مرتكزات للفهم والعمل
في حياة الداعية
بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال
الإخلاص: تجريد قصد التقرب إلى الله (تعالى) عن جميع الشوائب.
وهو أمر عزيز، صعب على النفس؛ لأن كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح
إليه النفس، ويميل إليه القلب، ويخفّ العمل بسببه، قَلّ أم كَثُر، إذا تطرق إلى
العمل: تكدّر به صَفْوُه، وزال به الإخلاص؛ فلذلك قيل: من سلم له لحظة من
عمره خالصة لوجه الله نجا! !
قال أيوب: «تخليص النيات على العمال: أشد عليهم من جميع ... الأعمال» ! [1] .
الداعية والإخلاص:
من أحوج الناس إلى الإخلاص: الدعاة؛ لأن أعمالهم أخروية تفتقر إلى النية
والإخلاص في كل جزئياتها وإلا ضاعت سدى، ولأنهم أفقر الناس إلى ربهم
وأحوجهم إلى عونه وتوفيقه؛ لأن أعداءهم كثر، ولا ناصر لهم إلا الله، ولا ينجو
إلا المخلصون.
وفي ميادين الدعوة إلى الله لا يثبت إلا المخلصون، فلماذا؟ :
يثبتهم الله، ويعصمهم من الشيطان [إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] ... [الحجر: 40] ، وفي القراءة الأخرى [المخلٌصين] [2] .
يورثهم إخلاصهم صبراً؛ فيعينهم صبرهم على الثبات.
إذا ادلهمت الخطوب لجؤوا إلى الله، وإذا أقفرت السبل تذكروا جزاء الآخرة.
كلما فتروا شحذ إخلاصهم هممهم.
قد ارتاحوا من هموم الدنيا ونَصَبها، إذ تَوحّد همّهم.
يبارك الله في جهودهم المتواضعة فتثمر الكثير، فيزداد حماسهم.
يحافظون على نتائج دعوتهم، ويمضون قدماً.
وإذا تأملنا سير الدعاة على مر القرون وجدنا أن أعظم الناس اهتماماً بالدعوة: المخلصون، وهم الذين يثبتهم الله، ويرفع ذكرهم، ويحيي دعوتهم، ويبارك في
جهودهم، ويجعل العقبى لهم.
وسِيَر الأنبياء ومَنْ بعدهم شاهدة على ذلك، فالأنبياء أكمل الناس إخلاصاً،
وأكثر الناس اهتماماً بالدعوة، وأعظم الناس انتصاراً!
الداعية وهمّ الدعوة:
وكم نحن بحاجة إلى تأمل، وتدبر ما قصه الله علينا من قصص الدعاة
المخلصين: كمؤمن آل ياسين، الذي جاء من أقصى المدينة، وانتهى به المقام في
الجنة، ومؤمن آل فرعون الذي مَحَضَ قومه النصح، وأَبْدَأ وأعاد ناصحاً مذكراً،
وناصِح موسى (عليه السلام) الذي انتدب نفسه محذراً لموسى من كيد فرعون وقومه، بل والعجب من الجن الذين سمعوا القرآن فولوا إلى قومهم منذرين!
والأعجب من ذلك: الهدهد الذي بادر ساعياً في تصحيح العقائد وإزالة الشرك
حين رأى من يسجدون للشمس من دون الله.
أفيكون الجن والطير أكثر حرصاً منا على دعوة الناس لدين الله (تعالى) ،
ونحن الذين كلفنا الله بالدعوة، وحمّلَنا المسؤولية والأمانة التي أبت السموات
والأرض والجبال أن تحملها؟ .
إن الدعوة إلى الخير والإصلاح واجب الأمة، وأشرف مهمة ينتدب لها أهل
العلم والتعليم، ويتحملونها كما يتحملون سائر التكاليف الشرعية؛ فإن الله قد جعل
التواصي بالحق والتواصي بالصبر أعظم أسباب النجاة بعد الإيمان والعمل الصالح
وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً
للرحمة، وقدمه في الذكر على الصلاة والزكاة، فقال (عز وجل) : [وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
وجعل (تبارك وتعالى) خيرية هذه الأمة مرتبطة بتحقيق ذلك الواجب.
