سياسة شرعية
القانون الدولي الإسلامي
(علم السير)
الحلقة الأخيرة
بقلم: عثمان جمعة ضميرية
تطرق الكاتب في الحلقات السابقة إلى أكثر خصائص القانون الدولي الإسلامي وانتهى في الحلقة الماضية بالحديث عن خاصية: أن أحكام السير تخاطب الفرد
والدولة، ويواصل في هذه الحلقة عرض بقية الخصائص.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
خاصية الثبات والمرونة:
تقدم فيما سبق أن أحكام العلاقات الدولية في الإسلام تقوم أساساً على الوحي
(القرآن والسنة) الذي تكفل الله (تعالى) بحفظه، وأن المجتهدين في استنباطهم
للأحكام يتقيدون بالنصوص الشرعية، ويطبقون قواعد الشريعة في الاستنباط،
وهذا يعطي هذه الأحكام صفة الثبات والاستقرار [1] . حتى ولو تغير الحكام أو
اختلفت أنظمة الحكم؛ لأن الأحكام الشرعية لا ترتبط بالهيئة الحاكمة، وإنما ترتبط
بالدين الإسلامي الذي لا يتغير ولا يتبدل، قال (تعالى) : [لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]
[يونس: 64] ، وقال: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ] [الأنعام: 115] .
أي: لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله [2] .
ونضرب بعض الأمثلة على هذا الثبات في مجال العلاقات الدولية، لبيان ذلك
الأثر الفريد الذي ينشئه ثبات أحكام هذه العلاقات: فمن مبادئ العلاقات الدولية:
احترام الكرامة الإنسانية في السلم والحرب، والحفاظ على حقوق غير المسلمين في
دار الإسلام، والعدالة التي ينبغي أن تتوخاها الحكومة المسلمة وتلتزم بها في
التعامل مع المسلمين وغير المسلمين، والوفاء بالعهود والمواثيق حتى مع الأعداء،
وعدم الغدر بهم حتى ولو غدروا هم بنا، والفضيلة والأخلاق في المعاملات ...
وعالمية الدعوة الإسلامية، وحق المسلمين بل واجبهم في الدعوة إلى دين الله
(تعالى) ، لأن الإسلام رسالة الله الأخيرة لهذه البشرية، فلا بد من إبلاغها لهم،
وحقيقة أن العلاقة التي تربط بين المسلمين هي آصرة العقيدة والإيمان، وأنه لا
ولاء بين المسلمين والمشركين والكفار، وإن كان هذا لا يمنع من البر بهم
والإحسان إليهم في المعاملة، ووجوب إعداد المسلمين للقوة التي يحافظون بها على
كيانهم ويرهبون بها عدوهم، لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ... إلخ.
ولهذا الثبات فائدة عظمى، لأنه يؤدي إلى اطمئنان الأفراد وأمنهم من
المفاجآت والتقلبات، ووضوح أسس العدالة والنظام للكافة من أهل دار الإسلام في
الدولة الإسلامية والمقيمين الأجانب غير المسلمين.. وهذا كله يؤدي إلى الثقة
والازدهار، وينتج أفضل الظروف للتقدم الاجتماعي والاقتصادي وحسن العلاقات
الدولية وسيادة الأخلاق والآداب والفضيلة بسبب معرفة كل ذي حق حقه، فتمتنع
أسباب الصراع والاستغلال والغدر، وغير ذلك مما يحرض على الرذيلة وانتهاز
الفرص بسبب ضعف القانون والعدالة.
وهذا الثبات أيضاً: يضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية، فلا تمضي
شاردة على غير هدى، كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة، فانتهت تلك النهاية البائسة ذات البريق الخادع الذي يخفي في طياته الشقوة
والحيرة والنكسة والارتكاس، كما أنه يقيم الميزان العدل الثابت الذي يرجع إليه
الإنسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته
من ملابسات وظروف، فيزن ذلك كله بهذا الميزان الثابت. ويعطينا هذا الثبات
مقوّماً للفكر الإنساني، مقوماً منضبطاً بذاته يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني،
فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات.
