مرتكزات للفهم والعمل
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على نبي الهدى،
ومن بهديه اهتدى، وبعد:
فإن الفلاح مطلب العاملين، وقد رتبه الله (تعالى) على تزكية النفس وتربيتها
وتطهيرها، فقال (عز وجل) : [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى] [الأعلى: 14] ، وقال:
[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 9، 10] .
وقد بعث الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- معلماً ومربياً، فقال: [هُوَ
الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: 2] ، فكان -صلى الله عليه وسلم-
يتعاهد نفوس أصحابه بالتربية والتزكية.
وإن إصلاح النفوس وتزكيتها دأبُ السائرين إلى الله (تعالى) : الأنبياء
وأتباعهم، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكابد من دعوة قومه الشدائد، فإذا أظلم
الليل انتصب لربه راكعاً وساجداً، يسأله ويرجوه، ويخضع بين يديه ويتذلل له،
وقد كان قيام الليل واجباً على المسلمين عاماً كاملاً، وذلك لما له من أثر في إصلاح
القلب، وانطلاقة المسلم وثباته في آنٍ معاً، مما يجعله ضرورة ملحة لا غنى عنها.
ومن ثَم: كان واجب كل مسلم، وخاصة المشتغلين بالعلم والدعوة أن يجعل
من أكبر همه إصلاح نفسه وتهذيبها، وتعاهدها في صلته مع الله، وأخلاقه وسلوكه
مع الخلق، ويجعل من ذلك منطلقاً لدعوة الناس وإصلاحهم.
التخلية والتحلية والمجاهدة:
من أعظم قواعد تربية النفس: تخليتها من اتباع الهوى؛ فإن اتباع الهوى
موجب لأمراض لا حصر لها، وعلّة المرض لا تعالج إلا بضدها، فالطريق
لمعالجة القلوب: سلوك مسلك المضادة لكل ما تهواه النفس وتميل إليه، وقد جمع
الله ذلك كله في كلمة واحدة، فقال (عز وجل) : [وَأَمَّا منْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] [النازعات: 40، 41] ، وقال:
[وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... ] [العنكبوت: 69] .
والأصل المهم في المجاهدة: الوفاء بالعزم، فإذا عزم على ترك شهوة،
وابتلاه الله وامتحنه بتيسير أسبابها، فالواجب الصبر والاستمرار، فإن النفس إذا
عُوِّدت ترك العزم ألفت ذلك، فَفَسَدَت.
ثم يتعين بعد ذلك: تحلية النفس وتعويدها على الخير، حتى تألفه ويكون
سجية لها، قال: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطَه، ومن يتق الشر يوقه» [1] ، فإن الأعمال لها أثر يمتد حتى يصل إلى القلب،
فكما أن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح: فإن كل فعل يجري
على الجوارح قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دَوْر، وهذا من عجيب
العلاقة بين القلب والجوارح [2] .
الحذر من الفتور [3] :
فإذا ما تمت تخلية النفس من اتباع الهوى وتحليتها بفعل الخيرات والفضائل:
وجب بعد ذلك أن يَنْصبّ الاهتمام على متابعة النفس في فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات والنية في المباحات، فإن النفس من طبعها الكسل
والتراخي والفتور.
قال: «لكل عمل شَرّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد
أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» [4] .
قال ابن القيم (رحمه الله) : «تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن
كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم،
رُجي له أن يعود خيراً مما كان» [5] .
درجات الفتور:
إذن: فالفتور أمر لا بد منه، ولكن الفتور درجات وأقسام:
1- أخطرها كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كره لها، وهذه حال
المنافقين.
2- ثم كسل وفتور في بعض الطاعات، مع عدم رغبة، دون كره لها، وهذه
حال كثير من فساق المسلمين.
3- كسل وفتور سببه بدني، فهناك الرغبة في العبادة، ولكن الكسل والفتور
مستمر، وهذه حال كثير من المسلمين.
والخطير في هذه الحالة أن العمر يمضي، والأيام تنصرم دون إنتاج ولا عمل
يذكر، والأخطر من ذلك: الانتقال إلى حالة أشد منها، فتعظم المصيبة، أو يقع
الشبه بالمنافقين في التكاسل عن الطاعات، والتثاقل عن الخيرات؛ لذا: كان النبي
-صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من العجز، ومن الكسل في الصباح والمساء،
ويعلم أصحابه أن يستعيذوا منه.
وقد عاتب الله المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، ودعاهم إلى المسارعة
والمبادرة إلى الخيرات، ورغبهم في جزاء السابقين المسارعين إلى الخيرات،
وبيّنه لهم.
