دراسات شرعية
الوسائل وأحكامها في الشريعة الإسلامية
(2 من 2)
بقلم: د.عبد الله التهامي
افتتح الكاتب مقاله السابق بالإشارة إلى أهمية موضوع الوسائل، ثم أخذ في
عرضه على هيئة مسائل، فتناول: معنى الوسائل، والفرق بينها وبين الذرائع،
وأقسامها من أكثر من زاوية، ثم تعرض لخصائصها.. ويواصل الكاتب عرضه
لمسائل أخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
المسألة الخامسة: الأدلة على مشروعية العمل بالوسائل:
المسلك الأول: النصوص من الكتاب والسنة:
1 - قوله (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ
عَمَلٌ صَالِحٌ] [التوبة: 120] ، قال العز بن عبد السلام: «وإنما أُثيبوا على
الظمأ والنصب وليس من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم، وعلى
الحقيقة: فالتأهب للجهاد بالسفر إليه وإعداد الكراع والسلاح والخيل وسيلة إلى
الجهاد، الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين.. وغير ذلك من مقاصد الجهاد،
فالمقصود ما شُرع الجهاد لأجله والجهاد وسيلة إليه.
وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة إلى مقاصده،
فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل» [1] .
وقال ابن سعدي: «فالذهاب والمشي إلى الصلاة، واتباع الجنائز.. وغير
ذلك من العبادات: داخل في العبادة، وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة، والجهاد
في سبيل الله من حين يخرج ويذهب من محله إلى أن يرجع إلى مقره وهو في
عبادة؛ لأنها وسائل للعبادة ومتممات لها، قال (تعالى) : [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ... ] » [2] .
2- قوله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] ، قال العز بن عبد السلام: «وهذا نهي عن التسبب إلى
المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح» [3] .
3 - قوله (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] [النحل: 90] ، قال العز بن عبد السلام: «وهذا
أمر بالمصالح وأسبابها ... ونهي عن المفاسد وأسبابها» [4] .
4 - قوله: (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ]
[يس: 12] ، قال ابن سعدي: «وفُسِّر قوله (تعالى) : [إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] أي: نَقْل خطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما
أن نقل الأقدام للعبادات تابع لها؛ فنقل الأقدام إلى المعاصي تابع لها، ومعصية ... أخرى» [5] .
5 - قوله: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له طريقاً إلى ... الجنة» [6] .
6 - قوله: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي
فريضة من فروض الله: كانت خطوتاه إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع ... درجة» [7] .
المسلك الثاني: القواعد الشرعية:
مما يدل على مشروعية العمل بالوسائل؛ ثلاث قواعد: قاعدة مقدمة الواجب، وقاعدة اعبتار المآل، ومكملات المقاصد. وإليك البيان:
أولاً: مقدمة الواجب، أو: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [8] .
معنى القاعدة: أن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب، وهو في مقدور المكلف [9] فهو واجب، وما يتوقف عليه الواجب ينقسم بعدة اعتبارات إلى ما يأتي:
أولاً: إلى ما كان واجباً بدليل شرعي، كالسعي إلى الجمعة في قوله (تعالى)
[فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الجمعة: 9] ، فالسعي دل على وجوبه دليلان: الآية
الكريمة، والقاعدة.
وإلى ما كان مباحاً لم يدل على وجوبه دليل شرعي، لكنه وجب تحقيقاً
للواجب؛ كالسفر إلى الحج بالنسبة للبعيد عن مكة، فهذا دل على وجوبه دليل واحد
فقط، وهو قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وكلا هذين القسمين من باب الوسائل، إلا أن القسم الأول وسيلته ثبتت
بالنص، والقسم الثاني لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بطريق الوسائل.
ثانياً: إلى ما يكون: قبل الواجب؛ كالسعي إلى الجمعة.
أو بعده؛ كإمساك جزء من الليل في الصوم.
أو مقارناً له؛ كاستقبال القبلة للصلاة.
وهكذا الوسائل: فإنها قد تسبق المقصد، وقد تقارنه، وقد تتأخر عنه، وهي
على كل الأحوال خادمة للمقصد، مؤدية إليه، مكملة له.
