دراسات تربوية
مقاصد التوبة دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(2 من 2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
استهلّ الكاتب الحلقة الماضية ببيان نوعي التوبة، وماهية كلٍّ منهما،
مع توضيح أهمية التوبة التي تجدد الإسلام (توبة الإحسان) ، ثم أخذ يتحدث عن
حوافز (دوافع) التوبة، فكان منها: عموم الأمر بها، والتفكر في حقيقة الزمن،
والنظر إلى الماضي، والنظر إلى المستقبل، ويواصل الكاتب عرضه لجوانب
أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:
لقد مضت سنة الله (تعالى) في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة
كثرة [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103] ، [وَإن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: 116] ، [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] [هود: 119] ، [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ: 13] ، [وَالْعَصْرِ (?) إنَّ الإنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ (?) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]
[العصر: 1-3] .
والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من
أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية، والتشبث بأسبابها، والحذر من
عوامل سلبها، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين
الصالحين، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون:
يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب، ويأخذ أحسن موقع في هذا
الصف، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب، وحتى يدرك من
المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.
وأي شيء يهدده في هذه النعمة، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار
المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.
هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى، ويزداد
ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة، ويضع هذا الاصطفاء في كفة، ويكون ذا
عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني، ولا يأنس إلا به، وكيف لا يأنس وقد وجد
الطريق ووجد الرفيق؟ ! .
الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق أنه فرض واجب، فهو
من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.
والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يوم أو ليلة، ولكنه
عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة، فقد جمع الله (عز وجل) الكمالات البشرية في
نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة
للناس، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع، قال الله
(تعالى) : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن
يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون، والمعصوم لغير المعصوم؟ ! .
وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعاً ومحدثات وذنوباً وآثاماً، فإنه يشعر
بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة، فيزداد اقتراباً من سيرة نبيه -صلى الله
عليه وسلم-، جاعلاً الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل
ما كان يفعله نبيه، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.
إن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وصيامه، وحجه، وذكره، وطهوره، ودعوته، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي
تمتد سائر العمر.
وإذا علم المسلم أن النبي نفسه وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات، آخرها عند فتح مكة لما قال الله
(تعالى) له: [إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (?) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجاً (?) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] [النصر: 1-3] .
ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره، وفي الحديث الذي رواه
مسلم يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس: توبوا إلى الله
واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة» .
الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق، كيفما كان
عصرهم، وكيفما كان بلدهم.
السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات
هذا الاتجاه في كل عصر، الأمثل فالأمثل، وفي حديث العرباض بن سارية
(رضي الله عنه) ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أوصيكم بتقوى الله....
فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين
الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن
كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [1] .
فذكر سنته، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته، فقد كانوا
(رضي الله عنهم) أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله، ثم
يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.
ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في
سيرة من سبقوه، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف
على نماذج رائعة في استغلال الوقت، واستثمار العمر، ومبادرة الأجل بالأعمال
الصالحة، وترتيب الأعمال حسب الأولوية، والموازنة بين العبوديات، والشمول
في فهم الدين، واليقين العظيم في الجزاء، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب، ثم
ينظر إلى نفسه، فيجدها بعيدة عن كل ذلك، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله
على منافستهم في مقاماتهم، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا
كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق
الإسلام محفوظة، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس
والشاعر والكاتب، كلّ في مجاله وموضوعه، وهذه مقتطفات من كتاب صيد
الخاطر للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، نوردها مثالا لهذه
السيرة النموذجية [*] يقول [2] : (تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين
انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم،
فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا
عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته
من معرفة العلم لا يقاوم، وما طالت طريق أدت إلى صديق كما يقال، وقد كنت
في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما
أرجو وأطلب) .
(كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث،
وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما
أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم، وأثمر عندي ذلك
من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة
والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء
الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله (عز وجل) ، ولولا
خطايا لا يخلو منها بشر ... لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه (عز وجل)
صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو
حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة) .
(وقد رباني (سبحانه) منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم، ومازال يوقعني على المهم فالمهم،
ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري ...
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف، وأسلم على يدي
أكثر من مئتين، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل ... ) .
هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف، وعلم نافع وعمل صالح، ومع
ذلك: كثيراً ما يؤنب نفسه، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلاماً جيداً، يقول رحمه الله
(تعالى) [3] :
(تفكرت في نفسي يوماً محققاً، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن
توزن ... ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف
للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما
يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة ...
أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة، إن
نُوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران
الرخم وسقوط الغراب على الجيف ... أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً
تحتها! ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين
الأحباب ... وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني بحق معرفتي ما
دفنوني ... والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح
الثاكلين للأبناء ...
واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى، واحرماني من مقامات
الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي، واخيبة
من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر
والله مني الشيطان وأنا الفطن) .
ثم يختم هذه المعاتبة بقوله: (اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة
صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار) .
فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة
صادقة، فما أحرى من هو دونه علماً وعملاً أن يسأل ذلك.
ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه
وأنكر أسلوب حياتهم، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء
النبغاء الموهوبون، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم، وكلما حل
بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى، وكلما دهمه كسل أو فتور:
تذكر أنه في حلبة سباق، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين،
ويزيده تشجيعاً: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق
بأخلاقهم.
إن الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث
توبة متجددة في حياة المسلم، ويصحح من أوضاعه باستمرار.
الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إن مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان
كائن تافه حقير، بل هو لا شيء، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من
أمثاله.
ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً،
فقرب بهما البعيد، وبلي بهما الجديد، وتحقق بهما الموعود، ولا زالا يسيران في
الباقين سيرتهما في السابقين، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف
الفقير لهلاك الأبد إذا أصر على الكفر أو المعصية، وأنفق أيام عمره فيما يغضب
الله ويسخطه عليه؟ .
أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شارداً عنه، والله
(سبحانه) يفرح بتوبته إذا تاب كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك
الهلاك جوعاً وعطشاً، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟ .
كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون
الله، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب، أو ما
عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية،
أو الميلاد والممات، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن
قريب يزول، قال (تعالى) : [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (?) الَّذِي جَمََعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (?)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (?) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ] [الهمزة: 1 4] ، فمالُه لا يُخلده، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره، ويقدم على ربه
وحده.
تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص، واغتراره بالمكانة
والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة، ولكنه متى علم أنه بلا
إيمان كائن حقير، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به، بصفته
مخلوقاً كريماً على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.
الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون:
إن الإسلام ليس دين الإنسان فحسب، بل هو دين الكون كله، فالسماوات
والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة، وكل ما فيهما من كائنات علوية
وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة مهما كانت هينة تمثل شذوذاً عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع
لخالقه.
هذا الكون إبداع الخلاق العليم، والإنسان جزء منه، فالقوانين التي تحكم
فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله، والله الذي خلق هذا
الكون وخلق الإنسان، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيماً متناسقاً مع
طبيعته، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.
وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلباً عزيزاً؛ لكثرة
أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله (عز وجل) فتح باب التوبة، يدخله العبد كل وقت، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها، وفي بعض الآثار: أن
الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه، فيقال لها: لعله يتوب،
لعله يتوب.
إن الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون وهي رابطة العبودية لله هو الذي
يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام
الفطرة، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي
تعقب الخصام، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.
الإنسان المسرف على نفسه مثل النغمة النشاز التي تشذ عن أنشودة الكَوْن،
أو هي المتسابق الذي يسير في عكس اتجاه الكوكبة، أو هو المصلي الذي يصلي
في اتجاه مقابل للقبلة مخالفاً لباقي المصلين.
فلو تذكر الإنسان أنه ليس وحده في هذا الكون، ولو التفت يميناً وشمالاً،
ورفع بصره وخفضه، ورأى آيات الله في الآفاق والأنفس، لرأى مخلوقات مقبلة
على شأنها، قائمة بحق ربها، فيقبل مثلها على شأنه وينظر في أمر ربه فيلزمه،
عند ذلك يشعر بالأُنس، وتزول عنه الغربة التي يشعر بها غيره، فكيف إذا ترقى
من الشعور بالأُنْس مع المخلوقات إلى الأنس بالخالق، فيأنس إلى ربه عندما يشعر
أن الله (تعالى) معه، يشهده وينظر إليه، وأن الله (تعالى) معه، يحفظه ويرعاه،
وهذه هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة بإذن الله.
والآن: وبعد أن استعرضنا هذه الحوافز: لا بد أن نؤكد في الأخير أن تجديد
الإسلام في حياة المسلم مشروع كبير، وحتى ينجح أي مشروع لا بد أن يمر بثلاث
مراحل: الأولى: التفكير والتنظير، والثانية: التخطيط والبرمجة، والثالثة:
التنفيذ والمحاسبة.
فالتوبة التي تصحح سير المسلم إلى ربه مشروع ما بعد الهداية، فليضع له
المسلم ما يحتاج إليه من أهداف وبرامج، وهذا الشق العملي لا يُقَال، بل يمارس
ويطبق.
نسأل الله (تعالى) أن يرزقنا الإخلاص في القصد، ويلهمنا الصواب في العمل.