متابعات
هل يستحق نجيبب الكيلاني أن يكون رائداً؟ !
بقلم:محمد الدوسري
لقد قرأت في العدد 92 (ربيع الثاني 1416هـ) ، مقالة تتحدث عن (نجيب
الكيلاني) بصفته رائد القصة الإسلامية المعاصرة! . وكثيراً ما أتوقف وأتعجب عند
مثل هذه المقالات التي تتحدث عن هذا الرجل، ومما يزيد في عجبي أن أهلها لا
يتورعون عن إطلاق صفات: الكاتب الكبير، الرائد.. إلخ، على نجيب الكيلاني
(رحمه الله) ، ويتغاضون بشدة عن سقطاته التي لا تكاد تخلو منها قصصه
ورواياته! ، بل إن أحدهم قال في أحد مهرجانات الجنادرية المقامة في الرياض: إنه يطمأن على أولاده تمام الاطمئنان إذا قرؤوا روايات الكيلاني! ، وأخذ يكيل له الشكر كيلاً وافراً! .
وكتابتي لهذا التعقيب ليست اعتراضاً على الاحتفاء بالرجل، ولكنها رجاء
موجه للأدباء الإسلاميين وخصوصاً مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي أن ينحوا
العاطفة جانباً، ويتأملوا الأمر مليّاً؛ فَلَكَمْ ولَكَمْ عانى العمل الإسلامي من الانسياق
وراء العاطفة، ووضع الأشخاص فوق مكانتهم الحقيقية، والذي نرجوه من إخواننا
الأدباء هو: أن يضعوا الأمور في نصابها؛ فنجيب الكيلاني هذا كان يضَمّن
رواياته مشاهد جنسية يخجل المسلم من قراءتها، ولكن يبدو أن بعض الأدباء
الإسلاميين (سامحهم الله) قد تأثروا تأثراً غير مباشر بالروايات الحديثة التي لا
تتعفف عن إقحام الجنس في ثنايا القصة، فأصبحوا لا يرون ضيراً في هذا الأمر!، وقد قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
ولَكُم أن تتخيّلوا ماذا يقع في حس المراهق، وهو يرى بطل رواية (ليالي
تركستان) لـ (نجيب الكيلاني) ، لا يفتأ يضم ويُقَبّل عشيقته! ، ولو أن المؤلف
ينبهه إلى أن هذا الأمر محرم لكان أهون، ولكنه لم يفعل؛ فماذا تتوقع أخي القارئ
أن ينمو في حس المراهق: حب الفضيلة، أم حب الرزيلة؟ ! .
ولقد أمسك بي أحد الإخوة، وقال: (يا أخي كيف تقولون: إن نجيب
الكيلاني أديب إسلامي، وأنا قرأت له رواية (رأس الشيطان) ، فوجدت فيها من
المشاهد ما يندى له الجبين) ، ولقد حرت جواباً في البداية، فلم أدر ما أقول،
ولكني تداركت نفسي وذكرت له بأن الرجل أخطأ، وكان يتوجب عليه أن يرتفع
بمستوى القصة عن هذه القذارات، فلا يكفي أن تكون روايته يدور رحاها حول
موضوع إسلامي.
ويجب على أدبائنا الإسلاميين، أن يكونوا على شجاعة حقيقية وواقعية في
التعامل مع جميع الأدباء؛ فلا يعطوا أحداً أكبر من حقه، ولا يزنوا الحق بالرجال؛ فإذا تكلموا عن نجيب الكيلاني، فيجب أن يذكروا أخطاءه وبوضوح كامل؛ فخطأ
الرجل في تضمينه المشاهد المخلّة بالأدب أمر ليس بالهيّن، فالرسول صلى الله
عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً. ونجيب الكيلاني لا يرى بأساً في إقحام
المشاهد الجنسية في ثنايا الرواية، فهو يقول: (.. وإذا كان الزنا صورة الجنس
المنحرف الحرام وباءً خطراً، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير؛ وما
يصاحبه من مقدمات وإغراءات وسقوط؟) [1] .
