مجله البيان (صفحة 2156)

في دائرة الضوء

جهود الأسلمة وعوائق التقليدية

بقلم: خميس بن عاشور

الاحتواء من الأساليب التي يستخدمها خصوم الحل الإسلامي وذلك بهدف

توظيف قوة الإسلام والمسلمين لأغراض العلمنة وأهداف النظام العالمي الجديد.

والذي نهتم له في هذا الحديث ليس العالم الغربي، وليست الأنظمة والدول العميلة

له، ولكن الذين نقصدهم بالحديث هم أولئك الذين يعملون من أجل إرجاع الإسلام

إلى مكانته في مجتمعاتهم ودولهم وتخليصها من هذا الجمود الفكري، وفي إطار هذا

الاحتواء أصبح كثير من العلماء والدعاة يستمرئون وضعهم، ويطمئنون إلى عدوهم، بل صاروا من العناصر التي تسهم في تلك الجهود من خلال المشاركة في إثراء

القضايا المطروحة لخدمة النظام العالمي، وتجاهَلوا قضايا الإسلام الأساسية،

وواجب العمل من أجل تحقيقها، وما يتطلبه ذلك من قوة تغييرية كبيرة من أجل

كسر تلك الحواجز المادية والمعنوية التي تكونت في فترات هجران تطبيق الشريعة

والتفريط في سلطة التنفيذ التي هي شرط لهذا التطبيق.

قال الماوردي: (فليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه وطُمست

أعلامه) [1] . إن من أسباب هجر الشريعة وعدم التفكير في تطبيقها: إقصاءها من الواقع، وهذا ما كرس مقولة عدم صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر، فالضرورة إذن تبدو ملحّة لتكوين قوة معنوية كبيرة تسهم في تحطيم هذه الحواجز، التي نشأت في زمن القوانين الوضعية الظالمة داخل مجتمعاتنا ودولنا.

إن أولئك الذين لا يزالون يبحثون عن صيغة اجتهادية لعرض الحل الإسلامي

كان حريّاً بهم أن يراجعوا حساباتهم ويقرؤوا قوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] . فالإسلام قد

كمل وتم، ولم يبق إلا تطبيقه تطبيقاً شرعيّاً حسب مقتضيات كل عصر دون

المساس بالثوابت الاعتقادية والتشريعية، ومن المفيد إزالة تلك العقدة التاريخية لدى

كثير من المثقفين المسلمين والدعاة؛ التي تتمثل في المشاعر الأبوية نحو الدعوة،

فحماية الدعوة قبل أن تكون بالأشخاص يجب أن تكون بالمبادئ التي شرعها الإسلام، فالمبادئ هي التي يحتمي بها الأشخاص وليس العكس صحيحاً؛ لأن التنازل عن

هذه المبادئ لحجة مصلحة هذه المبادئ هو (الإهانة المهذبة) لها! ! .

إن كثيراً من المدائح التي قيلت في مزايا الشرع الإسلامي بعد سقوط الخلافة

إنما هي في الغالب عمليات دفاعية سببها الانبهار والشلل الحضاري، وبسبب

المعاناة التي يتعرض لها دعاة الإسلام ودعاة تطبيق الشرع؛ فإن كثيراً منهم يميلون

نفسيّاً نحو استصعاب تحقيق الحل الإسلامي، ومع ذلك فلا يمكنهم التملص من

واجب العمل على إرجاع سلطة التنفيذ التي هي شرط للتطبيق كما سبق. وتطبيق

الحكم يجب أولاً كما يراه المحققون من الفقهاء والأصوليين لعلة أولى هي الامتثال

لأمر الله (عز وجل) ، أما إدراك المقصد أو الحكمة فليس ذلك شرطاً في تطبيق

الحكم، وذلك لأن إدراك المقصد عمل اجتهادي يقوم به عقل المجتهد الذي قد

يصيب وقد يخطئ، ولذلك فلا يعلّق التطبيق على إدراك المقصد أو الحكمة؛ لأن

كل ذلك متحقق دون ريب بعد تطبيق الحكم.

