دراسات إقتصادية
من المنظور الإسلامي
د. محمد ين عبد الله الشباني
تعددت أساليب الجذب لبيع السلع، كما تنوعت وسائل، وطرق تشجيع
المستهلكين لاقتناء ما تنتجه المصانع وما يعرضه مسوقو هذه السلع، فأصحبت
دراسة التسويق والترويج للمنتجات فنّاً يتم بحثه ودراسته في الجامعات.
إن الاهتمام بعمليات التسويق والترويج للسلع يعود في حقيقة أصله إلى
المنطلقات الفكرية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي.
إذ يقوم المفهوم الفلسفي للنظام الرأسمالي على فكرة الحرية المطلقة للعمل على
تحقيق الاستجابة الكاملة للرغبات، وضرورة إزالة جميع المعوقات والحواجز التي
تحد من تحقيق المنفعة الفردية، لهذا: قام الفكر الرأسمالي على مقولته المشهورة:
(دعه يعمل، دعه يمر) وهذه المقولة هي تأكيد لمفهوم الرأسمالية القائم على أسس
عدة، منها:
1- البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب.
2- المنافسة والمزاحمة في الأسواق، واتباع جميع الأساليب التي تحقق للفرد
الحصول على أكبر منفعة، حتى ولو أدى ذلك إلى حصول الضرر للآخرين.
3- استخدام الدعايات لتسويق السلع، بدون النظر إلى القيم الأخلاقية،
واستخدام كل الوسائل المثيرة للغرائز بدون التفات إلى حاجات المجتمع، فالغاية
الأولى والأخيرة: تحقيق الكسب وسلب ما لدى الناس من أموال.
لقد غزت أساليب وطرق الترويج والتسويق بلاد المسلمين، بدون النظر إلى
المحاذير الشرعية أو الأخلاقية، فأصبحنا نرى في كل يوم أسلوباً جديداً من أساليب
الترويج للمنتجات الاستهلاكية، التي تمارس من قبل النظام الرأسمالي، حيث
نلاحظ الكذب والتضليل والخداع عند تقديم المعلومات عن السلع التي يتم الترويج
لها، واستخدام جميع المثيرات الغريزية بقصد تحقيق التأثير النفسي للفئة المقصودة
جذبها للشراء، أو مخاطبة الغرائز الذاتية بقصد دفع الفرد للشراء، ومن ذلك مثلاً:
ما يعمد إليه مروجو الأدوات التجميلية من إبراز تأثير جهازٍ ما على التخفيف من
الوزن، أو إبراز تأثير المستحضر على زيادة الجمال، مع عدم الصدق في القول؛
حيث إن مروجو هذه السلع إنما يخاطبون الجانب الغريزي في الإنسان [*] .
وتعود أهمية الحكم الشرعي لهذا النوع من الممارسات التجارية إلى كثرتها، واتساع نطاقها، وانتشار التعامل بها في المجتمعات الإسلامية، وإلى تعلقها
بتصرفات الفرد المسلم فيما يتعلق باستخدامه للمال الذي جعله الله قياماً للناس، ولما
في هذا الأسلوب من دفع للأفراد في التوسع في الاستهلاك والشراء بدون حاجة؛
مما يستدعي الدراسة المستفيضة للوصول إلى الحكم الشرعي لهذا النوع من
المعاملات المالية، وفي هذه المقالة سوف أحاول دراسة هذا الجانب، مؤملاً من
إثارته دفع مزيد من المتخصصين إلى المساهمة في مزيد من البحث للوصول إلى
رأي حاسم في هذا الموضوع.
القاعدة الأصولية تقرر: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ ولهذا: فإن
من مقتضيات البحث في هذه القضية: إعطاء تصور واقعي لهذه المعاملة.