الداعية والفتور:
والفتور والكسل داء يدب في الناس على مختلف درجاتهم، وأخطر ما يكون
على الدعاة وطلبة العلم، مما يجعل تفاديه قبل حلوله، أو تلافيه بعد نزوله أمراً
ضروريّاً، والدفع أسهل من الرفع.
ومن هنا: وجب تعاهد النفس؛ لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة إلى مرحلة، فيتعسر الداء، وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة، أسهل ما يكون
قلعها وإزالتها أول نباتها، فإذا ما تركت أخذت في النمو والكبر والثبات في الأرض، حتى يحتاج قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب: تبدأ في ظواهر
يسيرة، فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة، وطباع
ثابتة.
لذلك: كان الواجب علينا معشر الدعاة أن نتفحص أنفسنا، ونتأمل أحوالنا:
هل نجد شيئاً من مظاهر الفتور؟ ، فنبادر إلى معرفة الأسباب والسعي في العلاج.
مظاهر الفتور:
مظاهر الفتور كثيرة، منها:
التكاسل عن الطاعات، والشعور بالضعف والثقل أثناء أدائها، والغفلة عن
الذكر، وقراءة القرآن.
الشعور بقسوة القلب، وضعف تأثره بالقرآن والمواعظ.
التساهل في ارتكاب المعاصي وإلفها.
عدم استشعار المسؤولية والأمانة، وضعف هم الدعوة في القلب.
انفصام عرى الأُخُوّة بين المتحابين.
الاهتمام بالدنيا، والانشغال بها عن فعل الخير.
كثرة الكلام الذي لا طائل تحته، وكثرة الجدال والمراء، والحديث عن
الأمجاد، والمشكلات، والانشغال بذلك عن العمل الجاد والمثمر المفيد للأمة.
ضعف جذوة الإيمان، وانطفاء الغيرة على محارم الله.
ضياع الوقت، وعدم الإفادة منه.
عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي.
الفوضوية في العمل.
خداع النفس؛ بأن يتوهّم بأنه يعمل، لكنه في الحقيقة فارغ، أو عمله بلا
هدف.
النقد لكل عمل إيجابي.
التسويف، والتأجيل، وكثرة الأماني.
أسباب الفتور:
وإذا تساءلنا: ما أسباب هذا الفتور الذي نعاني منه، وما دواعيه؟ ، فالجواب: إنها كثيرة، متفاوتة في الأهمية، ومنها:
عدم الإخلاص في الأعمال، أو عدم مصاحبته؛ بأن يطرأ الرياء على
الأعمال.
ضعف العلم الشرعي؛ فيضعف علم فضائل الأعمال وثوابها، وفضل
الصبر وأثره، ونحو ذلك.
تعلق القلب بالدنيا ونسيان الآخرة.
فتنة الزوجة والأولاد، فإنها ملهاة عن كثير من الطاعات، إذا لم ينتبه لها.
عدم فهم الدين نفسه، وهذا غريب! ، والأغرب: أن يفهم طبيعة الدين،
ويتذوق حلاوة الإيمان، ثم ينصرف عن العمل في ميدانه.
الوقوع في شيء من المعاصي والمنكرات، وأكل الحرام أو المشتبه بالحرام.
عدم وضوح الهدف الذي يدعو من أجله، وهو: طلب مرضاة الله، وتعبيد
الناس لرب العالمين، وإقامة دين الله في الأرض.
ضعف الإيمان بالهدف، أو الوسيلة الدعوية التي يسلكها.
الغلو والتشدد، بحيث ينقلب ذلك سبباً للملل وترك العمل.
العقبات والمعوقات الكثيرة في طريق الدعوة والداعية، وتلك سنة الله في
الدعاة والدعوات.
الفردية وإيثار العزلة، فيدركه الملل والسأم.
الجمود في أساليب الدعوة وعدم التفكير في وسائل وأساليب توصل المقصود
إلى المدعوين، وتحافظ على أصول الدعوة وروحها، ومن ذلك مثلاً: التنويع في
أساليب مخاطبة الناس، كلٍّ حسب مستواه: بالكلمة المسموعة، والمقروءة، بشتى
صورها وأشكالها، ومنه: التنويع في كيفية إلقاء دروس العلم والقرآن، من حيث
المكان والوسائل.
عدم استحضار عداوة الشيطان المستمرة، وأيضاً: عدم استشعار تحدي
الكفار للمسلمين، وأنهم يبذلون كل وسيلة لصد المسلمين عن دينهم والكيد لهم.
الأوهام ووساوس الشيطان التي تزرع الخوف في القلوب، وتشكك الداعية
في سلامة الطريق.