فهو كما نرى لا يمانع أن يتناول مقدمات الزنا، والإغراء، والسقوط! ، مع
أنه يذكر أن (الأدب الإسلامي حينما يحتفي بقضايا المجتمع والعصر فإنه ينهج نهج
القرآن الكريم، وأحاديث نبينا المختار، صاحب الرسالة العظمي صلى الله عليه
وسلم) [2] ، وأورد دليلاً: قصة يوسف (عليه السلام) ، ولكنه للأسف لم ينضبط
بهذا الضابط، فالقرآن في قصة يوسف (عليه السلام) ، والسنة في قصة عابد بني
إسرائيل الذي أغراه الشيطان بالزنا، لم يتناولا الجنس بالطريقة التي فهمها نجيب
الكيلاني وحاول إقناعنا بها! .
ونجيب الكيلاني لا يرى بأساً من ظهور المرأة على المسرح! ، معللاً ذلك
بالتعليل التالي: ( ... لأن هناك قضايا وأموراً حساسة لا يمكن أن تقدم إلا من
خلال المرأة، فضلاً عن أن (وضعية) المرأة في المجتمع وما يلابسها من محاذير
وحرج وسلبيات، لا يمكن تناولها إلا بالتواجد المباشر للمرأة) [3] ! . ومشكلة
نجيب الكيلاني ومعظم أدبائنا، هي أنهم لم يحاولوا الانعتاق من أسر الأشكال الأدبية
الغربية؛ فمن الذي قال بضرورة المسرح في الأدب الإسلامي؟ ! ، ففيما عداه
غنية وفضل؛ ثم: لماذا لا يقوم الأديب المسلم الملتزم بمعالجة مشكلة ظهور المرأة
إن كان ولا بد من مسرح فيبدع لنا مسرحية تتطرق لقضايا المرأة بدون ظهورها
على المسرح؟ ! ! .
وفي تاريخنا خير مثال على ذلك، فلقد قام الفنان المسلم المتقدم باستبدال
التصاوير المحرمة، بالخط العربي والنقوش الإسلامية.
ورجاؤنا الحار من الأخوة الأدباء الذين أخذوا على عواتقهم مهمة تقديم أدب
إسلامي متميز خاصة أعضاء رابطة الأدب الإسلامي أن يؤطروا الأطر التي
تتناسب مع إسلامنا فعلاً، وأن تكون أسس وبدايات جهودهم وتنظيرهم، ونقدهم،
وإبداعاتهم، مستمدة (بكاملها) من الإسلام؛ فلا نرضى بأن يقدموا لنا كلاماً فاحشاً،
ثم يقولوا لنا: هذا أدب إسلامي! ، أو يقدموا لنا قصة أو رواية تتخللها انحرافات
عقدية، ثم يقولوا لنا: هذا إبداع من إبداعات الأدب الإسلامي! .
ونرجو منهم أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم، ومع غيرهم من الأدباء، فلا
تكون المجاملة هي الفيصل في تقرير إبداع هذا الكاتب أو ذاك، وأن يتقوا الله في
إخوانهم المسلمين، وليقدموا ما يعكس روح دينهم، وينفع أمّتهم، ويرسخ في أبنائها
حب الله ورسوله ثم حب الفضيلة.
تعقيب الكاتب
بعد ورود وجهة نظر الأستاذ محمد الدوسري حول الموضوع، عرضناها
على الكاتب الأديب الناقد محمد حسن بريغش، فكتب التعقيب التالي:
لقد تفضل الأخ الكريم بالكتابة عن نجيب الكيلاني (رحمه الله) ناصحاً ومحذراً
الأدباء الإسلاميين والنقاد: ألاّ يطلقوا صفات الريادة والمديح، وألا يُؤْثروا المجاملة
في نقدهم، وألا يتغاضوا عن الانحرافات والأخطاء عند الكيلاني وغيره، وألاّ
ينساقوا وراء العاطفة في تقويم الأشخاص، فيضعوا الأشخاص فوق مكانتهم.. إلخ.
وذكّرهم بمسؤوليتهم أمام الله (عز وجل) ، لكي يقدموا ما يعكس روح دينهم
وينفع أمتهم، ويرسخ في أبنائها حب الله ورسوله ثم حب الفضيلة.
وأشكر الأخ الكريم الذي عقّب على ما كتبتُه عن نجيب الكيلاني في العدد
(?) من مجلة (البيان) ، ولقد كانت غيرته على دينه، وخوفه على شباب الأمة
من الانحراف، وحماسته في الصّدع بالحقيقة باعثاً لهذا التعقيب، فجزاه الله خيراً،
وله منا الشكر.
