مجله البيان (صفحة 2296)

مقال

ظاهرة النسيان..

أسبابها وعلاجها

بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال

آيات: لله في الآفاق وفي الأنفس مبثوثة، ومن تلك الآيات: ما أودعه الله

(تبارك وتعالى) في ذاكرة الإنسان من قدرة فائقة على تخزين المعلومات والأحداث

وكل ما يمر بالإنسان، ثم استحضار ذلك أو بعضه في أوقات متباعدة، مما يبهر

عقل الإنسان، في إدراك كيفية حصول ذلك، [وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ]

[الذاريات: 21] .

وتلك الذاكرة نعمة من النعم يجب شكرها، وقد منّ الله على عباده بأن جعل

لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وإن الذي وهب هذه الذاكرة هو الذي

جعل في طبيعتها النسيان..، ولا شك أن الإنسان يعتمد على ذاكرته في أمور دينه: من طلب علم، وعبادة، ودعوة، وفي أمور دنياه وشؤونه الحياتية.

إلا أن الجانب الأبرز هنا هو طلب العلم النافع، فإنه على أهمية كتابته، إلا

أن الذاكرة تبقى أداة حفظ العلم واستذكاره الأساس، قال أبو موسى الأشعري

(رضي الله عنه) لتلاميذه: (احفظوا عنا كما حفظنا) [1] ، فلا غنى لطالب علم عن

رعاية ذاكرته وتحسين أدائها.

فما حقيقة هذا النسيان؟ وما أسبابه؟ وهل له علاج؟ .. هذا ما سأحاول إلقاء

الضوء عليه، والله المستعان.

ما النسيان:

النسيان: ضد الذكر والحفظ [2] ، ويعرفه بعض علماء النفس بأنه: (فقدان

طبيعي جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم لما اكتسبناه من ذكريات ومهارات ... حركية) [3] .

والمذموم من النسيان ما كان لعلوم عينية، وعن كسب من الإنسان، وقد

يكون ذلك بالتغافل والإعراض، وأما ما عذر فيه صاحبه: فهو ما لم يكن سببه ... منه [4] ، وقد وقع مثل ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وهذا النسيان هو المقصود من الحديث، دون النسيان المرضي الناتج عن صدمة دماغية أو انفعالية.

وينبغي أن نعلم أن النسيان قد يكون رحمة من الله (تعالى) ، فلولاه ما سلا

محزون عن موت حبيب، أو قريب، ولا كررت امرأة الحمل والولادة.

وبناءً على ما سبق: فإن ترك الحفظ تعللاً بخشية النسيان ضرب من خداع

النفس ووسوسة الشيطان.

مخاطر النسيان وآثاره:

النسيان سبب لضياع العلم، وضياع الجهد والوقت، وطالما حذر السلف

الصالح (رحمهم الله) من نسيان العلم وإهماله، فيندرس.

ولذا: كانوا يكثرون الوصية بمذاكرة العلم ومدارسته، قال علي (رضي الله

عنه) : (تزاوروا وتذاكروا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يُدرس) [5] ، وقال ابن

جماعة الكتاني: (لا بد لكل حافظ من أوقات يكرر فيها مواضيه ويراجعها، وإلا

كلفه النسيان شططاً) [6] .

وعليه: فإن من كمال العقل والحزم: الحرص على حفظ العلم، فحفظه

كحفظ الروح، وأول خطوة هي: معرفة الأسباب.

أسباب النسيان:

تتفاوت أسباب النسيان من شخص لآخر، وقد تتعدد الأسباب في الشخص

نفسه، ومن أسباب النسيان ما يلي:

1- ضعف التقوى:

تقوى الله (عز وجل) أعظم سبب لتحصيل العلم النافع، وضعفها يضيع العلم

ويفقده بهاءه ورونقه.

ومما يترتب على ضعف التقوى: الغفلة عن ذكر الله (تعالى) ، فيدرك نصيبه

من قوله (تعالى) : [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ]

[الزخرف: 36] ، ينسيه الطاعة، ويذكره المعصية، ومن ضعف التقوى: تضييع

أوامر الله وارتكاب المعاصي، وهو نسيان للنفس، كما أنه نسيان لله، ومن عقوبته: أن الله ينسيه مصالح نفسه، ويغفله عن منافعها وفوائدها.

2- كتمان العلم:

والنسيان هنا عقوبة عاجلة من جنس المعصية، بخلاف العقوبة الأخروية:

أن يلجم كاتم العلم بلجام من نار كما في الحديث.