وقد كانت القضية واضحة غاية الوضوح عند سلف هذه الأمة، فقد كان
المسلمون الأوائل إذا أسلم الواحد منهم، وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-،
استأذن النبي أو أرسله هو إلى أهله وقومه داعياً لهم إلى دين الله (تعالى) ، فيسلم
بإسلامه ناس؛ كما فعل أبو ذر، وربما أسلم قومه كلهم؛ كما حصل للطفيل بن
عمرو الدوسي.. والأمثلة أكثر من أن تحصر، وما خبر إسلام خمسة من العشرة
المبشّرين على يد الصديق عنا ببعيد [3] .
زاد الداعية:
وأعظم زاد يحتاجه من سلك سبيل الدعوة إلى الله (تعالى) : الإخلاص،
والعلم الذي يحقق به المتابعة.
وفي هذا الباب تمس الحاجة إلى معرفة فضائل الإخلاص وأسراره، ومخاطر
الرياء وآثاره، وأسباب ضعف الإخلاص والوقوع في الرياء، وعلاج ذلك.
وهذه إشارات موجزة لا تكفي عن تفصيل ذلك وتأمّله كثيراً وتدبره طويلاً.
فضائل الإخلاص:
أما فضائل الإخلاص، فمنها: أنه تحقيق لما أمر الله به، وبه يصح العمل
ويتأهل للقبول.
وهو قوة يُعتصم بها من شياطين الجن والإنس، وبه حصول التوفيق والسداد، والنجاة والثبات والنصر، وخلود الذكر الحسن، وبقاء الثمرة. وبالإخلاص
تحصل الهمة العالية، التي تولد العزيمة الماضية، التي ينطلق صاحبها في العمل
الجاد والإنتاج المثمر، لا يلوي على شيء؛ لأن الإخلاص جمع قلبه على الله، فلا
همّ له إلا مرضاة ربه، فيستوي عنده مدح الناس وذمهم وحضورهم وغيابهم.
والإخلاص سلامة للقلب من الغل والحقد والحسد، والإخلاص يورث القوة
في الحق، والشجاعة والإقدام والصبر؛ لأنه يربط القلب بالله (تعالى) ، فلا يخاف
سواه، ولا يرجو إلا إياه، فيتمثل له كل الخلق كالأموات، لا يملكون من أمر
أنفسهم شيئاً.
ومن بركات الإخلاص: أنه يتضاعف به فضل العمل ويعظم أجره، كما أنه
يجعل فعل المباحات طاعات يثاب عليها؛ فتكون حياة العبد كلها لله، ومن فضائل
الإخلاص: أن أصحاب الأنبياء وجلساءهم الذين أمر الله الأنبياء أن يصبروا أنفسهم
معهم: هم المخلصون.
مخاطر الرياء وآثاره:
أما الرياء: فيكمن خطره في كونه أمراً خفيّاً سريعاً إلى القلب، قد يقع فيه
الإنسان من حيث لايشعر، وقد حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخافه
على أمته.
ومن مخاطره العظيمة: أنه سبب لحبوط العمل، وضياع الجهد، ويؤدي
بصاحبه إلى النار، فهو فضيحة في الدنيا والآخرة؛ قال: (من سمّع سمّع الله به، ومن راءى؛ راءى الله به) [4] .
ومن آثاره: الحرمان من الهداية والتوفيق، وحصول الضيق والاضطراب
النفسي، ونزع الهيبة من قلوب الناس، والإعراض من الناس وعدم تأثرهم، وعدم
إتقان العمل، والوقوع في غوائل الإعجاب بالنفس، والغرور، والتكبر، وحب
الثناء، والتشبع بما لم يعط.
