دراسات أدبية
معالم على طريق الأدب الإسلامي
(1 من 3)
بقلم: طاهر العتباني
التنظير والنموذج:
عندما ظهرت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في العصر الحديث وقف منها
المثقفون العرب والمسلمون مواقف متعددة متباينة، فمنهم من احتفى بهذا المصطلح
الجديد احتفاءً جمّاً، وتحمس له غاية الحماس دون أن يكون مع ذلك الحماس رؤية
متكاملة تقوم على أسس واضحة وتتبنى تصوراً شاملاً لهذا المصطلح، ومنهم من
رفضه بدعوى أن الأدب العربي كله منذ البعثة النبوية إلى اليوم أدب إسلامي،
يُنتجهُ في معظمه مسلمون، فلا داعي إذن لهذا التمييز.
ولكن طائفةً من شداة الأدب ونقاده نظرت لهذا المصطلح نظرةً موضوعيةً
هادئةً، تقوم على أسس واضحةٍ ومعايير مستقيمة.
أول هذه المعايير والأسس: أن المذاهب الفكرية المختلفة التي كثرت في القرنين الأخيرين في أوروبا قد اصطنعت لنفسها مذاهب أدبيةً، تتفرع عن المذاهب الفكرية التي تدعو إليها وتتبناها، فكانت: الكلاسيكية، والكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والواقعية، والرمزية، والسيريالية، والبرناسية، والوجودية ... وغيرها: مسمياتٍ لمدارس وتيارات فكرية أدبية، هي في حقيقتها الثوب الأدبي لتيارات ومذاهب فكرية: كالفكر الذي ساد عصر النهضة، والفكر الرومانسي، والفكر الاشتراكي والماركسي ... وغيرها من الأفكار.
لقد حاول كل من هذه المذاهب أن يضع تصوراً للكون والحياة والإنسان، هو
بمثابة القاعدة، ثم تتفرع عنه عن ذلك التصور نظرية في السياسة، وأخرى في
الاقتصاد، وثالثة في الاجتماع.. إلى غير ذلك من جوانب الحياة المختلفة، ومن
ذلك: الأدب وفنونه.
والمثال على ذلك واضح: حيث كانت الرومانسية مثلاً ترى في الطبيعة الإله
المعبود! ، وكذلك كانت الشيوعية والاشتراكية وما تفرع عنها من الأدب الذي
تسمّى باسم الأدب الواقعي، وما قبلها من التيارات والمذاهب تتخذ لنفسها آلهةً
مختلفة، حتى وصل الأمر في نهاية المطاف بالفكر الشيوعي أنه لا يعترف بأيٍّ من
الآلهة السابقة، ولكنه يرى أن الحياة لايحكمها إلا قانون المادة الصماء، بحتميته
السياسية، والاقتصادية، والتاريخية، والاجتماعية.. وغيرها من الحتميات.
لقد رأى ذلك الفريق الثالث أنه مادام كل مذهبٍ فكري الذي هو عند معتنقه
بمثابة دين وعقيدة ينتج أدباً ينسجم مع مبادئه، ويدعو إليها، ويكوّن لنفسه معايير
وقيماً فنية وجمالية خاصة، فلا ضير إذن بل هو واجب أن يكون للمنهج الإسلامي
أدبه المتميز الذي يحمل رسالته ويدعو إلى قيمه ومفاهيمه، ويتعامل مع الكون
والحياة والإنسان بناءً على التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان.
ثاني هذه المعايير: أن الإسلام بوصفه رسالة شاملة للحياة البشرية والأدب أحد جوانب هذه الحياة لم يهمل هذه الناحية المهمة في حياة الإنسان، وهي الناحية التعبيرية عن المشاعر والعواطف والآراء والأفكار التي يحملها المسلم ويدعو إليها، ولكن الإسلام وضع المعايير والضوابط والأسس لهذا الجانب في حياة الإنسان المسلم، وجعلهُ وهو يَشْعرُ، ويُعبِّر، ويكتب لا يخرج عن كونه مسلماً يتعبد إلى الله (تعالى) بفكره ومشاعره وتعبيره، ولا عجب؛ فهذا حسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهو الشاعر في الجاهلية والإسلام يضفي الإسلام على شعره موضوعاته وصوره، وتعبيراته، والقضايا التي يدافع عنها يضفي عليها سمتاً إسلاميّاً واضحاً، ليقدّم بذلك مع غيره من شعراء العهد النبوي نموذجاً للأدب الإسلامي في ذلك العصر.
