دراسات قرآنية
تفسير الصحابة للقرآن
- الحلقة الأولى -
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
بدأ الكاتب هذه السلسلة بالحديث عن مصادر التفسير، وبين المقصود بها، ثم
تحدث عن تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، محرّراً المصطلحات وذاكراً نماذج
من النصوص المندرجة تحتها، وحديثه في هذه الحلقة وما بعدها عن تفسير
الصحابة (رضي الله عنهم) .
- البيان -
الصحابة (رضوان الله عليهم) خِيَرَةُ الله (سبحانه) لرسوله -صلى الله عليه
وسلم-، جعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، وهم أرقّّ
الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأبعدهم عن التكلف، حفظ الله بهم الدين، ونشره بهم
في العالمين، وكانوا في علمه بين مُكْثرٍ ومُقلّ.
قال مسروق: (لقد جالست أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدتهم
كالإخاذ (الغدير) ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي
العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت
عبد الله ابن مسعود من ذلك الإخاذ) [1] .
ولِما كان لهم من الصحبة والقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ومعرفة أحواله، فإن لأقوالهم تقدّماً على غيرها عند أهل العلم، فتجدهم يعتمدون
عليها في بيان الدين، ويتخيّرُونَ من أقوالهم إذا اختلفوا، غير خارجين عنها إلى
غيرها [2] .
هذا، وقد تميّزت أقوالهم بالعمق من غير تكلّف، ومن نظر في تفسيراتهم
ووازنها بأقوال المتأخرين عَرَفَ صدق هذا القول.
ولقد كان من أبرز مَنْ أظهر هذه الفكرة، وبيّن ما للصحابة من مزيّة في
عباراتهم التفسيرية الإمامُ ابن القيم في كتبه، ومن ذلك قوله: ( ... فعاد الصواب
إلى قول الصحابة، وهم أعلم الأمّة بكتاب الله ومُراده) [3] .
أهمية تفسير الصحابة:
وقد ذكر العلماء أسباباً تدلّ على أهمية الرجوع إلى تفسيرهم، وهذه الأسباب
كالتالي:
1- أنهم شهدوا التنزيل، وعرفوا أحواله:
لقد كان لمشاهدتهم التنزيل، ومعرفة أحواله أكبر الأثر في علوّ تفسيرهم
وصحته، إذ الشاهد يدرك من الفهم ما لا يدركه الغائب.
وفي حجيّةِ بيان الصحابة للقرآن، فيما لو اختلفوا، قال الشاطبي: (وأما
الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة، فهم أقْعَدُ في
فَهْمِ القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب
ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييدُ بعض المطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات،
فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن
خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية) [4] .
ومعرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن؛ لأن الجهل بأسباب
النزول مُوقِعٌ في الشّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورِدَ الإجمال حتى
يقع الاختلاف.
وإنما يقع ذلك؛ لأن معرفة أسباب النزول بمنزلة مقتضيات الأحوال التي يُفْهَمُ
بها الخطاب، وإذا فات نقل بعض القرائن الدّالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيءٍ
منه.
ومعرفة أسباب النزول رافعة لكل مشكلٍ في هذا النمط، فهي من المهمات في
فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى مقتضى الحال [5] .
إن ممّا يدلّ على ما سبق من الكلام: ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (أُتيَ برجلٍ من المهاجرين الأولين وقد
شرب الخمر فأمر به عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟ ! بيني وبينك كتاب الله،
قال: وفي أيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ .
قال: فإن الله (تعالى) يقول في كتابه: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا..] [المائدة: 93] ، فأنا من الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق،
والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟
فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذراً للماضين، وحجّة على الباقين،
عذراً للماضين؛ لأنهم لَقُوا الله قبل أن حرّم الله عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛
لأن الله يقول: [.. إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ..] [المائدة: 90]
[المائدة: 90] . حتى بلغ الآية الأخرى) [6] .
فانظر كيف خفي على هذا البدريّ (رضي الله عنه) حكم هذه الآية لمّا لم يكن
يعلم سبب نزولها؟ وكيف لم تكن مشكَلة عند من علم سبب نزولها؟ فنزلها منزلتها، وبيّن معناها.
2- أنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن:
يقول الشاطبي في بيان أهمية معرفة الأحوال في التفسير: (ومن ذلك:
معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم
يكن ثَمّ سبب خاص، لا بدّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في
الشّبه والإشكالات التي يتعذّر الخروج منها إلا بهذه المعرفة) [7] .
أ -ومن الأمثلة التي تدلّ على أهمية معرفة أحوالهم في التفسير: ما رواه
البخاري في تفسير قوله (تعالى) : [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..] [البقرة: 198] عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كانت عُكاظٌ ومجنّةٌ
وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثّموا أن يَتّجِروا في المواسم، فنزلت [لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..] في مواسم الحج) [8] .
أ- ومثله ما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنهما) قالت: (كانت
قريش ومن دَانَ دينها يقفون المزدلفة، وكانوا يسمّون الحُمْسُ، وكان سائر العرب
يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي
عرفات، ثُمّ يقفَ بها، ثُمّ يُفِيِضَ منها، فذلك قوله (تعالى) : [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ..] [البقرة: 199] [9] .