ثالثاً: إلى ما يكون: جزءاً من ماهية الواجب؛ كالسجود في الصلاة، فهذا
ركن لا وسيلة؛ إذ الوسيلة لا تكون ركناً.
وما يكون خارجاً من الماهية؛ كالطهارة للصلاة، فهذا شرط ووسيلة.
رابعاً: إلى ما يكون: سبباً شرعيّاً؛ كصيغة العتق في العتق الواجب للكفارة
أو سبباً عقليّاً؛ كالصعود إلى موضع عالٍ فيما إذا وجب إلقاء الشيء منه.
وإلى ما يكون: شرطاً شرعيّاً؛ كالطهارة للصلاة.
أو شرطاً عقليّاً؛ كترك أضداد المأمور به.
فهذه الأربعة وسائل مطلوبة.
خامساً: إلى ما يكون: فعلاً؛ كالطهارة للصلاة، فإنها وسيلة إليها.
وما يكون كفّاً وتركاً؛ كترك أكل المذكاة إذا اشتبهت بميتة [10] ، وهذه هي
قاعدة الاحتياط [11] ، وهي داخلة تحت أصل سد الذرائع.
سادساً: إلى ما يكون: واجباً وجوباً معيناً؛ كالإمساك الواجب امتثالاً لصيام
رمضان.
وما يكون واجباً وجوباً مخيراً فيه بين أشياء محصورة؛ كخصال الكفارة في
اليمين.
وما يكون واجباً وجوباً مطلقاً غير معين؛ كالعتق المطلق، فإنه يتم بعتق
مطلق رقبة.
وهكذا الوسائل: تارة تتعين، وتارة تكون كالواجب المخير، وتارة تكون
مطلقة.
ثانياً: اعتبار المآل [12] :
المراد باعتبار المآل: النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد؛ إذ
العمل قد يكون في الأصل مشروعاً، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو
يكون في الأصل ممنوعاً، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة [13] .
قال الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت
الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك: أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال
الصادرة من المكلفين بالإقدام، أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل» [14] .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة، وهو يدل على صحتها:
قاعدة سد الذرائع. إبطال الحيل.
النهي عن الغلو في العبادات والزيادة على الحد المشروع فيها؛ لكونه قد
يؤدي إلى السآمة والملل وترك العمل جملة [15] .
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه) ، كالخنزير، وآلات اللهو، وآنية
الذهب والفضة [16] .
قاعدة: (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه) كالربا، ومهر البغي، والرشوة [17] . ويقرب منها: (ما حرم فعله حرم طلبه) [18] .
قاعدة: (الحريم له حكم ما هو حريم له) ، كالفخذين حريم للعورة ... الكبرى [19] .
قاعدة: (للوسائل حكم المقاصد) [20] ، وبذلك يتبين أن قاعدة الوسائل
فرع عن قاعدة اعتبار المآل.
ثالثاً: مكملات المقاصد [21] :
المكمل هو ما من شأنه تحسين صورة أصله وتقوية جانبه؛ كالنافلة للفريضة.
ولما كانت مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة:
الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال: كانت هي الأصل، وكانت الحاجيات
والتحسينيات مكملات لهذا الأصل؛ فهي بهذا النظر خادمة للأصل، ومحسنة
لصورته؛ إما مقدمة له، أو مقارنة، أو لاحقة.
وعلى كل تقدير: فالمكملات تدور حول الأصل بالخدمة؛ حتى يتأدى الأصل
على أحسن حالاته.
وذلك: أن الصلاة مثلاً إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم، فإذا
استقبل المصلي القبلة أشعر بحضور التوجه، ثم يدخل في الصلاة بزيادة سورة
خدمة لفرض أُمِّ القرآن، ولو قدم قبل الصلاة نافلة كان ذلك تدريجاً للمصلي
واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضاً لكان خليقاً باستصحاب الحضور في
الفريضة.