3- إهمال حق الجسد أو التقصير فيه:

وذلك لأن الذاكرة متصلة بالجسد، تتأثر بصحته وسقمه، وقوته وضعفه.

ومن حق الجسد: تعاهد الصحة، والعناية بالتغذية السليمة، باتباع الهدي

النبوي فيها: كالأكل باعتدال، وترك الإكثار من الشبع.

ومن حقه أيضاً: الراحة الكافية، فإن كثرة الإجهاد أو السهر المضني مؤثر

على سلامة الذاكرة.

4- تشتت الذهن بكثرة الأشغال والعلائق:

إن مما يضعف أداء الذاكرة: توزيعها بشكل عشوائي بلا تنظيم ولاتركيز،

وإشغالها بكثير من التوافه، وما تقل أهميته؛ مما يعوقها ويضعف أداءها للمهمة

الأساس، ولذا: فإن المهتمين بحفظهم وذاكرتهم يفضلون استخدام المفكرات اليومية، التي من فوائدها ادخار الذاكرة لما هو أهم، وفي هذا قد تختلف قدرات الأفراد

وملكاتهم.

5- كثرة الهموم والأحزان:

الهمّ والحزن من أعظم ما يشتت القلب، ويضعف قوته.

وكثرة الهم والحزن على أمور الدنيا يعني أن القلب شغوف ومشغول بها، ولم

يبق مكاناً لما سوى ذلك من الأمور النافعة.

6- ترك أسباب اكتساب القوة العقلية وتنميتها:

إن الذاكرة ملكة وطاقة تنتج إنتاجاً طيباً، فإذا ما استخدمت بإحسان واعتدال،

فأحسنت رعايتها وعُودت بتدرج على ما يريد صاحبها، أثمر ذلك نماءً واتساعاً،

لذا: كان من أسباب حصول النسيان في هذا النطاق:

إهمال خطوات الارتفاع بمستوى الذاكرة، وعوامل التذكر الجيد.

تداخل المعلومات بسبب عدم تنظيم طرق إدخالها.

الشرود أثناء القراءة أو الاستماع.

شغل الذهن بأمور جانبية تشوش المعلومات.

ضعف الرغبة فيما يقرأ أو يسمع.

الشعور بالإحباط، وفقدان الثقة بالنفس، وضعف إرادة الاستذكار.

ومن أهم الأسباب: قلة المراجعة وضعفها.

7- تركيز الذهن على أمرٍ ما دون غيره:

وذلك أن النسيان أحياناً يحدث لجانب من المعلومات دون غيره، وذلك بسبب

التركيز على جانب آخر، فينبغي توزيع التركيز على الأهم فالمهم.

علاج النسيان وأساليب تقوية الحفظ:

1- تجريد النية، وتحقيق التقوى، والاستعانة بالله (جل وعلا) :

النية ذات أثر بالغ على أعمال الإنسان وأقواله وأحواله، والفرق واضح بين

من كانت نيته خالصة، تحركه وتبعثه، وبين من انحطت همته واختلطت نيته.

فإن الأول معان موفق، قال ابن عباس (رضي الله عنهما) : (إنما يحفظ الرجل

على قدر نيته) [7] .

ثم التقوى تورث في القلب نوراً، وهي تتضمن ترك الذنوب والمعاصي التي

لها رين على القلوب. وقد تكاثرت النقول عن السلف في التحذير من المعاصي،

وبيان أثرها على العلم.. سأل رجل مالكاً: يا أبا عبد الله هل يصلح لهذا الحفظ

شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي [8] .

2- الإكثار من ذكر الله وشكره:

ذكر الله حياة القلوب، وروح العبادات، يذهب الغفلة، ويورث اليقظة

والنباهة؛ ذلك أن الله (عز وجل) يذكِّر عبده الذاكر مصالحه ومنافعه، ويوفقه

ويسدده.

ثم الشكر سبب لحفظ النعم الموجودة، وجلب النعم المفقودة، فإذا شكر العبد

نعم الله عليه، وقام بذلك بقلبه ولسانه وجوارحه: فلا شك أن الله يزيده ويعطيه،

وكما أن العقوبة تكون من جنس المعصية، فالجزاء من جنس العمل؛ قال (تبارك

وتعالى) : [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] [ابراهيم: 7] .

3- العناية بصحة الجسد وغذائه وراحته، ومن صورها:

الاهتمام بالغذاء المتوازن.

تقليل الغذاء وعدم الشبع، وذكر العلماء أن أوقات الجوع أجود للحفظ من

أوقات الشبع [9] .