ثالث هذه المعايير: أن المنهج الإسلامي يبدأ التغيير من النفس الإنسانية
بتثقيفها وتربيتها على قيمه ومبادئه، ويصوغ من هذه النفس عالماً ترسّخَتْ فيه هذه
القيم، وتغلغلتْ في حواشيه وخفاياه؛ فلا بد إذن أن يأتي تعبيرها عن الكون والحياة
والإنسان تعبيراً إسلاميّاً، سواء أكان ذلك: شعراً، أو قصةً، أو مسرحية، أو
خاطرة، أو مقالة.
رابع هذه المعايير: أن المدارس الأدبية المختلفة بدءاً بالكلاسيكية والرومانسية، وانتهاءً بغيرها من المدارس الأدبية قد غرست في تربتنا الأدبية مبادئ وقيماً فكرية وربما فنية لا تتفق مع منهجنا الإسلامي الذي هو معيار الحياة في كل جانب من جوانبها أو هكذا ينبغي أن يكون؛ مما أفسد أذواقنا، وأحدث في شخصيتنا الإسلامية والأدبية نوعاً من التناقض، أصبح من المحتم معه أن نعود إلى منهجنا الإسلامي الشامل، نستمد منه تصورنا لأدبنا الذي يجب أن يكون هو وغيره من جوانب الحياة إسلاميّاً خالصاً، هذا فضلاً عمّا ران على أدبنا شعراً ونثراً عبر تاريخنا الطويل من ركامٍ هائل من الأفكار والمعاني والمشاعر والقيم التي بعدت كثيراً عن التصور الإسلامي النقي للكون والحياة والإنسان، فأصبح يلزمنا أن نعيد النظر في ذلك الأدب عبر تاريخه الطويل بناءً على تصورنا للأدب الإسلامي ونظريته الأصيلة.
خامس هذه المعايير: أن الصحوة الإسلامية التي تشهدها ديار الإسلام اليوم، بل وغير دياره، لا بد لها من الوقود الروحي والتعبيري والأدبي الذي يغذوها
ويمدها بالطاقة التي تدفعها، ويجلو أمامها المفاهيم الإسلامية في ثوبٍ قشيب وعبارة
رائقة، وتعبير موحٍ جميل، وليس أفضل في ذلك من تبني نظرية إسلامية للأدب،
تأخذ على عاتقها تشكيل هذه البراعم التي نبتت في أرض الإسلام، والتي تود لو
عادت الأمة إلى سابق عهدها قيماً وأخلاقاً وتصوراً وقيادةً للحياة.
سادس هذه المعايير: أن الأدب الإسلامي هو أحد العوامل المهمة في تجلية مفاهيم الإسلام وتوضحيها في عالم يمتلئ بالتيارات والمذاهب التي أصبحت تتترس خلف العبارة الموحية والتعبير الفني الجميل في بث أفكارها وتوصيل مفاهيمها وتنشئة الأجيال على ذلك.
وحتى لا يقع الكثير من أبناء الأمة وهو ما حدث بالفعل تحت تأثير الفكر
الغازي في ثوب الأدب شعراً، وروايةً، وقصةً، ومسرحيةً، ودراسةً.. وغير
ذلك من ألوان التعبير وفنونه، فإنه لا بد من وجود أدبٍ إسلامي يكون بديلاً عن
ذلك كله، وفي الوقت نفسه: بناءً لجانب مهم من جوانب حياتنا الإسلامية التي لا
نستغني فيها عن البيان والتبيين.
سابع هذه المعايير: أن للشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية آداباً، سواء أكان ذلك شعراً أو نثراً، وهذه الآداب تتسم في كثير منها بسمات إسلامية خالصة وتعالج الموضوعات التي تطرحها من خلال التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وهنا لا يصبح الأدب العربي على فرض موافقته كله للتصور الإسلامي، وهو فرض غير صحيح هو الأدب الوحيد الذي يتسم بسمة الإسلامية، بل لا بد من النظر بعين الاعتبار إلى هذه الآداب، وأقرب مثال على ذلك: شعر (إقبال) المكتوب بغير العربية [*] .
كل هذه المعايير وغيرها كانت وراء تمسك أولئك النفر بهذا المصطلح الجديد
والعمل على ترسيخ مفاهيمه في عالمنا الأدبي اليوم.