فالمكملات دائرة حول حمى الضروري؛ خادمة له، ومقوية لجانبه، ولو
خلت الضروريات منها أو من أكثرها لوقع فيها خلل بوجه ما [22] ، والوسائل من
قبيل التكملة؛ إذ بها يتحقق المقصود ويكتمل.
المسألة السادسة: شروط اعتبار الوسائل:
هل يجوز التوسل بكل وسيلة؟ ، أو: ما هي الشروط الواجب توفرها في
وسيلةٍ ما حتى يمكن اعتبارها وسيلة شرعية؟ .
والجواب: أن الوسائل لكي تعتبر وسائل شرعية لا بد لها من ضوابط،
ولمعرفة هذه الضوابط لا بد من النظر في أمور أربعة على الترتيب:
1 - الوسيلة في ذاتها. 2 المقصد الذي تفضي إليه.
3 - درجة الإفضاء. 4 المآل.
1- النظر في الوسية ذاتها:
يشترط في الوسيلة أن تكون في ذاتها مشروعة: مطلوبة، أو مباحة، أو
مكروهة، بمعنى ألا تكون محرمة.
فإذا وجد في الوسيلة هذا الضابط نُظِر في الأمر التالي، وهو:
2- النظر في المقصد الذي تفضي إليه هذه الوسيلة:
يشترط في المقصد المتوسل إليه أن يكون حلالاً: واجباً، أو مندوباً، أو
مباحاً، أو مكروهاً.
أما الضابط الثاني فهو: أن يبقى هذا المقصد ولايسقط؛ إذ الغرض من
التوسل تحصيل المقصد، فإن سقط المقصد وزال: بطل بزواله التوسل، وبطلت
معه الوسيلة. وقد سبق التنبيه على هذا الضابط عند الكلام على خصائص الوسائل.
فإذا توفر في المقصد هذان الضابطان: نُظِر في الأمر التالي، وهو:
3- النظر في درجة الإفضاء:
يشترط في إعطاء الوسيلة حكم مقصدها أن تكون مفضية إليه، فإن تبين عدم
إفضاء الوسيلة إلى المقصد فإن الوسيلة يسقط اعتبارها [23] .
ويشترط أن يكون إفضاء الوسيلة إلى مقصدها مقطوعاً به، أو غالباً.
أما إن كان الإفضاء نادراً فلا عبرة به؛ إذ الأحكام الشرعية إنما تناط بالكثير
الغالب، لا بالبعيد النادر [24] ؛ ولذلك قيل: «لا عبرة بالظن البيّن خطؤه» [25]
فإذا كانت درجة الإفضاء كافية، فلا بد من النظر في الأمر التالي، وهو:
4- النظر في المآل:
وذلك ألا يترتب على التوسل بهذه الوسيلة إلى مقصدها مفسدة تزيد على
مصلحة هذا المقصد أو تماثلها؛ إذ الغرض من هذا التوسل تحصيل مصلحة
المقصد المتوسل إليه، وهذه المصلحة متى ترتب على تحصيلها مفسدة أعظم منها
أو مثلها كانت تحصيلاً للمفسدة أو من قبيل تحصيل الحاصل، وكلا الأمرين ... باطل [26] . ومعلوم أن سد الذرائع أصل معتبر، وأن أعظم الضررين يدفع ... بأقلهما [27] .
المسألة السابعة: أحكام الوسائل:
أولاً: أحكام الوسائل من جهة فضلها ومراتبها:
يختلف فضل الوسائل ودرجاتها بحسب أمور ثلاثة:
الأول: فضل المقصد ودرجته، فبحسبه توزن الوسيلة:
قال العز بن عبد السلام: (يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل
المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى [افضل] المقاصد أفضل من سائر الوسائل) [28] .
ومن الأمثلة على ذلك [29] :
أن التوسل إلى معرفة الله وذاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه.
وأن التوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته.
وأن التوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات
في الصلوات المكتوبات.
وأن التوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى
المندوبات التي شرعت فيها الجماعات؛ كالعيدين والكسوفين.
الثاني: درجة إفضاء الوسيلة إلى المقاصد:
فكلما كان إفضاء الوسيلة أكمل في تحقيق المقصد كانت الوسيلة أفضل.