المرونة والدليل:
إلا أن ثبات الأحكام لا يعني جمود الفقه وعجزه عن مواجهة الوقائع الجديدة
وتلبية حاجات الأمة [3] هذه، فإن في مصادر التشريع الإسلامي مرونة وخصوبة
وسعة تتنافى مع الجمود، فإن أحكام المعاملات والعلاقات الدولية جاءت في القرآن
الكريم بنصوص تدل على أحكام أساسية ومبادئ عامة لا تختلف من بيئة إلى أخرى، وتقتضيها العدالة في كل أمة؛ ليكون أولو الأمر في سعة من أن يفرعوا ويفصلوا
حسبما يلائم حالهم وتقتضيه مصالحهم، من غير أن يصطدموا بحكم تفصيلي شرعه
القرآن، كما أن دلالة النصوص الشرعية ليست محصورة فيما يفهم من العبارة أو
النص فحسب، بل فيما يفهم من روحها ومعقولها، ومن هنا: كانت الدلالة دلالة
منطوق ودلالة مفهوم. كما أن النصوص التشريعية لم ترد بأحكام مجردة من عللها
والمصالح التي شرعت من أجلها، بل جاءت مقترنة بالعلة صراحة أو إشارة، مما
فتح باب القياس أمام المجتهدين، ثم جاء الإجماع، والاجتهاد الجماعي كذلك،
وسائر مصادر التشريع التبعية بما فيها من مرونة وقابلية لتلبية الحاجات ومواجهة
الوقائع والمستجدات؛ لتحكم حياة الناس في كل العصور والأماكن.
ومن الأمثلة على هذه المرونة والحركة في النظام السياسي الإسلامي: شكل
الحكومة الإسلامية، فلم تحصر الشريعة شكل الحكومة في قالب ضيق، وإنما
أفسحت له المجالات الصحيحة المتعددة، واكتفت بمبادئ عامة رحيبة تضبط هذا
الشكل سريع التغير بطبيعته دون أن تحد من حركته الصحيحة، ولعله من أجل ذلك
: تعمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يحدد أبا بكر (رضي الله عنه) خليفة
له، على الرغم من فضله على سائر الصحابة.
وأيضاً: نجد الأمر نفسه في (الشورى) قاعدة للنظام السياسي الإسلامي، فهي
واجب لا بد من إقامته، وإن كانت طريقتها لم تحددها النصوص الشرعية أو لم
تقصرها على طريقة واحدة لا تتعداها، ليكون في ذلك سعة ومجالاً لاختيار أمثل
الطرق لإقامة الشورى.
كما أن الاجتهاد يحدد للدولة الإسلامية طريقة تعاملها مع الدول الأخرى من
النواحي المالية والاجتماعية والسياسية في حال السلم والحرب ضمن القواعد
الشرعية والأحكام الأساسية الثابتة، والأمثلة على ذلك كثيرة تعز على الحصر.
ومن نافلة القول أن نؤكد على أن هذه المرونة لا تعني بأي حال من الأحوال
خروجاً على حكم شرعي ثابت سواء أكان كليّاً أو جزئيّاً؛ لأنها محكومة بضوابط
دقيقة، حتى لا يؤدي التطور إلى التشويه والتدهور والخروج على أحكام الله التي
يحتاج إليها البشر، فإن المرونة والتطور يختلفان عن الهدم والانطلاق بلا حدود،
الأمر الذي تتخذه بعض الاتجاهات المعاصرة في الحياة الاجتماعية والقانونية [4] .
ومن هنا يمكن أن نصوغ هذه الخاصية بعبارة تجمع الثبات والمرونة في
سياق واحد مع ضابط ذلك وميزانه، فنقول مع الأستاذ سيد قطب (رحمه الله) : إنها
خاصية (الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت) [5] .
أحكام العلاقات الدولية مقيدة بالمشروعية الإسلامية وقائمة على العدل الحقيقي
تتقيد جميع الأحكام بالمشروعية الإسلامية [6] ، التي تتضمن التضامن في
تنفيذ ما أمر الله به وفيما نهى الله عنه، فقد قال الله (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ثم قال: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى
الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [ال عمران:
104] .
