مجله البيان (صفحة 2312)

مقال

النصيحة أمن الفضيحة [*]

بقلم: سعيد بن جمهور الزهراني

كان يقال: ما ارتضي الغضبان، ولا استعطف السلطان، ولا سُلت السخايم، ولا دفعت المغارم، ولا توقي المحذور، ولا استميل المهجور: بمثل الهدية والبر، وقال ابن عبد البر: وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ... (تجاوزوا وتزاوروا وتهادوا؛ فإن الهدية تثبت المودة، وتسل السخيمة) ، وقال

الشاعر:

هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى ووداً ... وتلبسهم إذا حضروا جمالا

ولكن ماذا لو أهديت إلى أخٍ لك بعضاً من عيوبه وتقصيره في أمور دينه،

التي قد لا تظهر له ولا يراها ببصره أو بصيرته! ، فماذا تتوقع؟ ! أيقبل هذا منك، أم يرد ما أهديت إن كان ما أهديت حقّاً؟ ، قال عمر (رضي الله عنه) : «رحم

الله من أهدى إليّ عيوبي» .. ومما للمسلم على أخيه المسلم: أن يستر عورته،

ويغفر زلته، ويرحم عبرته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غِيبتَه، ويديم

نصيحته، ويقبل هديته، ويجيب دعوته، ويكافئ صلته، ويحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.. قال: «إن الدين النصيحة» ، قلنا: لمن يا رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين

وعامتهم» ، ومعنى الحديث: أن قوام الدين وعماده النصيحة، كقوله: «الحج

عرفة» وقال جرير (رضي الله عنه) : «بايعت رسول الله على السمع والطاعة

والنصح لكل مسلم» ، وقد أخبر القرآن الكريم أن بني إسرائيل استحقوا اللعنة

والحرمان والتشريد؛ لأنهم كانوا لا يتناصحون: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي

إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ لله (78)

كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ... ] [المائدة: 78، 79] .

وليس أدل على رقي الأمة واستقامة ضمائرها من تمسكها بخلق التناصح فيما

بينها؛ ينصح الأخ لأخيه، والجار لجاره، والأب لابنه، والأستاذ لتلميذه،

والموظف لرئيسه، والمسؤول لأمته ... فلا ترى حينئذ إلا حقّاً محترماً، وفضيلة

يعمل بها، وثقةً تربط بين الناس بعضهم مع بعض، فلا خيانة ولا غش ولا اتهام

ولا تجريح، فمن يهدي إليك بعضاً مما لاحظه عليك من قصور في أمر الدين فاقبل

منه، واعلم أنه يحبك، كما قيل: من أحبك نهاك.. نهاك عن التمادي في الباطل،

نهاك عن الوقوع في الرذيلة، نهاك عن كل ما قد يجرح دينك أو خلقك.. ومن

أبغضك أغراك، وقد قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [1] ،

وقيل: «النصيحة أمن الفضيحة» ! !

ومن لا يقبل نصح الناصح، فهو كالمريض، الذي يترك ما يصف له ... الطبيب، ويعمد لما يشتهيه فيهلك، قال الله (تعالى) حكاية عن نبيِّه صالح (عليه السلام) : [لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] [الأعراف: 79] .

قال بعض الحكماء: «اثنان ظالمان: رجل أهديت له النصيحة فاتخذها ذنباً، ورجل وسع له في مكان ضيق فجلس متربعاً» ، وقال أبو حاتم البستي: ... «النصيحة محاطة بالتهمة، وليست النصيحة إلا لمن قبلها، كما أن الدنيا ليست إلا لمن تركها، ولا الآخرة إلا لمن طلبها» .

وإنك لتقرأ في سيرة سلفنا الصالح من صحابة الرسول والتابعين والعلماء

والخلفاء، فتعجب مما تراه بينهم من صدق اللهجة، ووفاء الأخوة، والقيام بواجب

النصح، والترحيب بالنقد البريء والمواعظ الحسنة، مما تشعر معه أنك إزاء أمة

لم تخلد في التاريخ بسيف ولا ظلم ولا تدمير، وإنما خلدت بخلق قوي، ونفوس

كريمة، وعقول راجحة، وآداب متماسكة.

هذا عمر (رضي الله عنه) يقول: «أيها الناس: اسمعوا وأطيعوا» ، فيقوم

إليه رجل ليقول له: لا والله، لا نسمع ولا نطيع! .. فيسأله عمر عن ذلك،

فيجيب بأنهم: يشكّون فيما يلبس عمر من ثياب، ويطلبون لذلك حساباً عليه،

ويسألونه من أين لك هذا يا أمير المؤمنين، فلا يضيق عمر بطلب الرعية، ولكنه

يقدم له حسابه، حتى إذا اقتنع الناس بطهارة يد عمر، قال قائلهم: الآن سمعاً

وطاعة.