قال العز بن عبد السلام: «وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان
أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها» [30] .
وقال ابن القيم: (فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها
بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها.
ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى
غايتها) [31] .
وقضية إفضاء الوسيلة إلى مقصدها قد تكون من الأمور النسبية؛ فقد تختلف
قوة الوسيلة من وقت لآخر، ومن مقام لآخر؛ فما يكون من الوسائل قويّاً في مقام
قد لا يكون كذلك في مقام آخر.
والمقصود على كلٍّ: الحرص على أكمل الوسائل، وأعلاها في تحقيق
المصلحة؛ بحيث تحصل كاملة، راسخة، عاجلة، ميسورة [32] .
ولذلك قيل: «الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها»
كصلاة الجماعة، ولو كانت خارج المسجد، فإنها أفضل من الصلاة فيه بلا ... جماعة [33] .
الثالث: نية المتوسل ومقصده:
ذلك أن الوسيلة غير مقصودة لذاتها، وهي تفتقر إلى النية لاعتبارها أو
إبطالها من جهة الشرع.
قال ابن القيم: «فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها: يصح
بصحتها، ويفسد بفسادها.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله:» إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى « [34] [35] .
وقد بُني على هذا الحديث العظيم قاعدة كبرى من قواعد الفقه، وهي: ... » الأمور بمقاصدها « [36] .
ويندرج تحت هذه القاعدة جميع العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر
العقود والأفعال [37] ، بل يسري حكم هذه القاعدة» إلى سائر المباحات؛ إذا قُصد
بها التقوِّي على العبادة أو التوصل إليها؛ كالأكل والنوم واكتساب المال وغير ذلك.
وكذلك النكاح والوطء؛ إذا قُصد به إقامة السنة والإعفاف أو تحصيل الولد
الصالح وتكثير الأمة « [38] .
وعلى المكلف إذا أراد صحة قصده شرعاً أن يتحرى قصد الشارع في كل
أعماله، وإن حصل له مع ذلك بعض أغراضه وشهواته؛ لأن هذه الشريعة
موضوعة لمصالح العباد [39] .
ثانياً: أحكام الوسائل من حيث التعيّن والتخيّر:
لا يخلو المقصد المتوسل إليه من حالتين:
الحالة الأولى: أن يتوقف تحصيله على وسيلة واحدة لا يتحقق إلا بها [40] . فالوسيلة في هذه الحالة متعينة الوجوب أو الاستحباب بحسب حكم المقصد.
الحالة الثانية: أن تتعدد الوسائل؛ فيمكن تحصيل المقصد بأكثر من ... وسيلة [41] .
ففي هذه الحالة لا تخلو تلك الوسائل المتعددة من أمرين:
1 - أن تكون متساوية في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف التخيّر منها.
2 - أن يكون بعضها أقوى من بعض في الإفضاء إلى المقصد؛ فعلى المكلف
التماس أقوى الوسائل وأكملها في تحقيق المقصد.
قال ابن عاشور:» وقد تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعة
في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه بحيث
يحصل كاملاً، راسخاً، عاجلاً، ميسوراً، فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا
التحصيل.
وهذا مجال متسع، ظهر فيه مصداق نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها
من الخطأ والتفريط ... فإذا قدّرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار
أحواله كلها: سوّتْ الشريعة في اعتبارها، وتخير المكلف في تحصيل بعضها دون
الآخر؛ إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها « [42] .
ثالثاً: أحكام العمل بالوسائل من جهة الحكم التكليفي:
الأصل في أحكام الوسائل أنها تابعة لأحكام مقاصدها التي تفضي إليها، ولهذا
قيل:» للوسائل أحكام المقاصد « [43] .
قال القرافي:» وحكمها [أي: الوسائل] كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو
تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها « [44] .
وقال ابن سعدي:» الوسائل لها أحكام المقاصد: فما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، وما لايتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات
تابعة لها، ووسيلة المباح مباح « [45] .
ومما مضى يتبين أن الوسيلة:
-قد تكون واجبة وجوباً متعيناً، وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن يتوقف تحصيل هذا المقصد على هذه الوسيلة بعينها.
