مقال
بقلم: عبد الرحمن بن الحارث البناني
صحيح أنه مرّ بالعالم الإسلامي أزمات بل نكبات كثيرة من قبل، كان
المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض، أو يفقدون أمنهم وطمأنينتهم، أو يفقدون
ديارهم وأموالهم ... ولكنهم مع ذلك لم يخوضوا تجربة أقسى ولا أمر من تجربتهم
المعاصرة في تاريخهم كله؛ فاليوم نحن نعايش في كثير من الديار الجاهلية
المعاصرة التي تشابه الجاهلية الأولى في كثير من الأوجه.
حقيقة الجاهلية:
إن الجاهلية ليست منحصرة فيما كان قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بل قد توجد في مصر من الأمصار، أو توجد في شخص من الأشخاص ولو بعد
البعثة، يقول ابن تيمية (رحمه الله) في بيان (الجاهلية) : (الناس قبل مبعث النبي
-صلى الله عليه وسلم- كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا
عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جهال، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل
ما يخالف ما جاء به المرسلون: من يهودية ونصرانية فهي جاهلية، وتلك كانت
الجاهلية العامة.
فأما بعد ما بعث الله الرسول: فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون
مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل
أن يسلم، فإنه يكون في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام.
فأما في زمان مطلق: فلا جاهلية بعد مبعث محمد، فإنه لا تزال من أمته
طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة.
والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين،
كما قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية ... ) [1] ... ) [2] .
بعض أوجه التشابه بين الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة:
أولاً: أن الدساتير التي تحكم في الجاهلية المعاصرة، مشابهة للدساتير التي
تحكم في الجاهلية الأولى، فكلتا الجاهليتين تحكم بغير ما أنزل الله (عز وجل) .
ففي الجاهلية الأولى تحكم القبيلة بدستور العادات والتقاليد والأعراف الموروثة
عن الآباء والأجداد، يحيا الرجل منهم من أجلها، ويموت من أجلها، ويوالي من
أجلها، ويعادي من أجلها، دون أن ينظر: هل هذه العادات والتقاليد صحيحة أم
بخلاف ذلك؟ ! ! .
يقول أحدهم:
وما أنا إلا من غزية إن غَوَتْ ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
أما في الجاهلية المعاصرة فيتحقق المعنى في كل دولة تحكم بدستور مستمد
من قوانين الشرق والغرب (اللهم إلا في بعض الأمور المسماة بالأحوال الشخصية،
كالأحكام الخاصة بالنكاح والطلاق، أو غير ذلك من أحكام، لتدّعي بذلك أنها دولة
إسلامية) على تباين بين هذه الدول في الأخذ ببعض الأحكام الشرعية، فمقلة
ومكثرة.
ثانياً: لقد اتخذ أهل الجاهلية الأولى أصناماً وأوثاناً يعبدونها، ويعظمونها،
ويذبحون لها من دون الله (عز وجل) ، وقد جعلوا لها سدنة وخدماً يقومون بخدمتها، وهم الكهنة والعرافون، فعظموهم وبجلوهم، فأحلوا ما أحلوا من المحرمات،
وحرموا ما حرموا من المباحات، وتلك هي عبادتهم، وكذلك الشأن في اليهود
والنصارى مع أحبارهم ورهبانهم: حيث أحلوا ما أحلوا من المحرمات، وحرموا
ما حرموا من المباحات، كما يدل على ذلك قوله (تعالى) : [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ.. الآية] [التوبة: 31] ، وفسره
النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم (رضي الله عنه) بأنهم: (أحلوا لهم
الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم) [3] .
أما في الجاهلية المعاصرة فشرك المشركين فيها أعظم من شرك أهل الجاهلية
الأولى؛ لأن أهل الجاهلية الأولى إذا اشتد فيهم الخطب دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركو زماننا إذا اشتد فيهم الخطب دعوا أصنامهم وأوثانهم من دون الله،
ففي زماننا عبدة الأوثان والأصنام والقبور، وإن لم يكن الأحبار والرهبان، فهناك
الطغاة والمتجبرون، ومع ذلك: فتوجد أصنام وأوثان مصنوعة في الجملة، منها:
السلطة، والرئاسة، والجاه، والمال، والعادات، والتقاليد، والأعراف التي
تخالف ما شرع الله (عز وجل) ، والوطنية، والقومية، والاشتراكية، والقومية،
والعلمانية، والوجودية..