ومن ثم: ظهرت الدراسات المتعددة وإن كانت قليلةً قياساً إلى غيرها من
الدراسات الأدبية البعيدة عن هذا المصطلح وظهرت كذلك النماذج الأدبية التي تتبنى
نظرةً إسلامية للأدب: شعراً، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية.. بغض النظر
عن مدى تحقيقها لما قد تبنته.
ومع اتساع قاعدة الأدب الإسلامي اليوم، وظهور جماعات أدبية تتبناه
ومجلات وصحف متخصصة تهتم بنشر نصوصه ونماذجه والحديث حول قضاياه
وأطاريحه وإن كانت قليلة جدّاً مع ذلك: فلا يزال الأدب الإسلامي المنتج على
الساحة اليوم قليلاً، خصوصاً إذا تصورنا أن الأدب الذي ينتج على أيدي كتاب
ومفكرين مسلمين يجب أن يعبر عن هويتهم وانتمائهم والتزامهم بهذا الدين.
كذلك: فلا يزال التعريف بقضاياه ورواده ونماذجه ونصوصه قليلاً.
وإذا كان هناك قصور لا يزال ظاهراً في تكوين نظرية إسلامية للأدب إلا من
بعض المحاولات الفردية فإن ذلك مرده فيما أتصور يرجع إلى أن التنظير يجب أن
يبدأ من الوقوف أمام النماذج الأدبية الإسلامية الجيدة، واستنطاقها، والبحث في
خصائصها وسماتها، بدلاً من البحث النظري الذي يقوم على الفرضيات المسبقة
دون مواجهة النصوص والكشف عن عطاءاتها الخصبة، وهذا بالطبع لا يعني
التقليل من أهمية البحوث النظرية التي تؤصل وتؤطر للأدب الإسلامي، وتستنبط
مراميه وغاياته من خلال البحث في أصول المنهج الإسلامي.
كما أن جزءاً من القصور ربّما يكون مرده إلى أننا لا نريد أن نعترف للنموذج
الأدبي الجيد، الذي لا يتناقض مع مفاهيم الإسلام بأنه يمكن أن يقدم ما يُنتفع به في
صياغة نظرية إسلامية للأدب.
إن كثيراً ممن ينظّرون للأدب الإسلامي فيما هو ملاحظ لا تمتد أيديهم إلى
نصوص ونماذج قد تكون جيدة جدّاً وتضيف جديداً لكن أصحابها لايرفعون لافتة
الأدب الإسلامي واضحةً صريحة، في حين أن نصوصهم أو كثيراً منها تنسجم مع
التصور الإسلامي للأدب انسجاماً، ولا عجب في هذا الكلام، ونحن نعرف أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستنشد أصحابه من شعر أمية بن أبي الصلت،
الذي آمن شعره وكفر قلبه.
إذن: لكي نتمكن من صياغة نظرية أدبية إسلامية على مستوى المنهج
الإسلامي الذي ستعبر عنه النظرية، وعلى مستوى هذا العصر الذي نعيش فيه:
فلا بد أن يبدأ البحث من اكتشاف النموذج الذي يقدم ويضيف، أيّاً كان صاحبه،
ومن هنا: فنحن ملزمون أن نعيد قراءة تراثنا الأدبي والشعري والتعبيري من جديد؛ لكي نعيد اكتشاف النماذج، ومن ثم: استنطاقها لاستخلاص السمات والمعالم لهذا
الأدب، بل إن هذا يستدعي إعادة تجميع هذا التراث والتعرف على ما أهمل منه؛
حتى نستطيع إعادة النظر في نتائج كثير من البحوث والدراسات التي أظهرت أدبنا
العربي في ثوبٍ بعيد عن الإسلام وقيمه ومفاهيمه.
إن كثيراً من البحوث التي تعرضت للأدب الإسلامي قد وقفت موقفاً متطرفاً
من هذا الأدب، إما إلى الإفراط في وصفه بصفة الإسلامية في كل نواحيه وجوانبه، وإما التفريط فيه جملة بدعوى أن أقل القليل منه هو الذي يتوافق مع منهج الأدب
الإسلامي، وكلا الرأيين في نظري غير صحيح.
من هنا: يصبح التفاعل المبدع بين الاستنباطات النظرية والنماذج المنتجة أو
تلك التي أعيد اكتشافها وقراءتها هو الطريق الذي لا بد منه لترسيخ هذه النظرية في
حياتنا الأدبية والفكرية.