-وقد تكون الوسيلة واجبة وجوباً مخيراً فيه بالتساوي؛ كخصال الكفارة،
وذلك بشرطين:
أ - أن يكون مقصدها واجباً.
ب - أن تتعدد وسائل هذا المقصد مع كونها متساوية في إفضائها إليه.
-وقد تكون الوسيلة مندوبة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مندوباً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
وربما تكون الوسيلة مندوبة أيضاً بشرطين: أن يكون مقصدها واجباً، وأن
تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد محتملة.
-وقد تكون الوسيلة مباحة، وذلك بشرطين:
أن يكون مقصدها مباحاً، وأن تكون درجة إفضاء الوسيلة إلى المقصد كافية.
-وأما إن كان المقصد محرماً: فالوسيلة والحالة كذلك تعد ذريعة محرمة،
يجب سدها.
وكذلك إذا كان المقصد مكروهاً: فالوسيلة في هذه الحالة تعد ذريعة، وحكمها
الكراهة.
المسألة الثامنة: الفرق بين الوسائل والبدع [46] :
الاشتباه بين البدع والوسائل حاصل من وجهين:
أنهما لايستندان إلى دليل شرعي خاص، لذا: فقد اعتبر بعض أهل العلم
الوسائل المرسلة كجمع المصحف، وكتابة العلم من البدع المستحسنة [47] .
كما أن كلاّ منهما من الأمور الحادثة التي لا عهد للسلف بها.
ويتضح الفرق بين الوسائل والبدع من وجهين:
أن الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل هي راجعة إلى حفظ مقصد من مقاصد
الشريعة، بخلاف البدع فإنها في الغالب مقصودة لذاتها؛ إذ هي عبادة شرعية بزعم
أصحابها.
إذا علم ما سبق؛ فإن الوسائل تكون ممنوعة إذا ناقضت شيئاً من مقاصد
الشريعة، أو خالفت أصلاً من أصولها، فهذا شرط مهم وأساس في اعتبارها والأخذ
بها؛ ذلك أن مستندها تحقيق مقصد الشارع، أما البدعة مع كونها مناقضة لمقاصد
الشريعة فإنها عند أهلها معتبرة على الإطلاق والدوام ولا تسقط بحال من الأحوال،
وذلك لما تقدم من كونها عند أهلها مقصودة بذاتها.
المسألة التاسعة: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية أم اجتهادية؟
لقد كثر الجدال وطال الكلام حول هذا السؤال، والناس في الجواب عنه
فريقان: كل فريق يقطع بصحة رأيه وخطأ مخالفه، وربما جُعل من هذه القضية
عند بعضهم معقد اجتماع وافتراق، وموطن ولاء وبراء.
ولعل السبب في ذلك أن كل فريق بنى موقفه من قضية وسائل الدعوة على
نظرته الخاصة إلى تطبيقات وأمثلة معينة؛ كالنشاط المسرحي المشتمل على بعض
القصائد المنشودة والمشاهد التمثيلية، وكالبرامج الإعلامية المعتمدة على تصوير
ذوات الأرواح، وكالمشاركة في المجالس الشعبية والانتخابات الجمهورية، فمن
ارتضى هذه الوسائل ورأى شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة اجتهادية، ومن أنكر
هذه الوسائل ورأى عدم شرعيتها: جزم بأن وسائل الدعوة توقيفية.
فانظر: كيف قُلبت الموازين عند هذين الفريقين، حينما أخضعوا القاعدة
الكلية أعني: كون وسائل الدعوة توقيفية أو كونها اجتهادية لبعض أمثلتها وتطبيقاتها، وكان المفترض: إخضاع هذه الأمثلة وإرجاعها إلى قاعدتها الكلية. وإليك بيان ذلك بمثال واحد:
من وسائل الدعوة ونشر الخير وتعليمه للناس: شريط الفيديو المشتمل على
الندوات والمحاضرات المصحوبة بالصورة الحية، فإذا أردنا معرفة حكم هذه
الوسيلة فلا بد أن نطبق على هذه الوسيلة شروط اعتبار الوسيلة الماضي بيانها؛
فننظر: هل هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة؟ إن قلنا بتحريم التصوير ومنعه
فالنتيجة: أن هذه الوسيلة محرمة لا يجوز التوسل بها، فلا حاجة لنا عند ذلك إلى
النظر في الشروط المتبقية، وإن قلنا بجواز التصوير وإباحته، فننظر في الشروط
المتبقية: هل المقصد المتوسل إليه مقصد شرعي صحيح؟ وهل هو باقٍ لم يسقط؟ وهل درجة الإفضاء كافية؟ وهل يترتب على هذا التوسل مفسدة مساوية
لمصلحته أو أعظم منها؟ .