فإذا كان حب السلطة والرئاسة و ... إلخ، مدعاة للعبودية لها، والتضحية
بالدين في سبيلها كما هو حال كثير من المسلمين في العالم الإسلامي فهي عندئذ
(وثنية) بلا قناع.
ولكن منها ما هو شرك مخرج من الملة، ومنها ما هو شرك غير مخرج من
الملة، فهو شرك دون شرك؛ على حسب حب واعتقاد صاحبها لها، حقّاً: ... [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ] [يوسف: 106] .
ثالثاً: لقد كان الربا في الجاهلية الأولى قائماً ومنتشراً فيهم، فقد كان المال
والتجارة في أيدي قلة قليلة، وكانوا يتعاملون بالربا؛ فيضاعفون تجارتهم وأموالهم، وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.
وقد كان للربا صورتان رئيستان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة: فقد قال عنه قتادة: إنه ربا أهل الجاهلية، يبيع الرجل
البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء: زاده وأخر عنه، وقال أبو بكر الجصاص: (أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً
بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله (تعالى) .
وأما ربا الفضل: فهو أن يبيع الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة؛ كبيع
الذهب بالذهب، والدراهم بالدراهم، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير ... وهكذا،
وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به.
وأما في الجاهلية المعاصرة: فيتمثل الربا في الديون المؤجلة بفوائد ربوية،
أو في بعض المبيعات المثلية بتفاضل.
وهناك بعض البنوك والمصارف الربوية المحلية في بلاد المسلمين تأخذ ... نسبة من أموال المسلمين المودعة عندهم، فترسلها إلى البنوك والمصارف العالمية؛ لتقوم باستثمارها، ومن ثم: إرجاعها إلى البنوك والمصارف المحلية مع نسبة من الفوائد الربوية، والباقي لهم، قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاًذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] [البقرة: 278، 279] (ياللهول! حرب مع الله ورسوله ... حرب تواجهها النفس البشرية، حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة؟ .. فأين الإنسان الضعيف الفاني من ذي القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟ ! !) .
وهنا سؤال يفرض نفسه: ما هي الاستثمارات التي تقوم بها البنوك
والمصارف العالمية؟ ! ! .
الجواب: تستثمرها غالباً في أعمال غير مشروعة مثل: الأفلام الهابطة،
والصحافة المسفة، والمراقص، والملاهي، والرقيق الأبيض، وسائر الحرف
والاتجاهات التي تحطم الأخلاق.
وكذلك: تستثمرها في زراعة الأراضي والمصانع بشتى أشكالها من مصانع
أسلحة لتدمير الأمم، أو مصانع سيارات، أو مصانع ... ، ومن ثم: تباع هذه
الأسلحة وهذه السيارات وغير ذلك من المنتجات الاستهلاكية إلى البلاد الإسلامية
بأسعار باهظة.
أي: إنهم يأخذون أموالنا ويستثمرونها، ونتاج أموالنا يبيعونه لنا بأغلى
الأسعار؟ ! ! .
نعم هذه هي الحقيقة المرة.
والأمرّ من ذلك: أن جميع البنوك التي تذهب أموالنا إليها والمؤسسات في
أوروبا وأمريكا تستقطع جزءاً من أموالنا للتنصير، وأغرب وأمرّ من هذا كله: أن
عدداً من مبالغ طائلة من أموال أغنياء المسلمين التي وضعوها في البنوك الربوية
تذهب لمساعدة مجلس الكنائس العالمي.. سبحان الله العظيم! ! .
أفبأموال المسلمين يُنْصَرُ أعداؤهم؟ ! ! .
