناس عن سماع واتباع الحق، من أجل ذلك: فقد قامت الدعوة إلى عقد
الندوات والمؤتمرات الداعية إلى التقارب بين الأديان ونبذ الصراع مع الباطل
ومسالمته، مع أن سنة الله قائمة على استمرار الصراع بين الحق والباطل.
إن الجهاد العسكري ضد الدول الكافرة التي تحارب الإسلام؛ فتصد عن سبيل
الله، أو تساعد وتناصر القوى الظالمة والجبابرة من أجل إبقاء المجتمع المسلم تحت
عبوديتها، والعمل على تجذير الفرقة، والتمكين لأعداء الإسلام من المنافقين
والملحدين من استعباد المسلمين.. هذا الجهاد أمر أوجبه الله على المسلمين، لقد
جاءت نصوص القرآن واضحة جلية بهذا الخصوص، فمن ذلك قوله (تعالى) : [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [النساء: 74] ، وقوله (تعالى) : [وَمَا
لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياً وَاجْعَلْ لَّنَا
مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء:
75، 76] ، وقوله (تعالى) : [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ، إن دلالة هذه الآيات
صريحة بأمر قتال جميع قوى الكفر ممن يحاربون الإسلام ويمنعون عباد الله من
الانضواء تحت شريعة الله، بل يظاهر بعضهم بعضاً لمحاربة الإسلام ودعاته
والمطالبين بتحكيم شرعه، من هنا: فإن واجب الأمة السعي لتوجيه الجهد والطاقة
لإحياء مفهوم الجهاد ومناصرة المستضعفين من المسلمين، الذين تنتهك حرماتهم،
وتستباح ديارهم، ويُخرجون من ديارهم لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمون، وقد أوجب
الله جهاد هذه الفئة ممن يظاهر ويناصر أعداء المسلمين في قوله (تعالى) : [إنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [الممتحنة: 9] ، ومن مفهوم
هذه الآية: فإن أي موالاة ومناصرة وخضوع لتلك القوى الكافرة اقتصاديّاً وإعلاميّاً
سيجلب مقت الله وعذابه، فقد حذرنا رسول الله من الوقوع في ذلك بالحديث الذي
جاء فيه: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم
الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» [9] ، وهذا الحديث
يصور واقع الأمة الإسلامية وما وصلت إليه من ذل ومهانة، بحيث أصبح بعضها
يلجأ لحل مشاكلها ونزاعاتها فيما بينها إلى دول الكفر من النصارى واليهود لحلها
ونيل النصرة منها، مع أن الله (تعالى) قال في كتابه: [ ... لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا
ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] [التوبة: 8] ، وقال
(تعالى) : [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ]
[الممتحنة: 2] .
إن التجربة التاريخية المعاصرة توضح هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن عن
مدى الحقد والغل الذي يكنّه النصارى واليهود حتى مع استسلام المسلمين
وخضوعهم لهم، وصدق الله: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى] [البقرة: 120] .
من الفتن المظلمة في هذا العصر فيما يتعلق بمفهوم الجهاد: أن أعداء الله من
المنافقين الذين ابتليت بهم الأمة عمدوا إلى تحريف العبارات عن مدلولاتها ومعانيها
لتوافق أهواءهم وأهواء من باعوا أنفسهم له، فمن ذلك: استخدام لفظ الجهاد وأدلته
لدفع كثير من البسطاء ممن يدفعه الحماس الديني والرغبة في الاستشهاد والانخراط
في القتال باسم الجهاد وباسم الاستشهاد؛ لتحقيق أغراض، الله عليم بها، وكذلك:
إطلاق لفظ الشهيد على أولئك الذين يقتلون تحت راية وطنية أو قومية أو مذهبية أو
طائفية؛ بقصد تحقيق مكاسب سياسية تخدم قوى الكفر من النصارى واليهود.
المفهوم الصحيح للجهاد:
المعنى الصحيح للجهاد هو ما فسره الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) في
الحديث الذي رواه البخاري، عن أبي موسى (رضي الله عنه) قال: «قال أعرابي
للنبي: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، من
في سبيل الله؟ ، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ... الله» (?) ، ويعلق الإمام ابن حجر على هذا الحديث فيقول: «وفي إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم- بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه؛ لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله لاحتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة» [11] .