كما أن هذه النظرة لن تمنعنا من الاستفادة من كل نصٍّ أو نموذج يُعاد اكتشافه
وقراءته، سواءٌ أوافق الأدب الإسلامي في رؤيته أو خالفه، فما بين الاختلاف
والاتفاق، والتناظر والمحاورة، وقرع الرأي بالرأي والحجة بالحجة: يستبين
الحق، ويستنبط الرأي الصواب، وتكتسب النظرة الموضوعية العميقة.
كما أني أعتقد أن اكتشاف معالم الأدب الإسلامي لا بد معه من تمحيص
النصوص المناقضة للتصور الإسلامي وهذا ما فعله بعض الباحثين فعلاً؛ لأن
جزءاً من مهمتنا هو كشف عوار التصورات غير الإسلامية في الأدب: شعراً،
ورواية، ومسرحية، وقصةً، ودراسة، وكذلك تمييز الغث من السمين، خصوصاً
وأن تيار الحداثة المعاصر الذي انتقل إلينا على يد فئةٍ من أدباء العربية وشعرائها
انحرف بالمسار الأدبي العربي انحرافات وصلت إلى حد التشكيك في العقيدة،
والتجرؤ على أصولها، ومحاولة تدمير كل المفاهيم الإسلامية، حتى تلك التي تعد
بداهات في فكر المسلم وتصوره.
ولقد كانت المدارس الأدبية المختلفة التي تأثر بها الأدب العربي المعاصر
إحدى الجراثيم التي لم نلتفت إليها وهي تتشبث بتربتنا الأدبية والفكرية، ولم
نستطع التعامل مع معطياتها الفنية بمعزلٍ عن الفكر الذي حملته، فوصل بنا الحال
اليوم إلى ما وصل إليه من فوضى فكرية وأدبية، وانغماسٍ حتى الأذنين في وبال
التصورات والأفكار الوافدة المناقضة لعقيدتنا وتاريخنا وتراثنا وسَمْتنا الحضاريّ
المتميز.
إن على كل دارس للأدب الإسلامي، أو مهتم به، أو مبدعٍ يتبناه ويدعو إليه
ويرى فيه الخلاص مما ران على حياتنا الأدبية والثقافية بوجه، على أولئك جميعاً
أن يأخذوا على عاتقهم قراءة كل ما يقع تحت أيديهم من نصوص أدبية لأدباء
يتبنون النظرية الأدبية الإسلامية أو لا يتبنونها، يحدوهم في ذلك كله البحث عن
كل معلم يمكن أن يسهم في بناء نظرية إسلامية للأدب، ويحرس مسيرتهم تلك:
عمق التوغل في مصادر الإسلام ومعارفه وثقافته، والوقفات الطويلة المتأملة
المتأنية أمام نصوص القرآن والسنة، وكتابات قادة الإصلاح ومفكري الصحوة
وعلمائها ودعاتها الذين كان لهم دور في إبراز مفاهيم الإسلام الصحيحة وتصوره
الحق للكون والحياة والإنسان.
الشكل والمضمون:
ظلت قضية الشكل والمضمون في العمل الأدبي تثير جدلاً عبر تاريخ الأدب
الطويل، وانقسم الناس إزاءها مذاهب واتجاهاتٍ وآراءَ وتياراتٍ.
فما هي الرؤية التي يطرحها الأدب الإسلامي إزاء هذه الإشكالية القديمة
الجديدة؟
لقد كانت القصيدة العربية تتميز بسمات شكلية، سواء من ناحية الوزن
والقافية، أو من حيث الصورة النموذجية للقصيدة التي تشمل موضوعات متعددة
هكذا في أغلب النماذج المستحسنة، تبدأ بالوقوف على الأطلال، وبكاء الديار، أو
الرحلة في الصحراء، أو التغزل بالمحبوبة.. إلى غير ذلك من الموضوعات التي
ربما انتهت بمدحٍ أو اعتذار أو هجاءٍ أو فخرٍ.. أو غير ذلك من أغراض القصيدة
القديمة.
وأصبح من المتعارف عليه: أن (القصيدة النموذج) يحتشد فيها عدد من
الأغراض الشعرية: من مدح، وهجاء، وفخرٍ، ونسيب، ووصف.. وما سوى
ذلك من أغراض شعرنا العربي القديم.