سؤال يطرح نفسه:

ولو سُئلنا ذلك السؤال التقليدي، وهو: كيف نطبق الحدود مثلاً والأمة غير

مؤهلة ومستعدة لذلك؟ فالجواب: شرط التهيؤ والاستعداد هو تطبيق هذه الحدود

فعلاً، وسوف تتهيأ بإذن الله، ولنا أن نقول: إن الحدود من حقوق الله التي لا تنفع

فيها شفاعة ولا عفو، فمن خوّل لنا التعطيل لحكم هو من حقوق الله (عز وجل) ؟ ،

إنه لا يمكننا مطلقاً أن ندعي أننا أكثر رحمة من الله نحو العصاة والمذنبين، ولذلك

فإن التردد في فعل الخير ليس من ورائه خير، وإن منهج التطبيق في الإسلام لا

يحتاج إلى بيان أفصح وأوضح من السير فيه قدماً. وعندما ننطلق من عمق الأزمة

من أجل البحث عن حلول موضوعية فإننا لا نجني سوى الخيبة والنتائج الفاسدة،

وكذلك فإن الانطلاق من واقع التقليد بمفهومه الأصولي الفقهي وحتى بمفهومه

السياسي [2] لا تكون الثمرة والنتيجة منه إلا تقليداً مركّزاً، سِمَتُهُ الأساسية:

التدليس والتمويه والعيش في ظلال الوهم، الذي يعتبر عاملاً رئيساً في عملية الهدم

الفكري الذي تعيشه بعض العقليات المذهبية والفعاليات الإسلامية اليوم.

إن النظر في مجالات الشرع يفتقد عند مثل هذه الفئة إلى البعد المستقبلي الذي

وضعه الشارع الحكيم؛ أي إن بعض الصفات التي تميز العملية التشريعية شبه

منعدمة في نفس هذا المنظور الضيق؛ فالله (عز وجل) عندما وضع هذه الشريعة

وأرسل بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إنما فعل ذلك بعلمه بما كان وبما هو

كائن، أي: إن البعد المستقبلي لعملية التشريع الإلهية يجب أن نضمنها عملية فهمنا

للإسلام عقيدة وشريعة، وذلك من أجل ألا نقع فيما هو تقديم بين يدي الله ورسوله،

وكذلك حتى لا نقع في اجتهاد هو في مقابلة نص صحيح بالنسبة لمجال التشريع،

أو أن نجتهد لإيجاد عقيدة بديلة عن عقيدة الوحي الإلهي كالذي اقترفته مدرسة

التأويل قديماً وحديثاً.

إن فرض الإسلام على الواقع هو الذي يقضي على تلك المحاولات المنحرفة

لفرض الواقع على الإسلام لأن منهج الإسلام تغييري النزعة، وهذا يدل على أنه لا

يقبل المواجهة إذا كانت بدافع سد الثغرات وتعويض النقائص، بالإضافة إلى أن

المصدرية الإلهية للإسلام لا تقبل إلا أن يكون الإسلام فوق الجميع، وقديماً قال

الشاعر:

إذا غامرت في شرفٍ مروم ... فلا تقنع بما دون النجومِ

فَطَعْم الموتِ في أمرٍ حَقيرٍ ... كَطَعْمِ الموتِ في أَمْرٍ عظيمِ

وكما سبقت الإشارة إليه، فإن التقليد الذي يحاول أصحابه إلباسه لباس

الإصلاح والتجديد، إنما هو الداء العضال الذي يجب إزاحته من ميدان العمل نحو

إرجاع الشرعية للعمل الإسلامي وترشيده، حتى لاينحرف عن منهج الرسالة

الإسلامية التغييري، الذي من شأنه أن يُحوّل ما أمر الله ورسوله بتحويله من

عادات الأمم وتقاليدهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وإن هذه العملية الانتقائية للتفكير

