دراسات تربوية
دعوة إلى السير في مدارج الكمال
(1 من 2)
بقلم: د.محمد عز الدين توفيق
التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تغير السير، وتوبة تصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أن التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئاً ضخماً في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينتظر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كانت التوبة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عهدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هامش الإساءة بجميع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.
إن توبة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل،
وتوبة الإحسان هي الوقود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ
صاحب السيارة مأمنه.
وقد يقول قائل: إن الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما
توبتين؟ والحقيقة: أننا لم نفرد التوبة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة،
فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في
حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.
وإنما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عند كثير من المسلمين من التهاون في
الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم إذا كان قد حقق في أول التزامه
بعض التحولات لا يكاد يزيد عليها شيئاً جديداً، مع العلم أن إحلال السنة محل
البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.
لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد
منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقصاء شوائبها من
حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول
إليه من درجات الإسلام.
إن الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدّاً، كما أن
النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق في وجه ابن
آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى
ربه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع
منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء
والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.
حوافز التوبة:
إن دوافع التوبة إذا استقرت في قلب المسلم، وصارت جزءاً من العلم الذي
في صدره، دفعته للأخذ بأسباب الهداية التفصيلية، بعد أن أكرمه الله (تعالى) بنعمة
الهداية العامة، ويوجد بحمد الله (تعالى) أكثر من حافز لهذا التجديد الذي يرتقي بنا
في درجات الكمال الممكنة، ويجعلنا دوماً في زيادة من ديننا، ويجعل من التوبة
عمل اليوم والليلة.
الحافز الأول: عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:
لقد أمر الله (عز وجل) الناس كافة بالتوبة، وأمر بها المؤمنين خاصة، وهذا
يعني أن أي إنسان مهما بلغ إيمانه، وتدينه واستقامته لا يستغني عن التوبة، فهي
بداية السير ونهايته، يصبح فيها العبد ويمسي، ولا يدعها أبداً، لكن الناس
يختلفون في موضوع التوبة: فقد يتوب عبد من الكفر، في الوقت الذي يتوب آخر
من بدعة، وثالث من ذنب كبير، ورابع من صغيرة، وخامس من شبهة، وسادس
من تقصير في فريضة أو نافلة، وسابع من ترك نصيحة أو غفلة عن ذكر أو
تهاون في دعوة أو جهاد ...
فهناك إذن أمر إلهي عام لعموم الناس ولعموم المؤمنين بالتوبة إليه، وهذا
الأمر يجعل من التوبة ثوباً لا ينزعه العبد ما عاش، وإن نزعه لبعض الوقت عاد
إليه من قريب.
فمن الآيات التي خاطب بها (سبحانه) عباده جميعاً: قوله (تعالى) : [وَإنِّي
لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] [طه: 82] .
وقوله (سبحانه) : [إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا
الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] [النساء: 17، 18] .
ومن الأحاديث: قوله فيما رواه الترمذي وحسنه: (تُقبل توبة العبد ما لم
يغرغر) ، والغرغرة: الاحتضار، وقوله فيما رواه مسلم: (إن الله (تعالى) يبسط
يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع
الشمس من مغربها) .
أما الآيات التي خاطبت المؤمنين خاصة، فمنها قول الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً] [التحريم: 8] ، وقوله (عز وجل) : [وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [النور: 31] .
ولايخفى أن التوبة التي أمر الله بها المؤمنين ليست توبة الإسلام والإيمان؛
فهم مسلمون مؤمنون، ولكنها توبة الإحسان التي تجدد إسلامهم، وتقوي إيمانهم،
وتصلح ما فسد من أعمالهم وتقوِّم ما اعوج من تصرفاتهم.
وما دامت الأخطاء واردة فالأمر بالتوبة قائم لا يجاوزه أحد، وهو في كل
وقت على التعجيل والفور، لا التأخير والتراخي، وكل توبة قبل الموت فهي توبة
من قريب، وكل ذنب فارتكابه جهالة.
الحافز الثاني: التفكر الدائم في حقيقة الزمن:
هناك حجاب كثيف من الغفلة يمنع أكثر الناس من إدراك حقيقة الزمن، فهم
لا يرون في طلوع الشمس سوى بداية يوم جديد يربطون فيه الاتصال بمجموعة من
الهموم الآنية والأغراض العاجلة، كما لا يرون في الليل سوى نهاية ذلك اليوم،
ونادراً ما يتجاوزن هذا النظر القريب إلى نظر آخر بعيد، يبدو فيه تعاقب الليل
والنهار درساً بليغاً، وموعظة، وذكرى للنفس: [وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً] [الفرقان: 62] .
كل يوم يأتي هو فرصة لمن كان على قيد الحياة، فهذه الأيام لا تتعاقب بلا
نهاية، بل لكل إنسان منها عدد محدود، يبدأ يوم ولادته، وينتهي يوم وفاته.
