الافتتاحية
لكم دينكم ولي دين
دعوة إلى الثبات على المبادئ الصحيحة
التحرير
من الظواهر الاجتماعية الجديرة بالدراسة التي ذكرها العلامة ابن خلدون في
مقدمته: «ميل المغلوب إلى تقليد الغالب والنظر إليه بضعف وانكسار» ، هذه
الظاهرة أخذت بعدها الواضح في حالة الاستلاب الفكري والاجتماعي والسياسي،
والانبهار بحضارة الغرب الذي تمرّ به الأمّة الإسلامية منذ أواخر الدولة العثمانية.
وليس غريباً أن يقع في هذا العجز والدونية عامة الناس من الجهلة والسذج،
خاصة مع سياسة التغريب والعلمنة التي تشهدها المنطقة الإسلامية بعامة، ولكن
الغريب جدّاً أن تقع مثل هذه الدونية عند بعض الإسلاميين والدعاة سواء أكان ذلك
على مستوى الأفراد، أو حتى على مستوى التجمعات الدعوية (! !) .
لقد ظهرت في العقد التاسع من هذا القرن الهجري شعارات فكرية عديدة،
مثل: (اشتراكية الإسلام.. اليسار الإسلامي.. ديمقراطية الإسلام.. ونحوها) ، ثم
أخذت هذه الظاهرة تزداد في السنوات الأخيرة، وتأخذ أبعاداً جديدة جعلت بعض
الإسلاميين يستصغر نفسه، ويفكر بروح منهزمة وضيعة، ويكون همه الأكبر هو
إرضاء الدوائر الإعلامية والأجنبية، وتراه يتكيف ويتشكل بناءً على المعطيات
الفكرية والسياسية التي تضغط عليه، فيدخل في دوّامة من الانحرافات المنهجية
التي تؤدي به إلى سلسلة من التنازلات عن بعض الأصول والأحكام الشرعية،
حتى لا يوصم بالتشدد والتطرف والأصولية! ويعلل ذلك بفنون من التأويلات
الباردة الهزيلة، ويبدو ذلك في أقرب مظاهره على مستوى تبعية الأفراد خاصة في
الهدي الظاهر للرجل أو المرأة، كما يبدو ذلك على المستوى العام في التجمعات
الدعوية في علامات كثيرة تضعف حيناً وتقوى أحياناً أخرى، ومن ذلك مثلاً:
تهرب بعضهم من مبدأ الجهاد في سبيل الله (وليس تحفظهم على بعض صور
ممارساته) ، وتمييع عقيدة الولاء والبراء، والتهرب من إظهار تكفير اليهود
والنصارى، وإنكار الحدود الشرعية، والدعوة إلى التقارب بين الأديان، وعقد
التحالفات المهينة مع الأحزاب العلمانية واليسارية.. ونحو ذلك، وتزداد هذه
الظاهرة بخاصة مع سياسة الضغط والديكتاتورية التي تمارسها بعض الأنظمة
العلمانية أو الاستعمارية، وكلما ضعف إيمان المرء بالعقيدة التي يحملها، هان عليه
أن يتنازل عن بعض أصولها، ويخضعها للجدل والمساومة..!
لقد كانت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- واضحة جلية منذ أيامها الأولى، فحينما رأى المشركون قوة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتفاف الناس
حوله: أرادوا أن يجروه إلى التفاوض على المبدأ وسياسة الترقيع والقبول بالحلول
الوسط والمنافع المشتركة، أنزل الله (تعالى) قوله: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (?) لا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (?) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (?) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 1 - 6] ؛ ولهذا فمن مبادئ
الدخول في دين الإسلام: الكفر بالطاغوت، قال الله (تعالى) : [فَمَن يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا] [البقرة: 256] . ويتربى الصحابة (رضي الله عنهم) على هذه الحقيقة أعزة شامخين بإيمانهم، فها
هم هؤلاء يخرجون من غزوة أحد وقد أثقلتهم الجراح، وفقدوا جمعاً كريماً من أجلّة
الصحابة، ومع ذلك يتنزل عليهم قول الله (تعالى) : [وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] [ال عمران: 139] .