أمراض القلوب: كالحسد، وسوء الظن، والغل، وحب الصدارة، والكبر ...
التقصير في العبادة وعمل اليوم والليلة من الرواتب والسنن والأذكار والورد
اليومي ...
استبطاء النصر، واستعجال النتائج.
عدم الاستقرار على برنامج أو عمل معين، وترك العمل قبل إتمامه، ثم
الانتقال إلى غيره.. وهكذا.
النظر إلى مَنْ دونه في العلم والعبادة، وذلك مثبط للهمم.
الدخول على أهل الدنيا ومخالطتهم، وفيه مفاسد عظيمة، لا ينجو منها إلا
من سلّمه الله.
الفتور في معالجة الفتور.
علاج الفتور:
ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، والفتور من أشد الأمراض المعنوية،
وتتأكد خطورته حينما لا يحس به الإنسان حتى ينقله إلى الانحراف، فيقضي عليه
والعياذ بالله، ومن هنا تتأكد أهمية العلاج باتخاذ سبل الوقاية منه ابتداء، أو عمل
الأسباب التي تذهب به بعد وقوعه، وأهم سبل العلاج: تلافي أسبابه، وذلك أعظم
وسيلة للنجاة، وإن القناعة بخطورة هذا المرض ووجوب التخلص منه وقاية
وعلاجاً أمر ضروري للإفادة من سبل العلاج، ومنها:
الدعاء والاستعانة؛ فإن الله يجيب المضطر إذا دعاه، والمصاب بدينه الذي
يخاف على نفسه: أعظم المضطرين، والله هو المستعان على كل خير، ولذا:
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً أن يقول دبر كل صلاة: «اللهم أعني
على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» .
تعاهد الإيمان وتجديده، والحرص على زيادته بكثرة العبادة؛ مما يكون زاداً
للمؤمن، ومخففاً عنه عناء الطريق.
مراقبة الله، والإكثار من ذكره، ومراقبته تستلزم خوفه وخشيته، وتعظيمه، ومحبته، ورجاءه، والإيمان بعلمه وإحاطته وقدرته، أما الذكر: فهو قوت
القلوب، وبه تطمئن، وأعظم ذلك: الصلة بكتاب الله (تعالى) : تلاوة، وفهماً،
وتدبراً، وعملاً، وحكماً، وتحاكماً، فإن من لم ينضبط بالقرآن أضله الهوى.
الإخلاص والتقوى؛ [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً]
[الأنفال: 29] .
تصفية القلوب من الأحقاد، والغل، والحسد، وسوء الظن؛ مما يشرح
الصدر، ويسلم القلب.
طلب العلم، والمواظبة على الدروس وحلق الذكر والمحاضرات؛ فإن العلم
طريق الخشية، وهو قوت القلوب.
الوسطية والاعتدال في العبادة، وفي عمل الخير.
تنظيم الوقت، ومحاسبة النفس.
لزوم الجماعة، وتقوية روابط الأخوة.
تعاهد الفاترين ومتابعتهم؛ لئلا يؤدي بهم الفتور إلى الانحراف.
التربية الشاملة المتكاملة على منهاج النبوة التي تقي من الفتور بإذن الله
(تعالى) .
تنويع العبادة والعمل، من: الذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، وقراءة
الكتب المفيدة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقضاء حوائج الناس،
وإغاثة الملهوفين ...
الاقتداء بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، والدعاة المخلصين.. في نشاطهم، وحرصهم على أوقاتهم وأعمالهم.
علو الهمة ونبل المقصد والأخذ بالعزيمة، بأن يكون الهمّ: الجنة،
والمقصود: مرضاة الله؛ بالسعي في العبادة حتى الموت.
الإكثار من ذكر الموت، وخوف سوء الخاتمة، بزيارة المقابر، ورؤية
المحتضرين، فإن ذلك يورث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة..
ونسيان الموت: يورث أضداها.
جعل ذكر الجنة والنار من الإنسان على بال، وقراءة صفة كلٍّ منهما في
كتاب الله (تعالى) وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك يشحذ الهمم
ويذكي العزائم.
الحرص على زيادة العمل، والاستمرار فيه، والحذر من التكاسل، خاصة
فيما حافظ عليه من عمل، فإن من ترك سنة يوشك أن يترك واجباً.. وهكذا.
الصبر والمصابرة؛ فإن طريق العلم والعبادة والدعوة إلى الله طريق شاق
وطويل، وكثير المتاعب والمصاعب.
نسأل الله (عز وجل) أن يثبتنا على دينه ويختم لنا بخاتمة الخير.