الأسلوب المتبع في طرح الجوائز للترويج لشراء السلع من متجر معين، أو
شراء سلعة معينة، هو: قيام البائع بتحديد جائزة عينية أو عدة جوائز يشترط فيمن
يدخل في التنافس عليها أن يكون مشترياً من هذا المتجر سلعاً أو سلعة معينة بقيمة
معينة، خلال فترة زمنية معينة، ويتم إعطاء كوبونات (مستندات اشتراك لهؤلاء
المشترين من هذا المحل أو المشترين لهذه السلعة) ، وهذه الكوبونات تدخل في
السحب للفوز بالجائزة، أو بأحد هذه الجوائز، فالشراء شرط في الاشتراك في
الحصول على هذه الجائزة، وفي الغالب: يتم تحديد قدر معين من الثمن المدفوع
ثمناً لما يتم شراؤه؛ حتى يمكن الدخول في السحب للحصول على الجائزة، كما أن
عدد المشتركين في السحب غير محدد بعدد معين، وإنما يتم تحديد مدة زمنية،
يحق لمن يشتري خلالها الدخول في السحب؛ فالبائع متبرع ومانح للجائزة أو
الجوائز لأشخاص غير محددين، ولكن يشترط على من يرغب في الدخول في
السحب على هذه الجوائز ضرورة قيامه بالشراء لسلعة من السلع المعروضة للبيع
لدى المتجر الذي قدم الجائزة أو الجوائز، أو لدى مالك السوق الذي يقوم بتأجير
محلاته للتجار، ويرغب في دفع الناس إلى الشراء من هذا السوق؛ بقصد تثبيت
المستأجرين من خلال زيادة مبيعاتهم، وبالتالي: رفع القيمة الإيجارية مستقبلاً.
السؤال الذي يمكن طرحه هو: ما نوع هذا التعاقد، وما مدى سلامته من
حيث الصحة والفساد، وبالتالي: ما الحكم عليه من حيث الجواز، والمنع، والحل، والكراهة، أو الحرمة؟
الممارسون لهذا النوع من الترويج يعتبرونه نوعاً من الهبة أو المنحة،
وبالتالي: فيمكن أن يلحق بعقود التبرعات، وقبل مناقشة صحة مقولة من قال: إن
هذه الجوائز هي هبات، أو منح، أو تبرعات يمنحها البائع لأحد المشترين من
السلع التي يعرضها للبيع: فلا بد من دراسة عقد الهبة لتحديد مدى انطباق أحكام
الهبة على الأسلوب الممارس من قبل التجار المروجين لسلعهم من خلال الإغراء
بهذه الجوائز.
يعرف ابن قدامة الهبة بأنها: تمليك في الحياة بغير عوض [1] .
فإذا كانت الهبة نظير العوض فهي بيع في الحقيقة، فلا تخالف البيع إلا في
أمور يسيرة، منها: أنها تجوز مع جهل العوض، بخلاف البيع: فإنه يشترط فيه
تعيين الثمن.. وأنها تجوز مع جهل الأجل، بخلاف البيع [2] .
وعلى ضوء هذا: فإنه إذا ارتبطت الهبة بالعوض، فقد تغير حكمها، فتدخل
ضمن عقود المعاوضات، وبالتالي: تخضع لأحكام البيوعات، فالجوائز التي
تستخدم للترويج للسلع ليست منحاً ولا هبات، وإنما هي نوع من أنواع البيوع
المستخدمة، ينبغي إخضاعها لأحكام البيوع وإن أخذت شكل الهبة؛ حيث إن (الهبة
إما أن تكون هبة عين أو هبة منفعة، وهبة العين: منها ما يقصد بها الثواب،
ومنها ما لا يقصد بها الثواب، وهبة الثواب اختلفوا فيها، فأجازها مالك وأبو حنيفة، ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور، وسبب الخلاف: هل هي بيع مجهول
الثمن، أو ليس بيعاً مجهول الثمن؟ ؛ فمن رآه بيعاً مجهول الثمن، قال: هو من
بيوع الغرر التي لا تجوز) [3] .
على ضوء ذلك: فإن الجوائز التي تستخدم كوسيلة من وسائل الترويج لزيادة
المبيعات وجذب المستهلكين هي نوع من أنواع البيوع الفاسدة، التي تقاس على
البيوع التي ورد النهي عنها، حيث إن الهبة إذا كانت بعوض كانت بيعاً، يجري
فيها حكم البيع كما ذكر ذلك سيد سابق في فقه السنة [4] .