صحيح أنّ ذلك قد يجرّ مزيداً من التسلط والتضييق والملاحقة لأولياء الله
الصالحين، ولكن هذه هي طبيعة هذا الدين، فما من نبي من الأنبياء (عليهم أفضل
الصلاة والسلام) إلا وقد تسلط عليه قومه بالسخرية والإيذاء، بل بالضرب ... والقتل أحياناً، قال الله (تعالى) : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِّنَ المُجْرِمِينَ] ... ... [الفرقان: 31] ، ولما سمع ورقة بن نوفل (رضي الله عنه) ما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، قال له: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أومخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي [1] ، وقال قيصر الروم في حواره مع أبي سفيان بن حرب: «سألتك كيف قتالكم إياه، فزعمت أنّ الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» [2] .
نذكر بهذا الأصل العظيم بعد التحالفات السياسية في تركيا، التي أدت إلى
تسلم حزب الرفاه الإسلامي سدة الحكم بالتحالف مع حزب الطريق القويم! ونحن
نقدر الجهود الكبيرة التي بذلها (الرفاه) ، وأسعدتنا جدّاً الانتصارات المتتالية له،
ورأينا كم جنّ جنون الغرب حينما استطاع الإسلاميون التقدم على جميع الأحزاب
العلمانية، بعد أن كانوا يتوهمون أنهم دفنوا الراية الإسلامية في تركيا تحت أنقاض
الدولة العثمانية، على يد حليفهم الوفيّ كمال أتاتورك، ورأينا كذلك اللعبة القذرة
التي مارستها الأحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها في تركيا، لتحول دون تفرد
حزب الرفاه بقيادة البلاد! !
ومع تفهمنا للظروف والضغوط التي أدت بحزب الرفاه إلى هذا التحالف إلا
أننا كنا نتمنى أن يصل إلى قيادة الحكومة التركية، لكن دون الدخول في تحالفات
غير واضحة المعالم مع أحزاب مشبوهة منقطعة الصلة بجذور الأمة وفكرها،
وذات تاريخ مخز، جرّت البلاد جرّاً للارتماء في أحضان الغرب.. ولا زلنا نتألم
من هذه الخطوة، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعل العواقب سليمة.
إننا نثق بنباهة وحنكة قيادة حزب الرفاه وتمرسها السياسي وخبرتها العريقة،
وهم من أقدر الناس على معرفة الواقع السياسي للأحزاب المتصارعة في الميدان..
ولكننا نؤكد على ضرورة التميز الإسلامي، وعدم الرضوخ للمساومات الفكرية
والسياسية، فأصالة هذا الدين تظهر بأصالة حَمَلته ودعاته.
نعم، قد يؤدي ذلك إلى تأخر وصول الحزب الإسلامي إلى قيادة البلاد، وقد
يؤدي إلى تدخل الجيش، أو إلى حصار غربي يضرب على البلاد كلها.. ولكن
هذه سنة طبعية للتغيير الإسلامي المنشود.
إنّ ثمة انحرافاً منهجيّاً عند بعض الإسلاميين في سياسة التعامل مع المتغيرات
الفكرية والسياسية التي تشهدها الأمة الإسلامية، وبمراجعة شاملة لمناهج التغيير في
أوساط الصحوة الإسلامية يتبين حجم الضعف والهزال الذي نعاني منه، فلماذا
نخجل من إسلامنا؟ !
لماذا لا نتحدث بشجاعة وثقة، وليفعل غيرنا ما يفعل، وليصفنا بما شاء،
فما لنا ولهم؟ ! ما دامت مواقفنا مضبوطة بالضوابط الشرعية، وروعيت فيها
مصالح الأمة [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: 42] .
إنّه عبء ثقيل وحمل كبير بلا شك ولا يقوى على حمله إلا الأقوياء في دين
الله، وحقّاً فإن الهزيمة النفسية هي أخطر ألوان الهزائم! !
اللهم أرنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
وصل اللهم على محمد وآله وسلم