وقال: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ]
[المائدة: 2] .
ومن هنا: تتميز أحكام العلاقات الدولية عنها في ظل القانون الدولي الحديث، حيث تقوم في الإسلام على هذا التضامن، فإن وحدة الأمة الإسلامية التي تسكن
دار الإسلام إنما تظهر فيها أحكام الشريعة الإسلامية، وهذه الوحدة المتماسكة لا
يجوز أن يقوم بينها وبين غيرها علاقة الحرب إلا لأجل إعلاء كلمة الله (تعالى) ،
فلا يجوز أن تشن على سائر البلاد حرباً بقصد الاغتناء الاقتصادي، أو فتح
الأسواق، أو تأمين المواصلات.. أو غير ذلك، وإنما الهدف الوحيد الذي يسوغ
الحرب هو: الجهاد لإعلاء كلمة الله (تعالى) ، ولذلك: قال (عليه الصلاة والسلام)
وقد سئل عن الرجل: يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في
سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [7] .
وتؤدي هذه المشروعية إلى أن تقدم أحكام العلاقات الدولية على العدل الحقيقي بل تهدف إلى تحقيق أعدل سيرة ممكنة للحاكم المسلم في مجال العلاقات الدولية،
وتتنزه عن اعتبارات الأنانية والظلم والصراع على المصالح الذاتية، وحتى في
المعاملة مع الأعداء: لايجوز أن تحملنا العداوة لهم وبغضهم على أن نتنكب جادة
العدل، فإن شريعة الله (تعالى) هي شرعة الحق والعدل المطلق.
وقد أرست الآيات القرآنية هذا الأصل الكبير، فقال (تعالى) : [إنَّ اللَّهَ
يَاًمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً] [النساء: 58] ، وقال (تعالى) : [وَإنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [المائدة: 42] ، وقال (تعالى)
: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ... [المائدة: 8] .
كما حكت الآيات القرآنية واقعة عملية، حيث تنزلت لتبرئ ساحة يهودي اتهم
بالسرقة، بل لتقيم ميزان العدالة الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية،
ويتأرجح مع المودة والشنآن أيّاً كانت الملابسات والأحوال، وأمرت النبي ألا يجادل
عن الذين اتهموا اليهودي بذلك؛ لأنهم يختانون أنفسهم: [إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ... ] [8] .
ثم جاء الواقع التاريخي معَلَماً شاهداً صادقاً على ذلك، والأمثلة تعز على
الحصر، حسبنا منها هنا الإشارة إلى ما سبق من حكم القاضي (حاضر بن جميع)
على جيش المسلمين في الخروج من (سمرقند) بعد فتحها دون إنذار، تحقيقاً لهذا
العدل المطلق، وإلى حادثة أخرى فريدة حين ردّ أبو عبيدة (رضي الله عنه) على
أهل الذمة في بلاد الشام ما جبي منهم من الجزية والخراج؛ لأنه كان قد اشترط لهم
أن يمنعهم ويدافع عنهم، وهو لا يقدر على ذلك؛ لما رأى تجمع الروم، وقال لهم:
إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جُمِّع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا
أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على
الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قال لهم ذلك، وردوا عليهم
الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم
يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لايَدَعوا لنا شيئاً [9] . هذا، بينما
تقوم الدول الاستعمارية في القديم والحديث على (الأنانية) وحب الذات، فتقوم
باستغلال الشعوب الضعيفة واستنزافها، شأنها في ذلك شأن (الأناني) في علاقته مع
الناس، مما يثير الصراع ويفشي الظلم، ويسوغ الغدر، ويبرر الواسطة مهما
كانت بالغاية الأنانية التي تستهدف المصلحة الخاصة مهما كان الضرر الذي تلحقه
بغيرها، وواقع العلاقات الدولية اليوم شاهد ناطق بذلك، وما قضايا المسلمين في
بقاع كثيرة من العالم ببعيدة عنا [*] .