أما اعتراضات الأخ فلها ما يبررها، ولكنه وقع في مبالغات وأحكام متعجلة؛
لأن ما نُشر في البيان عن الكيلاني (رحمه الله) لم يقع في إطلاق الأحكام العاطفية،
بل حدد بشكل دقيق ومختصر مكانة الكاتب وظروفه، وحدد بعض الأسباب التي
دفعت الكيلاني لمجاراة كتاب القصة.
ولذلك قلت فيما كتبت: (وهذا يؤكد بأن الكيلاني كان في بداياته القصصية
معنيّاً بترسيخ قدميه، وتقديم نفسه بوصفه كاتب قصة مصريّاً يجيد كتابة الرواية،
ويقف مع كتّاب القصة الآخرين: (نجيب محفوظ، وباكثير، والسّحار، وعبد
الحليم عبد الله، والشرقاوي، ويوسف إدريس.. وغيرهم) ولهذا: لم تكن قصصه
الأولى تختلف عن قصص غيره إلا في نسبة مشاركة المرأة والجنس في
القصة..) [4] .
وقلت أيضاً: (وتأرجح بين الرضوخ لتقاليد القصة الغربية والالتزام بالتصور
الإسلامي للقصة) [5] .
ووضّحت سبب تأرجحه في ذلك، وأشرت إلى أن هذه الظاهرة تثير لدينا
قضية مهمة، تبدو عامة عند كثير من الأدباء والكتاب الذين يتحدثون عن الأدب
الإسلامي؛ وهي: فقرهم في الزاد الشرعي، وتأثرهم بالفكر الغربي) [6] .
ولكن ذلك كله لا يمنع من الاعتراف للرجل بريادته في مجال القصة
الإسلامية، وإسهاماته في مجال الأدب الإسلامي، فالريادة لا تعني الإصابة؛ لأن
الرائد هو من يتقدم القوم ليبصر لهم مواطن الكلأ ومساقط الغيث [7] ، فهو سابق
للناس يستطلع لهم، ويخبرهم، وقد يخطئ وقد يصيب. والكيلاني كان يخوض
غمار التجربة وسط جو يعج بالهيجان السياسي والفكري، ويمتلئ بالأفكار المعادية
التي تهيمن على الساحة، ولا يستطيع كاتب التعقيب أن يتصور مثل هذه الأجواء
المليئة بالفتن، ووسط ذلك الجو بدأ الكيلاني يكتب حينما كان الآخرون يتهيّبون من
كلمة إسلام، فهو رائد حقّاً في هذا المجال، اجتهد فأصاب وأخطأ، وحينما نتحدث
عنه لا نغض الطرف عن أخطائه، ولا تأخذنا العاطفة في إطلاق الأحكام، ولكننا
أيضاً لا نقع بالمقابل في الغلو فنرفض كل شيء منه؛ لأنه أخطأ هناك وأصاب هنا.
لقد كتبت عن الكيلاني منذ وقت مبكر، وكنت صريحاً وواضحاً في الكشف
عن هذه الأخطاء في كتابين خاصين بالقصة [8] ، بل وكان الرجل (رحمه الله) من
أحسن من يستمع إلى نقد ناقديه، ويتقبل نصيحة إخوانه، ويصغي إلى أصحاب
الرأي الآخر من قراء أدبه والنقاد.
ولهذا نلتمس له العذر، ونسأل الله له الرحمة، ونبين أخطاءه برفق وعدل،
ولا نبخسه حقه من المميزات التي يستحقها عن جدارة.
وكذلك فإن لكل فن شروطه وأجواءه، شريطة ألا يخرج عن الإطار الشرعي: أي دائرة الحلال المباح، ولا ينفع في إطلاق الأحكام العامة أن نطبق أخلاق
العابد الزاهد على كل المسلمين، فربما كانت فضائلهم نوعاً من الإسراف والتبذير
والإساءة عند مثل هذا الرجل الزاهد.
وأخيراً: فللأخ الشكر كله على غيرته، ونرجو الله (عز وجلّ) أن يقوي من
عزيمة المسلمين لارتياد مجالات الحياة بإيمان وصدق وشجاعة لتقديم الخير للناس،
وإعطاء الصورة الصحيحة للحياة بعامة، والأدب بخاصة، وكما يريدها لنا رب
العالمين (سبحانه وتعالى) .