إن على المسلمين أفراداً أو جماعاتٍ أن يكونوا على حذر من الدعوات التي
تطلق باسم الجهاد، فلا ينخدع المسلم بكل من رفع راية الجهاد، وزعم أن رايته
راية إسلامية، وعليه أن يتحقق من صحة دعوى الجهاد التي يطلقها الزعماء والقادة
وأتباعهم ممن يزعم العلم والصلاح، وذلك بعدة أمور، من أهمها ما يلي:
1- النظر إلى المنهج الفكري للداعي للجهاد، وهل هو منهج إسلامي أم غير
إسلامي، وهل من يدعو للجهاد يمارس الإسلام قولاً وسلوكاً وتنظيماً ونظاماً، أم
إن الدعوة جاءت لجذب الأنصار وللتضليل مع أن منهج الداعي في منظمته أو
دولته يتعارض مع الإسلام ومبادئه؟ ، لهذا: ينبغي النظر بدقة إلى واقع الداعي،
ومدى التزامه بالإسلام فعليّاً من عدمه.
2- دراسة وتمحيص التاريخ الشخصي للقادة الذين ينادون بالجهاد ومُنظِري
ذلك من أتباع القادة من المفكرين الذين يؤطرون لهؤلاء القادة من خلال دراسة مدى
سلامة عقيدتهم وسلوكهم قبل وصولهم إلى مراكز القيادة، وهل كانوا ذوي
ارتباطات سابقة مع أعداء الله من ولاء وعمالة وخيانة ونفاق؟ ، وعلى ضوء هذا
يتم تحديد صدق دعوة ذلك الزعيم من عدمها؛ فإذا كان القائد الداعي إلى الجهاد
معروفاً بعدائه السابق للإسلام وتشريعاته، بل كان حرباً على التوجهات الإسلامية،
عليه: فلا يمكن الركون إليه ولا إعانته، حتى ولو أظهر للناس عند الحاجة مظاهر
الإسلام لخداعهم.
3- معرفة أهداف القتال ومراميه، الذي من أجله طلب من الناس القيام
بواجب الجهاد، فهل هذا القتال من أجل محاربة الكفار وصد عدوانهم على مجتمع
يعيش فيه المسلمون، أو محاربة وجودهم في أرض الإسلام؟ ، ففي هذه الحالة
ينبغي تلبية الداعي ولو كان فاسقاً في نفسه ومنحرفاً في سلوكه، وإن كان الغرض
من القتال هو العمل على إقامة حكم يلتزم بشرع الله وذلك بتحكيم الإسلام في كل
أمور الحياة فينبغي عندئذ: وضوح هذا الهدف وأن يكون ذلك سياسة معلنة لا
غموض ولا لبس فيها، وليس من أجل الاستهلاك وخداع الناس وتضليلهم، ولهذا:
لا بد من التأكد من صحة هذه الدعوى من خلال قيام الداعي بالممارسة العملية
لتطبيق الشريعة قبل وبعد إعلان الجهاد، وعدم التسويف حتى تنتهي الأزمة ويتم
الانتصار، ثم يقلب الزعيم ظهر المجن لأولئك البسطاء من الناس ممن خدعهم.
4- التأكد من نوعية القيادة لمختلف مستويات المجموعة أو الدولة التي تعلن
الجهاد، فهل هي نوعية ملتزمة في سلوكها وعقيدتها بالإسلام، وهل سياساتها
وعلاقاتها تجري على ضوء تعاليم الإسلام، أم إن المسألة دعايات ومظاهر فقط،
وربما تكون وليدة ردود أفعال لمآزق وقعت فيها الأنظمة، فيكون الهدف حشد الرأي
العام في مناصرتها، فهذا ما يجب معرفته بحق.
فإذا تأكد المسلم من توافر هذه الشروط والأحوال فيمن يدعو لجهاد أعداء الله
من الكفار، وأصبح للداعي تميز مكاني؛ فأصبح للجماعة المنادية للجهاد أرض
تمارس فيها حكم الله، ومن موضعها يتم الانطلاق للجهاد، فعندئذ يصبح الجهاد
فرضاً على كل قادر، بل إن الهجرة لهذا المكان واجبة على القادرين لمناصرة
المسلمين، وهذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما هاجر إلى المدينة، وأصبح للمسلمين دار إسلام ودار منعة؛ حيث وُجدت القيادة، وأصبح للأمة قائد
يتولى أمرها، أما قبل ذلك، وخلال مرحلة الضعف في مكة: فإن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- منع المسلمين من مقاتلة كفار مكة، وأوجب عليهم تحمل
الأذى.