ليس منا من لا يخطئ ولا ينحرف عن سنن الحق، بل فينا من الغرائز

والطباع ما يميل بنا إلى الرشد والغي، والخير والشر.. وما أجمل قول الشاعر:

من ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

بل ما أروع قول الله (تبارك وتعالى) في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها، حين يقول حاكياً عن امرأة العزيز: [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ

إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] [يوسف: 53] ، وليس كل إنسان يعرف خطأه أو يهتدي إليه،

وبذلك كان من حق الأخ على أخيه، أن يبصره بعيبه وينصح له في أمره..

قال أبو حاتم البستي: «النصيحة تجب على الناس كافة، ولكنّ إبداءها لا

يجب إلا سرّاً؛ لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سرّاً فقد زانه،

فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه» . وعلامة

الناصح الذي أراد زينة المنصوح له: أن ينصحه سرّاً، وعلامة من أراد شينه:

أن ينصحه علانية، فليحذر العاقل نصحه الأعداء في السر والعلانية..

حقيقة النصيحة:

قال (عليه الصلاة والسلام) : «إن الدين النصيحة» ثلاثاً ... وهذا يشمل

الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا: عندما قال الصحابة (رضوان الله

عليهم) : لمن يا رسول الله؟ ، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين

وعامتهم» [2] .

فدينك أيها المسلم النصيحة، كأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، هي:

النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً مخلصاً في نصحه.

والنصيحة تجمع أمرين: الإخلاص والصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن

مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك وكان نصحه حقّاً، ولكنه لم يكن عن

إخلاص، لا يسمى ناصحاً، وكذلك: لو كان مخلصاً في قوله ولكنه لم يكن صادقاً: فإنه أيضاً لا يسمى ناصحاً، فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيي الإخلاص والصدق، ولهذا قال رسول كريم: [وَأَنصَحُ لَكُمْ] [الأعراف: 62] ، وقال آخر: ... ... [وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ] [الأعراف: 68] ، فلا بد أن يكون كل واحد منا ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟ ، وهل نصحت بحق؟ ، وهل قمت فعلاً بهذا الواجب؟ ، هذه أسئلة لا بد أن يتأملها المسلم مع نفسه، ومع إخوانه؛ لينظر ما موقعه من ذلك الحديث الشريف الذي هو من جوامع كلمه، ومثله أو قريبٌ منه قوله: «لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [3] ، ومقتضى هذا الحديث المحبة، والمحبة لا تتعارض مع النصح، بل تقتضيه ويقتضيها، أن أحب لأخي ما أحب لنفسي.. من هو أخي؟ ! أيّ أخٍ هذا المقصود؟ .. لا شك أنه هو المسلم، كما قال: «المسلم أخو المسلم» [4] ، وكما قال: «وكونوا عباد الله إخواناً» [5] ، فيجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، تحب لنفسك أن تفوز بالجنة، فيجب أن تحب لأخيك الفوز بالجنة، وتحب لنفسك أن تنجو من النار، فيجب أن تحب لأخيك أن ينجو من النار، وتحب أن تعطى من الخير، كذلك يجب أن تحب لأخيك المسلم.

مراتب النصيحة:

وحتى تؤدي النصيحة ثمرتها في نفس المنصوح يلزم أن يُلحظ في أهدافها

المراتب التالية:

أولاً: التثبت، فلا تبادر إلى تصديق كل ما يقال عن أخيك المسلم من جار أو

صديق، لا تصدق كل ما يُقال ولو سمعته من ألف فم، وإنه يجب عليك عدم إساءة

الظن بالآخرين، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ

بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] [الحجرات: 12] ، وقال: [وَإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ ... شَيْئاً] [النجم: 28] ... وإذا رأيت أمراً أو بلغك عن صديقك كلامٌ يحتمل وجهين، فاحمله محملاً حسناً، وأنزله منزلة الخير، فذلك ألصق بالأخوة، وأجدر بمكارم الأخلاق.

قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان

أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً ألأم من إخوانك! قال لها: مه! ولم ذلك؟

قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من

كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن

القيام بحقهم.. فانظر كيف تأول صنيع إخوانه.

ثانياً: أن تقدر طبائع الناس وغرائزهم، وأنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء، فلا

تطمعْ ألا تعثر على زلة أو هفوة أحد من إخوانك، ولكن احمل ذلك على الضعف

الإنساني الذي لا يكاد يخلو منه أحد، وعلى الغرائز التي لا ينجو من سلطانها إلا

الأقلون، وانظر أنت في نفسك، ألا تقع في مثل تلك الزلات؟ ، ولهذا قال الشافعي

(رحمه الله تعالى) : ما من أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه، ولا أحد يعصي

الله ولا يطيعه، فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل.

ثالثاً: ألا تحكم على الأمر الذي تريد إنكاره بالخطأ أو الانحراف من وجهة

نظرك فحسب، بل انظر إليه من وجهة نظر صاحبه أيضاً، فقد يكون مجتهداً فيما

اعتقد من رأي، متحرياً الخير فيما سلك من سبيل، فلا تسارع إلى الإنكار عليه،

ما دام من الممكن أن يكون له وجهة من الحق.