إن قراءة الزمن على ضوء الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم والإيمان
تنتهي بالعبد إلى نتيجة أخيرة، هي: أن أحسن ما يقدم بين يديه في هذه الأيام هو
العمل الصالح، وأول عمل صالح يقدمه بين يديه هو التوبة الصادقة، فيقبل على
ربه بالافتقار، ويعتذر إليه عن التقصير في القيام بواجب العبودية؛ لعل توبته تلك
تشفع له بين يدي أعماله القليلة الهزيلة.
إن دورة اليوم، ودورة الأسبوع، ودورة الشهر، ودورة العام: كل منها
يعطي مثلاً لعمر الإنسان، قال الله (تعالى) : [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] [الحديد: 20] .
ففي هذه الآيات تعريف للدنيا وما يفعل الناس فيها؛ فهي لعب ولهو وزينة
وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، ومثالها في سرعة الانقضاء كمثل النبات يتم
دورته في مدة يسيرة: فبينما هو نبت صاعد أخضر، إذا هو هشيم أصفر.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم وابن المبارك في الزهد
بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل
هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك
قبل موتك) .
ففي هذا الحديث: أن الزمن سريع الزوال، والدنيا فرص، إذا لم يغتنمها
صاحبها فاتت وذهبت، فالشباب لا بد يأتي بعده الهرم، والحياة يأتي بعدها الموت.
قال الحسن البصري: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً، والموت معقود
بناصيتك، والدنيا تطوى من ورائك.
لقد التفت الحسن البصري (رحمه الله) في هذه القولة إلى البعد الزماني في
تعريف الإنسان، فهو مجموعة من الأيام إذا مضى منها يوم مضى منه بعضه حتى
ينتهي.
لقد قال بعض العارفين يصف الدنيا: إنها أنفاس تُعد، ورحال تُشد وعارية
ترد، والتراب من بعد ينتظر الغد، وما ثمّ إلا أمل مكذوب، وأجل مكتوب، فكيف
يغفل مَن يَوْمُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده
إلى أجله.
إن التفكر في حقيقة هذا الزمن على ضوء تصور الإسلام للحياة الإنسانية
ضروري للقيام بتجديد شامل ومستمر في الأفكار والأعمال، فهو يكشف له أن
بضاعته في هذه الحياة هي الزمن، وكل يوم يبزغ فجره فرصة إمهال قد تكون
الأخيرة وبعدها العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.
إن هذا التفكر في ذلك البعد هو الذي يوقف داء التسويف الذي يعاني منه كثير
من الناس عندما يَعِدون أنفسهم بالتوبة عدة مرات، ويقولون: غداً غداً، فيجيء
الغد ويصير يوماً، ويصير اليوم من بعد ذلك أمساً، وهم على حالهم، مغترون
بالعافية والستر، لا يذكرون ما بين أيديهم من أهوال وأخطار، حتى يفجأهم الموت
في وقت لم يتوقعوه، ويصرعهم في يوم لم ينتظروه، فتفوتهم فرصة التوبة
والتدارك.
ولا يحسبن أحد أن التفكر الذي ندعو إليه هو تلك الأفكار السوداوية التي تدعو
إلى التشاؤم بهذه الحياة، بل نحن ندعو إلى تأمل إيجابي فعال، تكون ثمرته إعادة
النظر في عوائد الحياة، وتصحيح ما لا يتفق مع قيمتها وأمانة الاستخلاف فيها.
إنه ما لم يستحضر الإنسان حقيقة الزمن بين عينيه بكل خطورتها فلن يتقدم
خطوة واحدة في توبته، لكنه إن ذكر أن عمره ينقص ولا يزيد، وأنه يسعى في
هدمه منذ نزل من بطن أمه، وأنه في كل يوم مودع.. تنبه وتيقظ، ولم يؤخر
عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عمله.
وما أدري وإن أَمّلتُ عمراً ... لعلي حين أصبح لست أمسي
أَلم تر أَن كل صباح يوم ... وعمرك فيه أقصى منه أمس
الحافز الثالث: النظر إلى الماضي:
خلق الله (عز وجل) الإنسان بقدرات عقلية متميزة، ومنها القدرة على التذكر، وهذه القدرة التي أوتيها الإنسان دون سائر الحيوانات ليست من أجل التعرف على
الأشياء عند رؤيتها، أو من أجل إتقان المهن والحرف والمهارات، أو من أجل
القراءة والكتابة ... أو غير ذلك من منافع الذاكرة فقط، بل هناك مهمة أخرى أسمى
من هذا كله، هي: استرجاع الماضي بقصد المحاسبة والمراجعة، قال الله (تعالى) : [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] .