ووفقاً لذلك: فإن هذه الجوائز تدخل ضمن عقود المعاوضات، وهي من
البيوع الفاسدة التي لا يجوز ممارستها، وضابط البيع الفاسد هو: ما اشتمل على
شرط من الشروط التي تجعل البيع فاسداً، وهو ما اجتمع فيه أمور، هي [5] :
1- أن يكون الشرط مما لا يقتضيه العقد.
2- أن يكون الشرط غير ملائم للعقد.
3- أن يكون لأحد المتعاقدين منفعة فيه.
فإذا اعتبرنا الهبة أو المنحة بعوض هي عقد معاوضة: فإن الجائزة التي
يمكن أن يقال: إنها هبة أو منحة من البائع.. تدخل ضمن مفهوم الهبة التي قصد
منها الثواب، وبالتالي: أصبحت عقد بيع تضمن شروطاً فاسدة، من حيث ربط
الهبة بالشراء، وهو شرط لا يقتضيه العقد، وغير ملائم له، وفيه منفعة لأحد
المتعاقدين وهو الواهب والمانح.
وعلى ذلك: فإن ضوابط الشرط الفاسد تنطبق على الشروط الموضوعة لنيل
الجائزة أو المنحة أو الهبة، أيّاً كان الاسم، فالجوائز التي يتم استخدامها وسيلةً من
وسائل الترويج للسلع بقصد زيادة المبيعات، بدفع الأفراد للشراء من خلال الرغبة
في الحصول على هذه الجوائز، التي لا يمكن الحصول عليها إلا لمن قام بالشراء
وحصل على كوبون للدخول به في عملية السحب.
إن هذه الوسيلة لدفع الناس للشراء تتعارض مع قواعد وأصول الشريعة
الإسلامية، التي منها: النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، سواء بخداعهم، أو
التلبيس عليهم، أو الولوج إلى جيوبهم بالتغرير بهم من خلال أساليب بيوع الجهالة
والغرر، وبالتالي: فإن هذا النوع من الممارسات، إذا لم تصل إلى درجة الحرمة، فلا أقل من وصولها إلى دائرة الشبهات المنهي عن الولوج فيها؛ حيث قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن
بشير (رضي الله عنهما) ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس،
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى: يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [6] .
على ضوء ما سبق يمكن تحديد الأدلة التي يمكن الاستناد إليها، ليتجنب
ممارسة هذا العمل من أخذ أو منح هذه الهبات والمنح التي قصد منها الحصول على
المعاوضة بشراء السلعة التي وضعت لها المنح أو الجوائز، حيث إن هذه الممارسة
تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وإلى الوقوع في البيوع الفاسدة المنهي عنها،
ونحن نستند في رأينا حول كراهة ممارسة هذا النوع من المعاوضات إلى الأمور
التالية:
أولاً: أن هذا الأسلوب من المعاوضات يندرج تحت النهي عن بيع المنابزة
والملامسة وبيع الحصاة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (نهى عن الملامسة والمنابزة) وروى مسلم في صحيحه عن أبي
هريرة أيضاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن الملامسة، وهو لمس
الثوب لا ينظر إليه) ، والنهي عن هذين النوعين لعلتين، هما: الجهالة، وكونه
معلقاً على شرط، وهو نبذ الثوب إليه أو لمسه له، والعلة الجامعة مع ما يعرف
بالمنح والجوائز هي: كون الجائزة أو المنحة معلقة على شرط أو أكثر من الشروط
لدخول السحب على هذه المنح أو الجوائز، وتعليق الهبة أو المنحة على شرط قد
أشار إليه ابن قدامة في المغني بعدم الصحة، يقول: (ولا يصح تعليق الهبة بشرط، لأنها تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على
شرط كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: (إن رجعت هديتنا إلى
النجاشي فهي لك) كان وعداً، وإن شرط في الهبة شروطاً تنافي مقتضاها؛ نحو أن
يقول: وهبتك هذا بشرط أن لا تهبه أو تبيعه، أو بشرط أن تهب فلاناً شيئاً: لم
يصح الشروط) [7] ، وأما بيع الحصاة: فقد روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله
عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) ،
وتفسير بيع الحصاة هو: أن يقول: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو
لك بدرهم، وقيل: هو أن يقول بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ الحصاة إذا
رميتها بكذا، والشبه بين بيع الحصاة والمنح أو الجوائز أو الهبات بعوض هو: أن
المشتركين في السحب هم ممن قاموا بالشراء من متجر المانح أو الواهب للجائزة،
ولكل واحد منهم قسيمة، حيث يتم خلط هذه القسائم الدالة على الشراء جميعاً، ثم
السحب من هذا الخليط، فهو أشبه برمي الحصاة على البيع الذي يمثل الجوائز
الموهوبة أو الممنوحة، فعنصر الجهل أو الغرر في ذلك واضح، من حيث جهل
الموهوب له، حيث إن الموهوب له غير معروف إلا بعد السحب.