النظافة والوضوء والتطيب، وهي ذات أثر طيب على انشراح الصدر،

واتقاد الذهن؛ ولذا: كان كثير من سلفنا الصالح يتهيؤون للدرس بالوضوء،

والتطيب، ونظافة الملبس، حتى إنهم كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- وهم على غير وضوء [10] .

وقد ذكر بعض العلماء أموراً لتنشيط الذاكرة، ولكنها في معظمها ليست

موصوفة من مشكاة النبوة، فتقع تحت التجربة والبحث العلمي، كتناول العسل،

والحبة السوداء، وأكل الزبيب، ومضغ اللبان.. ولا ندري مدى صحة ذلك طبيّاً.

4- تنظيم الوقت وحسن استغلاله:

والمقصود منه هنا: الحرص على الأوقات المناسبة للحفظ، التي اهتم العلماء

بذكرها عند الكلام عن آداب طالب العلم، قال ابن جماعة: وأجود الأوقات للحفظ:

الأسحار، وللبحث: الأبكار، وللكتابة: وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة: ... الليل [11] .

وعموماً: فإن استغلال الأسحار والأبكار، وطرف من الليل هو الأصل في

ذلك، فإن إفراز الغدة فوق الكلوية (الكظرية) كما تؤكد الأبحاث العلمية يزداد حتى

يصل إلى أعلى نسبة من هرمون التركيز من 4 8 صباحاً، وأدنى درجة منه تكون

بعد 11 مساءً، إذن: فلا بد من النوم ليلاً، إذ إن أي إخلال بذلك يخفض التحصيل

بنسبة 25%.

5- اتباع الأسس السليمة للحفظ والاستذكار:

وذلك يشمل عدة جوانب:

الجانب الأول: ما قبل الحفظ والتعلم:

وهو ما يتعلق بالاستعداد النفسي، ويشمل عوامل عدة:

1- إخلاص النية، وتصحيح القصد.

2- الثقة بالنفس، بمعنى التصميم على الإنجاز والنجاح، مع الاستعانة بالله

أولاً وأخيراً.

3- الاستمتاع بما يقرأ ويدرس ويحفظ؛ لأنه إن لم تنشرح نفسه لذلك لم

يتفاعل معه، ولم يثبت في ذاكرته ثبات ما استمتع به.

4- الأخذ عمن يثق بعلمه وأمانته.

5- قوة الإرادة بدءاً واستمراراً: وذلك أمر يُربى عليه المسلم، وقوة الإرادة

مظهر لأخلاق حميدة من الصبر والحلم.

6- التركيز الذهني: ومما يعين عليه: الاستمتاع وقوة الإرادة، كما يعين

عليه: اختيار الوقت والمكان المناسبين، وكذلك: تحديد الهدف والتصميم عليه.

وإلماحاً إلى هذا العامل قال ابن جماعة: (وأجود أماكن الحفظ الغرف، وكل

موضع بعيد عن الملهيات، وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب ... غالباً) [12] .

الجانب الثاني: أثناء الحفظ أو التعلم:

لا شك أن عملية الحفظ أو التعلم، والكيفية التي تتم بها: لها أثر في عملية

التذكر واستحضار ما في الذاكرة.

ومن الأسس التي ينبغي مراعاتها [13] :

1- التكرار: ويختلف باختلاف طبيعة المادة، وطبيعة الحفظ ونوعه، وكمية

المحفوظ، ومدة الحفظ.

2- توزيع التعلم في الحفظ والمراجعة على حد سواء: بأن تتخلله فترات

استراحة، وهذا أفضل من تجميعه في وقت واحد؛ لأنه يتيح دقة أكثر في

الملاحظة، حيث يتم بناء الذاكرة في فترة الاستراحة، ولأنه كذلك: يقلل التداخل.

3- اتباع الطريقة الكلية في التعلم:

(يقصد بالطريقة الكلية في التعلم أن تأخذ فكرة عامة عن الكل قبل الدخول

في الأجزاء والتفاصيل؛ لأن إدراك الكل أولاً يسهل ربط كل جزء بالكل، وكل

جزء بالجزء الآخر، فيكون الفهم أفضل والحفظ أسهل وأشمل وأدوم) .

4- التسميع الذاتي: وهو أفضل من القراءة مرات، ويذهب الملل، وهو

تقويم ذاتي، ويقوي الملاحظة، ويعطي تعزيزاً فوريّاً، ويبعد شبح الفشل، لأنه

يسهم في اكتشاف الأخطاء.