رابعاً: أن يكون النصح سرّاً لا أمام الناس، ولا على ملأ من الأشهاد؛ فإن

النفس الإنسانية لا تقبل أن يطلع أحدٌ على عيبها، وإنك إذا نصحت أخاك سرّاً كان

أرجى للقبول، وأدل على الإخلاص، وأبعد من الشبهة، ولقد كان من أدبه في

إنكار المنكر، أنه إذا بلغه عن جماعة ما ينكر فعله لم يذكر أسماءهم علناً، وإنما

كان يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا..» ، فيفهم من يعنيه الأمر أنه المراد بهذه

النصيحة.

قال رجل لعليّ (رضي الله عنه) أمام جمهور من الناس: يا أمير المؤمنين،

إنك أخطأت في كذا وكذا، وأنصحك بكذا وكذا، فقال له علي: «إذا نصحتني

فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليك ولا على نفسي، حين تنصحني علناً بين

الناس» .

فإذا استوت لك هذه الخطوات، ورأيت النصيحة واجبة، كان عليك أن

تؤديها برفقٍ وحكمة وأسلوب لا يُنَفِّر مَن تنصحه، ولا تبدو أنك متعالٍ عليه، معلم

له، وإلى هذه الآداب أرشدنا الله (تعالى) بقوله: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ

وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل: 125] ، ولقد قالوا في وصف الرسول (عليه أفضل

الصلاة والسلام: (إنه ما كان يواجه أحداً بشيء يكرهه) ؛ ذلك أن النصيحة إذا

خرجت عن الرفق واللين، كانت غلظة وقسوة تنفر القلوب ولا تفتحها، وتبعد

الناس عن الخير ولا تقربهم إليه.

فيعلم مما تقدم كما ذكر: أن النصيحة تشمل الدين كله: أصوله وفروعه،

حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق الخلق كلهم، أهل الحقوق

العامة والخاصة، فمن قام بالنصيحة على هذا الوجه فقد قام بالدين، ومن أخل

بشيء مما تقدم فقد ضيع من دينه بقدر ما ترك، فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق

ربه فضيعها، وعلى محارمه فتجرأ عليها؟ ، وأين النصيحة ممن قدم قول غير

الرسول على قوله، وآثر طاعة المخلوق على طاعة الله ورسوله؟ وأين النصيحة

من أهل الخيانات والغش في المعاملات؟ ، وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع

الفاحشة في الذين آمنوا، وممن يتبعون عورات المسلمين وعثراتهم؟ ، وأين

النصيحة من أهل المكر والخداع؟ ، وأين النصيحة فيمن يسعى في تفريق المسلمين

وإلقاء العدواة والبغضاء بينهم؟ ، وأين النصيحة ممن يتملقون عند اللقاء بالمدح

والثناء، ويقولون خلاف ذلك في الغيبة عند الأعداء وعند الأصدقاء؟ ، وأين

النصيحة ممن لا يحترم أعراض المسلمين ولا يرقب فيهم إلاّ ولا ذِمة؟ ، وأين

النصيحة من المتكبرين على الحق والمستكبرين على الخلق، المعجبين بأنفسهم،

المحتقرين لغيرهم؟ ، فهؤلاء كلهم عن النصيحة بمعزل، ومنزلهم فيها أبعد منزل،

وكل هؤلاء قد اختل إيمانهم، واستحقوا العقوبات المتنوعة، وحرموا من الخير

الذي رُتِّب على النصح، وحرموا من الأخلاق الفاضلة، وابتلوا بالأخلاق السافلة،

أولئك هم الخاسرون.

فطوبى للناصحين حقيقة، ما أعظم توفيقهم، وما أهدى طريقهم، لا تجد

الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه ونواهيه، وفي

دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي التخلق بالأخلاق

الجميلة والآداب المستحسنة، إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره، وإن اطلع على

عيبٍ كتمه وستره، إن عاملته وجدته ناصحاً صدوقاً، وإن صاحبته رأيته قائماً

بحقوق الصحبة على التمام، مأموناً في السر والعلانية.

وأخيراً: فهذا حديث النصيحة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى فقه آدابها

وشروطها، بعد أن استشرت العداوات، وكثرت الخصومات، وساءت التهم،

وأفرطت الأقلام والألسنة في النقد بحق وبغير حق، فهل لنا أن نطمع من النقاد أن

يقفوا عند حدود الحق فيما ينقدون؟ ، وهل لنا أن نرجو الناصحين أن يبتعدوا عن

مجال الشبهة فيما ينصحون بمنهج حكيم ومنطلق سليم؟ .

فاللهم ألهم حملة الأقلام، وكتاب الصحف، وخطباء المنابر.. أن يقولوا ما

يصلح الفساد، ويقوِّم الانحراف!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015