رابعاً: لقد كانت الخمر والميسر في الجاهلية الأولى من تقاليد المجمتع الفاشية، ومن مفاخره كذلك، يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقوله
طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربه وما زل تشرابي ... كميت متى ما تفل بالماء تزبد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
وكانت الدعارة في صور شتى كذلك من معالم هذا المجتمع شأنه شأن كل
مجتمع جاهلي قديم أو حديث كالذي روته عائشة (رضي الله عنها) أن: (النكاح في
الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى
الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها، والنكاح الآخر: كان الرجل يقول لامرأته
إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها
أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها
زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح
الاستبضاع ... ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة،
كلهم يصيبها، فاذا حملت ووضعت، ومرّ ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم
فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي
كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به
ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل ... والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير
فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن
رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها
جُمِعُوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه،
لا يمتنع من ذلك..) [4] .
وأما في الجاهلية المعاصرة فقد تغيرت المسميات فقط، فتوجد وللأسف الشديد
في بعض البلاد الإسلامية دور تُدعى البارات والمراقص، توجد فيها المومسات
والخمور والقمار، ولهذه الدور موظفون وعمال يعملون فيها، وحُرّاس لحمايتها،
وتوضع لها المستشفيات الخاصة للكشف على المومسات لحمايتهن وحماية المجمتع
من الأمراض الجنسية! ! .
كل هذا الاهتمام بهذه الدور لإفساد الشباب من ذكور وإناث، ولأن هذه الدور
من أهم الموارد الاقتصادية! ! فالدولة تأخذ عليها ضرائب، وتأخذ كذلك على
المومسات ضرائب إذا كن يعملن لحسابهن الخاص.
وكذلك من أسباب اهتمام هذه المجتمعات بهذه الدور، اعتقادها أنها من أهم
الأسباب لجلب السياح والمصطافين، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
خامساً: كان لدى أهل الجاهلية الأولى تخلف عقدي، وعدم تصور صحيح
لبعض مفاهيم الإسلام، وذلك ناشئ عن عدم تصديقهم برسالة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وعدم إيمانهم به إيماناً وتصديقاً يؤديان إلى العمل. وأما في المجمتع
الجاهلي المعاصر: فأصبح لدى بعض المسلمين انحراف شديد عن حقيقة الإسلام،
لا في السلوك وحده، ولكن في العقائد كذلك، فأصبح عندهم انحراف عقدي، فهناك
انحراف في مفهوم (لا إله الا الله) أساس الإسلام كله حتى تحولت الشهادتين إلى
مجرد كلمة باللسان، لا علاقة لهما بالواقع، ولا مقتضى لهما في حياة بعض
المسلمين أكثر من أن ينطقوا بها بضع مرات يوميّاً.
والعجب: أن كفار قريش أعرف من بعض المسلمين لبعض مفاهيم الإسلام؛
فهم قد عرفوا معنى (لا إله الا الله) ، وهو: الإيمان بنفي الألوهية عما سوى الله،
ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم والآخر هو: الانقياد التام والتفويض المطلق،
بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم، فضلاً عن غيرهم.
ومعنى ذلك: إلغاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، فقد كان إلغاء السيادة
بالصفة الدينية: امتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة الله ورسوله -صلى الله
علييه وسلم-، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على غيرهم، وعن
السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء.. عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم
تأبى عن قبول هذا الوضع، لا لكرامة وخير [بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ]
[القيامة: 5] .
وعندهم تخلف في مفهوم الدنيا والآخرة الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل
الدنيا مزرعة الآخرة حتى تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلها موضع
التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة
ترك الدنيا، واكتفى منها بالكفاف.
ويجيء الفكر الإرجائي فيواكب هذا الانحراف العقدي المهلك عند بعض
المسلمين، ويتسع تدريجيّاً مع كل تخلف جديد، على أساس قاعدته العظمى (أنه لا
يضر مع الإيمان معصية) والعجيب: أنه قد يكون من هذه المعاصي ما هو كفر وأن
الإيمان هو التصديق، أو هو الإقرار والتصديق، وأن العمل خارج من مسمى
الإيمان!
سادساً: لما ظهر الإسلام في الجاهلية الأولى جوبه بتحديات، وكذلك جوبهت
الصحوة الإسلامية أو قل: اليقظة الإسلامية عند ظهورها في العقود الأخيرة، وهذا
وجه شبه يلمسه كل منصف. والله المستعان