وبعد ذلك وقبله: لا بد من النظر في مسألة حكم تصوير ذوات الأرواح: أهو
من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ فيبقى الخلاف حينئذ دائراً في نطاق المسائل
الاجتهادية، ولا ينكر على المخالف في هذه الحالة إلا بالحجة والدليل، دون تشنيع
ولا تفسيق، أو هي مسألة لا يسوغ فيها الاجتهاد ولا الخلاف؛ فيكون الخلاف
والحالة كذلك مرفوضاً، بل قد يرمى المخالف بالبدعة أو أزيد.
والمقصود: أن وسائل الدعوة لا يحكم عليها إلا بعد عرضها على الشروط
الشرعية؛ فمتى وجدت هذه الشروط جميعها في وسيلةٍ ما: حُكِم بصحة هذه
الوسيلة، ومتى تخلفت هذه الشروط أو بعضها: حُكم ببطلانها.
ومن جهة أخرى فإن في هذا السؤال أعني: وسائل الدعوة، هل هي توقيفية
أم اجتهادية؟ إجمالاً في ثلاث لفظات، والألفاظ المجملة ينبغي التحفظ في إطلاقها
دون بيان أو تقييد، وهذه اللفظات هي:
لفظة (وسائل الدعوة) من الألفاظ المجملة، التي تحتمل أكثر من معنى:
فإن أُريد بوسائل الدعوة: منهج الأنبياء الثابت في الدعوة إلى الله (تعالى) كضرورة
البدء بالعقيدة ونبذ الشرك بمختلف صوره.. فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
لا مجال فيها للاجتهاد؛ بل هي توقيفية.
وإن أريد بوسائل الدعوة: أساليب الدعوة إلى الله، وطرائق تبليغ الدين من
كتابة أومشافهة مباشرة أو غير مباشرة: فلا شك أن وسائل الدعوة بهذا المعنى
ليست توقيفية، بل هي خاضعة للاجتهاد والنظر حسبما يحقق المصلحة.
وكذلك: فإن لفظة» الاجتهاد «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة
اجتهادية «من الألفاظ المجملة؛ فإن الاجتهاد يحتمل معنيين: فإن أريد به الاجتهاد
غير المنضبط، وهو القول بالرأي المجرد واتباع الهوى: فلا شك أن وسائل
الدعوة ليست اجتهادية بهذا المعنى، وإن أريد بالاجتهاد إعمال الفكر، وإطالة النظر
في إطار الضوابط الشرعية: فيصح القول بأن وسائل الدعوة اجتهادية على هذا
المعنى.
وكذلك لفظة» التوقيف «الواردة في قول القائل:» وسائل الدعوة توقيفية «، فإنها من الألفاظ المجملة؛ لأنها تحتمل معنيين: فقد يراد بالتوقيف أولاً: مطلق الدليل الشرعي عامّاً كان أو خاصّاً، وعلى هذا المعنى يصح أن يقال: إن وسائل الدعوة من أساليب وطرائق توقيفية، بمعنى: أن هذه الوسائل لا بد أن تضبط بالضوابط الشرعية؛ لئلا تكون ميداناً لزيادات المبتدعين وتحريف الضالين المضلين.