ثانياً: أن هذا الأسلوب من المعاوضات قد يندرج ضمن مفهوم (بيع وشرط)
الذي ورد فيه النهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث روى أبو داود
والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما
ليس عندك) ، وقد علق ابن قدامة على ذلك بقوله: (والشروط تنقسم إلى أربعة
أقسام.... الثالث: ما ليس من مقتضاه، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه،
وهو نوعان، أحدهما: اشتراط منفعة البائع في المبيع ...
الثاني: أن يشترط عقداً في عقد، نحو: أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً
آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن،
أو غيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري [ويقاس
على ذلك: الهبة المشروطة، باعتبار أن لها حكم بيع] .. الرابع: اشتراط ما ينافي
مقتضى البيع) [8] ، وعليه: فإن الهبة أو المنحة المتمثلة في الجائزة يتوفر فيها
اشتراط منفعة البائع مقدم الجائزة أو المنحة؛ حيث إن الهبة مشروطة بالشراء من
البائع، فلا يمكنه الاشتراك في السحب للحصول على الجائزة المقدمة من البائع إلا
وفقاً لهذا الشرط.
ثالثاً: أن هذا الأسلوب يؤدي إلى التوسع في الاستهلاك من خلال شراء سلع
لا يحتاج إليها الفرد، وإنما رغبة في الحصول على مال أكثر، مما سيكون حافزاً
له للاشتراك في السباق للحصول على الجائزة أو المنحة، وبالتالي: اضطراره
للشراء بغير حاجة لمايعرض من سلع. ومن الأمور التي نهى عنها الشرع، ووجّه
رسولنا (عليه أفضل الصلاة والسلام) أمته إلى الابتعاد عنها: التوسع في الإنفاق
بدون حاجة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن التبقر في المال والأهل) ومعنى التبقر هو:
التكثر، والسعة، بل إن الشراء بقصد الدخول في المسابقات لنيل الجوائز يدخل في
النهي العام الوارد في قوله (تعالى) : [وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَاماً] [النساء: 5] فالتوسع في شراء السلع الاستهلاكية التي يتولى مروجوها
إيجاد الوسائل لجذب الناس ودفعهم للشراء بكل وسيلة من وسائل الإغراء والتغرير
ومن هذه الوسائل: تلك الجوائز التي تمنح لمن يقوم بالشراء، لا لسد حاجته، بل
للحصول على جائزة من تلك الجوائز فهذا الأسلوب يدفع إلى غرس عادة الحصول
على المال بدون جهد.
بجانب أن زيادة الاستهلاك للمجتمعات الإسلامية التي تقوم باستيراد تلك السلع
الاستهلاكية تؤدي إلى أن تذهب تلك الأموال المنفقة على تلك السلع الاستهلاكية
غير المحتاج إليها إلى أيدي أعداء الأمة، من خلال زيادة الاستيراد لتلك السلع؛
مما يؤدي إلى التقليل من فرص نمو المدخرات، فالمصلحة العامة تقتضي منع مثل
هذه الجوائز.