والله (عز وجل) إذا أقسم بشيء من مخلوقاته: فإما لأجل بيان قدرة هذا
الشيء ومنزلته، أو للتنبيه على ما فيه من دلائل الحكمة الإلهية، وفي هذه الآية
أقسم (سبحانه) بالنفس اللوامة تنبيهاً على هذه الآية العقلية، وهي: قدرة الإنسان
على التفكير بعامة والتذكر بخاصة، وثانياً: تنويها بهذه النفس التي استعملت هذه
القدرات العقلية فيما خلقت لها ولم تقصرها على جانب التسخير والانتفاع فحسب،
فجعلتها للتفكر والمحاسبة والاعتبار أيضاً.
إن الماضي لا يرجع، ولكن الإنسان يستطيع أن يسترجعه من الذاكرة، فإذا
أحداثه حاضرة في وعيه وشعوره ينظر إليها، فإذا كان القصد من استرجاعها هو
المحاسبة والمراقبة، فنحن أمام حافز آخر من حوافز التوبة.
إن الذي ينسى ماضيه بمجرد مروره لا يمكن أن يصحح حاضره أو يخطط
لمستقبله، لأنه يعيش عمراً متقطعاً منفصلاً بعضه عن بعض، ولكن الذي يرى
عمره سلسلة واحدة متصلة الحلقات، يأخذ من ماضيه لحاضره، ومن حاضره
لمستقبله، وهذا الذي يأخذه هو الدروس والعبر، وهو التجارب والخبرات، فالذي
يفكر في ماضيه على ضوء الطموحات التي اختطها لنفسه في الحياة، وعلى ضوء
الغاية التي يسعى إليها، وهي رضوان الله والجنة، يستقل طاعاته لا محالة،
ولسان حاله في كل مرحلة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا ولتركت
كذا، فيتدارك ما استطاع، ويعوض عما فات ويسابق الأيام في ذلك.
بهذا يؤدي الماضي للمسلم الذي ينظر فيه مهمة جليلة؛ لأنه يتحول إلى ناصح
وموجه، يدلي بمشورته عند الحاجة.
وإذا كانت التوبة الصحيحة تمحو ما قبلها، فإن هذا لا يعني أن المسلم إذا
تاب ينسى ما قدمت يداه: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ] [الكهف: 57] .
لكنه بعد التوبة يحتفظ لماضيه بهذه المهمة الإيجابية، وهي: الحث على
الاستدراك وإصلاح الأخطاء، وهذا معنى قول بعض العلماء: معصية أورثت ذلاً
وانكساراً خير من طاعة أورثت عجباً واستكباراً.
الحافز الرابع: النظر إلى المستقبل:
إذا كان الجسم الإنساني محصوراً في الحاضر، خاضعاً لسلطته: فإن القلب
يستطيع أن يتحرر من هذه السلطة ليرتاد أغوار الماضي وآفاق المستقبل، فيرى
حياته في أطوارها الماضية والحاضرة والمقبلة، والذي ينظر إلى حياته بهذا الشكل
الممتد ولا يبقى سجين الحاضر هو الذي يرى عواقب الأمور في بداياتها، فيغنم
خيرها، وينجو من شرها؛ لأنه يُعِد لكل أمر عدته ويلبس لكل حالة لبوسها،
ويتصرف أمام كل موقف بما يناسبه، لا قبل الأوان ولا بعد الأوان.
وإذا كان نظر المسلم إلى ما مضى يجدد عزمه ويشحذ همته، ليكون في يومه
أفضل منه في أمسه، فإن نظره إلى المستقبل يحثه على المسارعة بتنفيذ ما عزم
عليه من توبة وتصحيح، فالآجال بيد الله وحده، والأعمال بالخواتيم، والمستقبل
يشمل ما ينتظره بعد الموت من أهوال القبر، وما ينتظره بعد البعث من أهوال
الحشر والحساب.
إنه لا يدري متى يستدعى، ولا يدري ما اسمه غداً، ولايدري أيخف ميزانه
أم يثقل، ولا يدري أيكون من السعداء أم من الأشقياء.
كيف ينسى المسلم هذا المستقبل وهو معني به، وسيعيش لحظاته لحظة لحظة، ويجتاز أطواره مرحلة مرحلة، حتى يكون مثواه في الجنة أو في النار.
وإنما يغفل عن هذا المستقبل من ضعفت خشيته، وبهت يقينه باليوم الآخر،
وران على قلبه ما كسب من خطيئات، يلعب بالنار وهو لاهٍ غافل، ويقف على
حافة الهاوية وهو سادر معرض، حتى يفجأه الموت وهو على عمل من أعماله
الرديئة، فيهلك هلاك الأبد.
إنه لا ينجي من سوء الخاتمة إلا التفكر الدائم في المستقبل، والمستقبل يبدأ
من اللحظة الآتية، ومن خاف سوء الخاتمة اجتهد في توسيع دائرة الإحسان في
حياته وتقليص هامش الإساءة، وهذه هي التوبة الثانية بمعناها الواسع، فإنه لا
يودع فترة من حياته إلا وقد شهد فيها إسلامه تحسناً جديداً.