5- السماع من آخر: وهي وسيلة تحقق كثيراً من فوائد التسميع الذاتي،

لكنها لا تغني عنه. وهي مُعِينة على التذكر، فقد تذكر النبي -صلى الله عليه

وسلم- باستماعه آية كان أُنسيها [14] .

6- رفع الصوت أثناء الحفظ بقدر لا يشق عليه، فإن القراءة الخفيّة للفهم،

والرفيعة للحفظ والفهم [15] .

7- النشاط الذاتي واستخدام المؤثرات: بوضع الخطوط مثلاً، والتلخيص،

وكتابة ما يحتاج إلى تركيز أكثر في حفظه، كالتعاريف، والتواريخ.. ونحوها،

ووضع التساؤلات لما يشكل فهمه، ليركز عليه أثناء الإعادة والمراجعة، وليسأل

عما استعصى عليه فهمه.. فكل ذلك معين للعقل على الحفظ والتركيز.

8- تنويع العمليات العقلية: بتناول المادة من عدة زاويا، باستخدام: التفكير

الاستقرائي والاستنتاجي والمكاني، والزماني، والسببي، والتشابهي والمقارن، والتقييمي. وذلك يرسخ المعلومة، ويقلل تداخل المعلومات.

9- تنظيم المعلومات، وله أشكال، منها: ترتيب الأحداث زمنيّاً، أو مكانيّاً، واستخدام الأشكال، وربط المعلومات، واستخدام المقارنات.. إلخ.

10- معرفة المعنى: فإن حفظ الكلام الذي لا معنى له، أو غير معلوم

المعنى يحتاج لتسعة أمثال الوقت اللازم لحفظ الكلام المفهوم المعنى! ، وينبغي ألا

يتهاون في الفهم؛ لئلا يعتاد ذلك.

11- ربط القديم بالحديث: مما يسهل التعلم الجيد، ويحيي القديم؛ باكتشاف

أوجه الشبه والاختلاف.

12- تقليل القدر المحفوظ، بقدر ما يمكنه ضبطه بالإعادة مرتين.

والأمر في هذا واضح؛ فإن كثرة الكلام يُنسي بعضه بعضاً.

13- ومن أهم الأسس وأنفعها، تمرين الذاكرة وتعويدها على الحفظ، مع

الصبر والمجاهدة: وبذلك يستفيد طالب العلم مما وهبه الله من قدرات وملكات

عظيمة، فإن الذاكرة ذات قدرة فائقة على الحفظ وتتسع كلما زاد مخزونها، قال

الحارث بن أسامة: (كان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق

إلا القلب، فإنه كلما أفرغت فيه اتسع) [16] .

الجانب الثالث: ما بعد التعلم:

وذلك بمقاومة النسيان، وتلافيه قبل حلوله عبر خطوات عدة:

الخطوة الأولى: استمرار التعلم (المراجعة) :

بدايةً: ينبغي تصوّر أهمية المراجعة تصوراً صحيحاً، فهي ليست إضاعة

وقت، ولا توقفاً عن العمل، ولا تأخراً في التعلم والحفظ، بل هي تعلم بعينه،

وهي التي تحفظ النتائج السابقة، وتحافظ على رأس المال، فإن ما تم حفظه وفهمه

هو رأس المال؛ فإن المعلومات التي تحفظ جيداً لا تكاد تُنسى، وإنما تكون في

مكان ما في الذاكرة، ويحتاج استحضارها إلى وقت طويل بخلاف ما يترك وينسى

فلا يكاد يمكن استحضاره [17] .

وإذا أحسن الإنسان التعامل مع قواه العقلية، وأحسن استغلال ذاكرته

واستثمارها في شبابه وكهولته: تضاعفت قواه العقلية في الوقت الذي تضعف فيه

بنية جسمه وبقية القوى الأخرى [18] . وهذا الأمر يفسر لك ما كان عليه سلفنا

الصالح من ضبط وإتقان في سن الكبر، ولو جاوزوا الستين! ! .

ولا شك في صعوبة المراجعة على النفس كما ذكر ابن الجوزي ولكن الحقيقة

أنك أمام أمرين لا ثالث لهما: إما المراجعة، أو النسيان! فليختر العاقل لنفسه ما

أراد، وطالما تواصى السلف بألا يوضع العلم عند غير أهله ممن يضيعه وينساه،

وتختلف حاجة الناس إلى كثرة المراجعة حسب درجات حفظهم، وقوة استحضارهم.