وقد يراد بالتوقيف ثانياً: الدليل الشرعي المعين، بمعنى: أن الأدلة الشرعية
الكلية التي قد تدل على اعتبار مثل هذه الوسيلة لا تكفي وحدها دليلاً على صحة
هذه الوسيلة واعتبارها شرعاً، بل لا بد من دليل شرعي يدل دلالة خاصة على
اعتبار عين هذه الوسيلة وصحتها من جهة الشرع، ولكن الأخذ بهذا المعنى لا
يستقيم كما يشهد لذلك واقع الحال إلا بتحريم جميع وسائل الدعوة العصرية التي لم
توجد في عصر النبوة والصحابة، كإنشاء المدارس والمكتبات وما إلى ذلك من
الآلات والمخترعات الحديثة المنتشرة في عصرنا هذا؛ ذلك أن هذه الوسائل لم يدل
على اعتبارها دليل شرعي خاص.
وزيادة في الإيضاح نقول: إن أصحاب التوقيف الخاص، الذين يذهبون إلى
أن وسائل الدعوة توقيفية لا يحل لأحد أن يشرِّع فيها ما لم يأذن به الله وهو ما كان
عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اضطروا إلى التزام أمور ثلاثة
على الترتيب الآتي:
القول بمنع وتحريم كل ما يسمى وسيلة مما لم يشهد له دليل شرعي خاص.
اعتبار الأخذ بهذه الوسائل من قبيل الابتداع في الدين.
تسمية بعض الوسائل الدعوية الحديثة كالأشرطة ومكبرات الصوت التي دلت
على صحتها الأدلة الشرعية العامة دون الأدلة الخاصة باسم آخر، مثل: قالب أو
وعاء أو طريقة أداء وبلاغ أو آلات نقل.
وقد غاب عن هؤلاء أن هذه القوالب أو الأوعية التي تقوم بنقل الوسيلة
الشرعية كالشريط ومكبر الصوت يمكن أن تسمى بوسائل الوسائل، وقد عُلم أن
وسائل الوسائل وسائل، وهذه التسمية مشهورة مذكورة عند العلماء الذين لهم عناية
بقضية الوسائل.
المسألة العاشرة: هل الغاية تبرر الوسيلة؟
الجواب على هذا السؤال: إنما يتضح بعد معرفة أصل ونشأة القول بأن ... » الغاية تبرر الوسيلة «وهو مذهب الميكيافيليين، وهو مبني على نظرتهم المادية
للحياة.
وبالجملة: فلا بد من النظر أولاً في الغاية؛ فإن كانت غاية فاسدة ومقصداً
باطلاً: فلا يجوز التوسل إليها ألبتة؛ بل الواجب منع هذه الغاية، ومنع كل وسيلة
تؤدي إليها، وهذا ما يعرف بأصل سد الذرائع، أي منع ذرائع الفساد ووسائله.
ثم: إن كانت هذه الغاية مقصداً شرعيّاً صحيحاً فلا بد من النظر ثانياً في
الوسيلة؛ لأن الوسيلة: إما أن تكون مطلوبة شرعاً، أو ممنوعة شرعاً، أو وسيلة
مرسلة.
فإن كانت الوسيلة مطلوبة: فالواجب في هذه الوسيلة تحصيلها والالتزام
بحكمهما الشرعي، ما لم يترتب على الأخذ بهذه الوسيلة مفسدة أعظم؛ كإنكار
المنكر إذا ترتب عليه مفسدة تربو على ذات المنكر، فالغاية ها هنا لا تبرر الوسيلة، على الرغم من كون هذه الغاية غاية شرعية نبيلة، وكون الوسيلة أيضاً وسيلة
مطلوبة.
أما إن كانت الوسيلة ممنوعة شرعاً: فالواجب في هذه الوسيلة منعها
وإبطالها، إلا إن ترتب على الأخذ بهذه الوسيلة الممنوعة دفع مفسدة أعظم؛
كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فالغاية ها هنا وهي غاية شرعية نبيلة تبرر
الوسيلة، على الرغم من كون هذه الوسيلة في ذاتها ممنوعة، وإنما كان ذلك دفعاً
لأعظم المفسدتين بأدناهما.
أما إن كانت الوسيلة مرسلة: فالواجب النظر في ضوابطها على النحو الذي
سبق بيانه في شروط اعتبار الوسائل.
نسأل الله (عز وجل) أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.