ومن آثاره على الدعاة: محق بركة الأعمال، وضعف الثمرة أو انعدامها،
وطول الطريق، وكثرة التكاليف؛ فإن الله لا يمكِّن للمرائين، حتى يُمحِّص
الصفوف، ويميز الخبيث من الطيب.
أسباب ضعف الإخلاص:
من الأسباب التي توقع في الرياء وضعف الإخلاص: عدم المعرفة الحقيقية
بالله وعظمته واستحقاقه للعبادة والطاعة مع تجريد القصد وإخلاص النية، ومن
الأسباب: الرغبة في الصدارة والمنصب، ومنها: الطمع فيما في أيدي الناس،
والحرص على الدنيا، وحب المحمدة والثناء، والخوف من ذم الناس، والغفلة عن
عواقب الرياء.
علاج الرياء وضعف الإخلاص:
إن معرفة الأسباب لهي أكبر معين على التخلص من الرياء؛ وذلك بالتزام
وسائل المعالجة، التي منها: معرفة الله (عز وجل) حق المعرفة، واستشعار منته
وفضله وتوفيقه، والعلم بما يستحق من العبودية، وآدابها الظاهرة والباطنة،
وشروطها، وتعميق حب الله (تعالى) والتعلق بالآخرة في القلب، وتعميق مراقبة
الله (تعالى) ومحاسبة النفس، والتوقف عند نوايا الأعمال، ودفع ما يخطر من
موارد الشيطان ووساوسه في الحال، وترك المبالاة بالخلق، ومعرفة حقيقتهم،
ووضعهم في منزلتهم ومرتبتهم البشرية.
وتذكر عواقب الرياء الدنيوية والأخروية، وتصور حال المرائين ومصيرهم، والإكثار من قراءة وسماع النصوص المرغبة في الإخلاص الداعية إليه،
ومطالعة أخبار المخلصين وحكاياتهم: كل ذلك معين على الإخلاص.
ولا بد من اللجوء التام إلى الله والاستعانة به، فقد قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل) ، فقال له
من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-؟ قال: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه،
ونستغفرك لما لا نعلم) [5] .
علامات الإخلاص:
وبعد: فإن للإخلاص علامات تظهر على صاحبها، يعرفها كلّ في نفسه
وجوداً وعدماً، ومنها:
- الحماس للعمل لدين الله (تعالى) ، والحرص على الدعوة إليه بدافع ذاتي
وليس بمقتضى العمل الوظيفي فحسب.
- المبادرة الذاتية المنضبطة، والفاعلية، والإيجابية، وعدم انتظار التكليف من أحد بعد التكليف من خالق الأرض والسماء (تبارك وتعالى) .
- الصبر، والتحمل، واحتساب الأجر، وعدم التذمر والتشكي.
- الحرص على إخفاء الأعمال الصالحة مثل إخفاء السيئات، بل أشد.
- إحسان العمل وإتقانه في السر، أعظم من إتقانه في العلن.
- الإكثار من أعمال السر، فهي أبعد شيء عن الرياء.
علامات الرياء:
أضداد ما تقدم من العلامات هي مظاهر لضعف الإخلاص، وشَوْبِهِ بالرياء
عياذاً بالله، ومن ذلك: التخاذل والتكاسل عن أداء الواجبات، والحماس للتكليف
الوظيفي أكثر من التكليف الشرعي، وكثرة التشكي والتذمر من العقبات
والصعوبات، وتحسين العمل ظاهراً لا باطناً، والتشوّق لإظهار الأعمال.. رحماك
يارب، نسألك السلامة والعافية.
وأخيراً: فلا ينبغي أن يوقعنا الحديث عن الإخلاص في ترك العمل خوف
الرياء، فذلك مزلق شيطاني خطير، يسعى الشيطان ليوقع فيه الصالحين
والمصلحين؛ ليتركوا تبليغ الدعوة وعمل الخير، بل الواجب: العمل، مع
استمرار محاسبة النفس.. وعلى الله قصد السبيل.