أما طريقة المراجعة: فإن أمكن وجود شخص آخر موثوق به تتم المذاكرة

معه والمراجعة عليه: فهو الأفضل، وهو الأصل الذي نص عليه السلف،

ويسمونه: المذاكرة، والمدارسة. وإلا: فلا بد من المراجعة بأي طريقة ممكنة،

كالقراءة على نفسه، والكتابة.. ونحو ذلك، حتى لو احتاج الأمر لأن يقرأ على

غيره ممن ليس من أهل العلم، كالصبيان ونحوهم، وتبقى الأهمية الكبرى للتكرار

والمراجعة الشخصية.

وهنا لا بد من التنبيه على أمور:

أ- من المفضل أن يتم حفظ ما يراد تسميعه من الليل، ثم يعقبه نوم، ثم

تجري مراجعته سحراً أو بكرة؛ لأنه إذا تساوى زمن النوم واليقظة بين التعلم

والتذكر: فإن زمن النوم أقل ضرراً على الحفظ من زمن اليقظة؛ لعدم التعرض

لخبرات جديدة خلال النوم، والتي يحصل النسيان بسببها، فإن النسيان إنما يحدث

من جراء حصول خبرات جديدة، يفسح لها الدماغ مجالاً، فيطمس أشياء ... قبلها [19] .

ب- من المهم بعد عملية الحفظ تجنب الانفعالات والمثيرات العصبية؛ لأنها

تؤثر على الحفظ سلباً، ومن الصعب تفسير ذلك عصبيّاً، ولكن المقصود أن ذلك

يذهل الإنسان عن أشياء يعلمها، أو يحفظها.

ج- يقال في مراجعة الحرف والمهن كما قيل في مراجعة العلوم، فإنها مما

ينسى إذا لم تستعمل! وكما جاء الأمر بتعلم الرمي، جاء التحذير من نسيانه بتركه، فقال: (من علم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو قد عصى) [20] وقد حرص

الصحابة على ممارسة ما تعلموه كما صح عن عقبة بن عامر في رميه في حال كبر

سنه.

ومثل الرمي: كل حرفة ومهارة، وكذا: كل علم يحتاج إلى تدريب،

كالفرائض، والحساب، والنحو، واللغات ... وكذا العلوم الطبيعية، فإن العقل

يحتاج إلى مراجعتها وممارستها، والتدرب فيها بحل المسائل التطبيقية فيها.

الخطوة الثانية: العمل والتطبيق:

العمل بالعلم هو ثمرة العلم، وبه يزكو العلم، ويثبت في النفس، ولا يكون

نافعاً ما لم يُعمل به.

وقد اعتبر السلف العمل بالعلم معيناً على تثبيت العلم وزيادته، قال إبراهيم

بن إسماعيل بن مجمع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل) [21] .

ولايثبت العلم بمثل العمل، ولا سبيل إلى مراجعة كل العلوم، فإن العمر

قصير، لكن ببركة العمل يثبت العلم، وتأمل مثلاً حفظ أذكار الصلاة وأدعيتها،

وقارن بين من يحاول التنويع بحيث يأتي بكل أو جلّ ما حفظ في صلواته، وبين

من تكون صلته بها محصورة بين الكتب، وقِس على ذلك.

الخطوة الثالثة: مواصلة الطلب، واستمرار التعلم:

يعجب، ولا ينقضي عجبه، من تأمل حال سلفنا الصالح (رحمهم الله تعالى)

في مواصلة طلبهم للعلم حتى الممات، والشواهد كثيرة، ومن مآسي عصرنا: أن

اعتبرت بعض المراحل الدراسية هي الغاية، من بلغها بلغ الكمال!

الخطوة الرابعة: تبليغ العلم وتعليمه:

وهذا ثمن العلم وزكاته، وإذا كان المال ينقص بالإنفاق فإن العلم يزكو بالتعليم، ولا ينبغي أن يكون التقصير في العمل إذا وقع مانعاً من تعليم العلم وتبليغه، فإن

هذا تقصير آخر، ثم إن تعلم العلم وتعليمه معين جدّاً على العمل وباعث عليه..

وأخيراً: فلا بد من التأكيد على أهمية اللجوء إلى الله (تعالى) ، والإقبال عليه، والإكثار من دعائه [*] وسؤاله، فبيده (سبحانه) خزائن السموات والأرض،

لايغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار.

وختاماً: فقد ظهر أن المسألة تحتاج إلى حزم وجد ومثابرة، نسأل الله للجميع

التوفيق لمرضاته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015