وكان النموذج المنتج للقصيدة هو الذي حدد هذه السمات الشكلية، وهذه ...
الأغراض، ثم جاء التنظير النقدي لاحقاً للنصوص مستنبطاً منها، حتى ترسخت
نظريات في النقد العربي القديم بناءً على الجهود المتلاحقة للنقد الذي استنطق
النصوص، واعْتُبر في مرحلةٍ لاحقة من التاريخ الأدبي العربي أن كل خروج على
شكل القصيدة العربية، وعمود الشعر الذي رسخه النقد القديم خروج على الفن
وقواعده، حتى لقد وقف النقد العربي القديم موقف الرافض لتجديدات الشعراء كأبي
تمام وغيره، حتى استقرت تجديداتهم هي الأخرى في ذاكرة التاريخ الأدبي
والشعري، وأصبحت هي الأخرى بعد ذلك معالم وسمات وأسساً نظرية تطبق على
النصوص.
وعندما بدأت النهضة الحديثة في الأدب على يد البارودي، ومن بعده شوقي
في الشعر، عاد أولئك المجددون من الرواد إلى النموذج القديم فاحتذوا شكله
ونسجوا على منواله، سواء من حيث الأغراض، أو من حيث الأوزان والقوافي،
أو جزالة الألفاظ واللغة، وانتزاع الصور التعبيرية والأخيلة والمعاني من دواوين
الشعر العربي القديم، إلا في قليل من التجديد الذي فرضته طبيعة العصر
ومستجداته وقضاياه وظروفه الراهنة، حتى أنك لا تجد قصيدة لشوقي وربما
البارودي إلا وهي معارضة واحتذاء لقصيدة أخرى من شعر العرب القدامى، وهذه
المعارضات هي في حقيقتها نوع من الالتزام الشكلي للنموذج القديم.
ثم كان تيار الرومانسية والنقد العربي الذي بدأ يعيد النظر في هذه النصوص
الشعرية القديمة منها والحديثة بناءً على معطيات نظرية وفروض نقدية منقولة من
الأدب الغربي الحديث، ليكتشف كما يرى فقدان هذه النصوص إلى شروط الإبداع
الجيد وسماته شكلاً ومضموناً، كفقدانها للوحدة الموضوعية والنفسية.. وغير ذلك
من المعايير الجديدة.
وهكذا أصبح كل جيل أدبي يعيد النظر في النصوص التي أنتجها الجيل
السابق له، ويعاملها بمعاييره وفروضه ومعطياته، ليكتشف إن حقّاً وإن باطلاً أنها
نماذج لا تصلح للأدب المطلوب في اللحظة الراهنة.
إذن: كان لكل جيلٍ أدبي تصوره لقضية الشكل، وللمضمون كذلك، حاول
أفلح أم لم يفلح أن ينفذها فيما أنتجه من النصوص.
من كل ذلك تصبح قضية الشكل الأدبي في تصورنا قضية يعطي لها كل
عصر من روحه وسماته وخصائصه، وترتبط بروح ذلك العصر وإيقاعه
ومتغيراته، فهي في تصوّرنا لنظرية الأدب الإسلامي مسألة متطورة ليس يحكمها
تصور مبدئي محدد، خلافاً للمضمون الذي يجب أن يعبر عن تصور الأديب المسلم
للكون والحياة والإنسان في إطار عصره وبيئته وقضايا ذلك العصر وروحه.
لقد استوعب الأدب العربي المعاصر الذي لم يعرف عبر تاريخه الطويل غير
النظم والنثر الفني أجناساً أدبية جديدة؛ منها: الرواية، والقصة القصيرة،
والطويلة، والمسرحية الشعرية والنثرية على السواء، كما استوعب كثيراً من
التجديدات الشكلية في القصيدة التي حدث لها أكبر تطور في تاريخها الطويل من
ناحية الشكل الوزن والقافية، أو من ناحية رؤيتها لمفهوم الأغراض الذي ارتبط به
الشعر القديم، وهي ناحية فيها ملمح شكلي، كما أن فيها ملمحاً مضمونيّاً أيضاً.