والسلوك هي التي من شأنها وضع الأسس والخصائص التي يجب أن تميز المجتمع

الإسلامي العالمي من غير تمييز بين الأجناس والشعوب؛ وذلك حتى لا تصبح

النظرات الضيقة للمجتمع الإسلامي عائقاً في وجه الرجوع الميمون نحو الإسلام ديناً

ودولة، وحتى لا تصبح القومية والوطنية وجهاً من وجوه الانغلاق نحو الذات،

وبالتالي بروز النظام القبلي والعشائري في أقنعة جديدة تخفي وراءها معالم

(الأرستقراطية) التي لا تقبل التغيير، ومع ذلك: فإنه لا يمكننا أن ننكر اعتراف

الإسلام بالخصائص والفروق بين الأفراد والمجتمعات؛ لأن الشارع الحكيم قد

راعى ذلك أثناء عملية التشريع؛ قال الله (تعالى) : [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ] [الروم: 22] .

إن هذه النزعة التقليدية بالنسبة لنا نحن المسلمين لها جذور دينية، وهي

تهدف إلى المقاصد نفسها التي تتركز أساساً فيما يسميه بعضهم بـ (الآبائية) [3]

التي ترفض التغيير وتتمسك بالتقليد، هذا التقليد الذي يعرفه الأصوليون بأنه:

(قبول قول الغير من غير معرفة دليله) [4] ، أو هو (قبول قول بلا حجة، وليس

ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع) [5] وقد نهى القرآن الكريم

المسلمين عن أن يَقْفُوا ما ليس لهم به علم، قال (تعالى) : [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ

بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء: 36] .

والتقليد في أمور الدين هو الأخطر؛ لأنه يسهم في مزاحمة المصدر الحقيقي

للشرع الذي هو الوحي الإلهي (كتاباً وسنة) ، وهنا يمكننا أن نطرح سؤالاً لنجيب

عليه، وهو: لماذا لا يريد المسلم أن يترك دينه على الرغم من أنه في كثير من

الحالات لا يلتزم به سلوكاً وتفكيراً؟ والجواب يمكن أن يكون كما يلي: إن تلك

الآبائية على الرغم من سلبياتها وخطرها هي التي حافظت على هذا الانتماء الذي

ترسخ عبر الأجيال ليصبح عادة وتقليداً، ورغم أن هذا التقليد وهذه العادة لا تدفعنا

إلى التشكيك في هذا الانتماء مثلما يفعله أهل النظر وأهل الكلام إلا أننا سنتخذ

هذه الآبائية نقطة للانطلاق الذي سيرتكز على العلم وعلى الاتباع.

إن البحث عن الحلول من خارج الموضوع أي الإسلام لا يمكن أن يقود إلى

نتيجة سارة بلا ريب، فلقد ذمّ الإسلام التقليد بينما حث على العلم وعلى الاتباع

للوحي.

إن عدم معرفة المسلم دليل السلوك والاعتقاد هو الذي أحال التدين إلى عادات

وتقاليد فاقدة لصيغ الاقتناع؛ لأنه لا يمكن أن يقتنع المسلم بدينه إلا إذا كان هذا

الدين مدلّلاً عليه، وحينئذ ستنبعث الروح والحياة في تلك التقاليد والعادات لتصبح

عملاً مثمراً وعبادة خالصة يجني من ورائها المسلم ثمار التزكية والعمل الصالح،

وإنما يتم ذلك بمعرفة أدلة السلوك والاعتقاد الشرعية من مظانها ومصادرها.

إن هذه العملية التي تهدف إلى تغيير جذري في منهج الاعتقاد والعمل هي

التي يمكن أن نطلق عليها إصلاحاً وتجديداً فعلاً، ومع ذلك فإن هذه العملية

ستصطدم بعوائق التقليدية والآبائية، ولكن سرعان ما ستنهار هذه العوائق لسبب

يسير، وهو: أنها لم تكن مشيدة إلا على الأوهام والأباطيل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015