ولكن الذي حدث هو أن من استوعبوا هذه التجديدات الشكلية في القصيدة التي
تخلت عن كثير من أثوابها القديمة واستبدلت بها ثياباً أخرى جديدة وقعوا في
المضامين نفسها التي حملتها هذه التجديدات في الشكل، فنشأت تيارات ومذاهب
أدبية في الأدب العربي المعاصر تتبنى الآراء والتصورات نفسها التي يحملها الأدب
الوافد، وتدعو إلى المفاهيم نفسها دون محاولةٍ منها أن تستفيد من تجديدات الشكل
وجماليات التعبير، بعيداً عن المضمون والمفاهيم والأفكار والآراء التي حملها
الأدب الذي تأثرت به.
ولعل هذا هو الذي حدا بكثيرين ممن تابعوا هذا التجديد إلى رفضه جملةً
وتفصيلاً، شكلاً ومضموناً، دون أن تكون هناك نظرة هادئة موضوعية تنظر إلى
الأمر من جميع جوانبه، فتنتقي ما يتناسب مع تصورنا وانتمائنا الإسلامي،
وترفض ما يأباه ذلك التصور وهذا الانتماء.
ونظرية الأدب الإسلامي وهي تسعى لتأصيل مفاهيمها ومعالمها لا بد أن تنظر
إلى الشكل نظرةً واسعةً، ولا تضيق بأي شكل أدبي مهما يكن، فليس في الإسلام
بوصفه منهجاً ما يمنع من التجديد في الشكل، بل إن المضمُون الجيد والجديد الذي
يتوافق مع تصورنا الإسلامي لا يحتاج إلى شيءٍ قدر احتياجه إلى تجديدات في
الشكل تستوعب ذلك الجديد في المضمون.
ومع اعترافنا المبدئي بأن بين الشكل والمضمُون خصوصاً في مراحل التجديد
الأولى ارتباطاً كبيراً، فيجب أن يكون الأديب المسلم على حذرٍ منه، وأن يكون ذا
سعة في فهمه لمنهجه وتصوره، وذا عمق ووعي هائل، يستطيع معه أن يتعامل
مع الجديد بأصوله الثابتة وعقله المفتوح في آنٍ واحد، فينتقي ويختار ما يمكن
إضافته دون وقوعٍ تحت سنابك الفكر الغربي الوافد، ودون انغلاقٍ يؤدي إلى
الجمود والتقوقع، ولا غرو: فباب الاجتهاد يظل مفتوحاً لمن يملك آلته ويقدر على
ذلك.
ومن هنا: فإن الأشكال الأدبية الجديدة التي أنتجتها آداب غير إسلامية، يجب
أن يقف أمامها الأدب الإسلامي محللاً ومشرحاً؛ لكي يستطيع الإفادة من كل ذلك،
بل إن سعة المنهج الإسلامي وصلاحيته لكل عصرٍ، وبالتالي: سعة نظريته الأدبية
والنقدية، كل ذلك يدعو إلى الاستفادة من كل جديد في الآداب الأخرى، بشرط
غرسه في تربتنا الأدبية الإسلامية بعد إضفاء طابعنا عليه، ولهذا: تظل هذه
التجديدات في الشكل موطناً من مواطن الاجتهاد الأدبي إن صح هذا التعبير.
إن من أدبائنا الإسلاميين اليوم من يقف موقفاً متشدداً من قصيدة (التفعيلة)
كتجديد شكلي أخذت به القصيدة المعاصرة، ويرى أنها تحللت من إطار البيت ذي
التفعيلات المحددة إلى السطر الشعري، لهثاً وراء الفكر والتصور الغربي،
وخروجاً على التراث واللغة وقواعد الفن، بل وعلى الدين، في حين أنه قد أنتجت
بالفعل قصائد إسلامية في هذا الشكل الجديد، تتميز بحساسيتها الشديدة وقدرتها على
الإضافة والتجديد، في الوقت الذي حملت فيه مضموناً إسلاميّاً صافياً رائقاً، لتؤكد
لمن يقفون ضد مصطلح (إسلامية الأدب) أن الأدب الإسلامي حقيقةٌ واقعةٌ، وأنه
معاصر في الوقت نفسه.
كذلك كان للنماذج الروائية والقصصية والمسرحية الإسلامية التي أنتجها أدباء
مسلمون، مثل: نجيب الكيلاني، وعلى أحمد باكثير دور بارز في ترسيخ استيعاب
الأدب الإسلامي لكل جديد في الشكل، يعين على إبراز مضامين الإسلام،
ومفاهيمه، ورؤاه، وتصوراته للقضايا المختلفة.