أ- ومثله ما رواه البخاري عن ابن المنكدر، قال: (سمعت جابراً (رضي الله
عنه) قال: كانت اليهود تقول: (إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت
[نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..] ) [10] .
3- أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن:
لما كان القرآن نزل بلغتهم، فإنهم أعرف به من غيرهم، وهم في مرتبة
الفصاحة العربية، فلم تتغيّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا في الفصاحة،
ولذا فَهُم أعرف من غيرهم في فهم الكتاب والسنة، فإذا جاء عنهم قول أو عمل
واقع موقع البيان صحّ اعتماده من هذه الجهة [11] .
كما أن ما نقل عنهم من كلام أو تفسير فإنه حجّة في اللغة، وفيه بيان لصحّة
الإطلاق في لغة العرب، قال ابن حجر: (استشكل ابن التين قوله [12] : (ناساً
من الجن) من حيث إن الناس ضدّ الجنّ.
وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من نَاسَ: إذا تحرك، أو ذُكر للتقابل،
حيث قال: (ناس من الناس) ، (وناساً من الجن) ويا ليت شعري، على من
يعترض؟ !) [13] .
4- حسن فهمهم:
إن من نَظَرَ في أقوال الصحابة في التفسير متدبراً لهذه الأقوال، ومتفهماً
لمراميها، وعلاقتها بتفسير الآية، فإنه سيتبيّن له ما آتاهم الله من حسن البيان عن
معاني القرآن، من غير تكلّفٍ في البيان، ولا تعمّق في تجنيس الكلام، بل تراهم
يُلْقون الألفاظ بداهة على المعنى، فتصيب منه المراد.
وكان مما عزّز لهم حسن الفهم: ما سبق ذكره من الأسباب التي دعت إلى
الرجوع إلى تفسيرهم من: مشاهدة التنزيل، ومعرفة أحوال من نزل فيهم القرآن،
وكونهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن، مع ما لهم من معرفة بأحوال صاحب
الشريعة -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يعينهم على فهم المراد وحسن الاستنباط، قال ابن القيم: (قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم
طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين
حديث مسند) [14] .
وقال في موضع آخر من كتابه: (هو عندنا في حكم المرفوع) [15] .
وهذا وإن كان فيه نظرٌ، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم،
فهم أعلم الأمة بمراد الله (عز وجل) من كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب
به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول -صلى الله عليه وسلم- علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يُعدَلُ عن تفسيرهم ما وجد إليه
سبيل) [16] .
إن هذه المزيّة تُوجِبُ على دارسِ التفسير أن يرجع إلى أقوالهم، وأن يَفْهَم
تفسيراتِهم، ليَعْتَمِد عليها في التفسير، ويبنيَ عليها مسائل الآيات وفوائدها.
غير إن كثيراً ممن يَدْرُسُ التفسير أو يُدَرّسُه لا يهتم بإيراد أقوال
الصحابة [17] ، وكثيراً ما تراه يكتفي بأن ينسب التفسير إلى المتأخرين من المفسرين كالزجاج والزمخشري وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وابن كثير ... وغيرهم.
إن في هذا المسلك ما يقطعُ على طالب العلم شرف الوصول إلى علوم هؤلاء
الصحابة وأفهامهم، بل قد يجعله ينظر إلى أقوالهم نظر المقلّلِ من شأنها، ويرى أن
تفسيراتهم سطحيّة، لا عمق فيها، ولا تقرير! ! .
وهذا خطأ مَحْضٌ، ومجانبة الصواب، وإنما كان سبيل أهل العلم الراسخين
فيه أنهم (يتكثّرون بموافقة الصحابة) ، وانظر كم الفرق بين أن يُقال: هذا قول ابن
عباس في الآية، أو يقال: هذا قول الزجاج أو ابن عطية أوغيرهم في الآية.
فانظر إلى ما ستميل إليه نفسك؟ ، وأي قول سيطمئن له قلبك؟ .
5- سلامة قصدهم:
لم يقع بين الصحابة خلافٌ يُؤَثّر في علمهم، بحيث يوجّه آراءهم العلمية إلى
ما يعتقدونه، وإن كان مخالفاً للحق، بل كان شأن الخلاف بينهم إظهار الحق، لا
الانتصار للنفس أو المذهب الذي ذُهِبَ إليه.
لقد ظهر خلاف أمرهم في الخلاف فيمن بعدهم من أصحاب العقائد الباطلة؛
كالخوارج، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، فظهر في أقوالهم مجانبةُ
الحق، وكثر الخلاف بسبب كثرة الآراء الباطلة، مما جعل القرآنَ عُرضةً
للتحريف والتأويل، إذ كلّ يصرفه إلى مذهب، وهذا مما سلم منه جيل الصحابة،
فلم يتلوّث بمثل هذه الخلافات.
ولهذا جاء تفسيرهم بعيداً عن إشكالات التأويل، وصرف اللفظ القرآني إلى ما
يناسب المذهب، أو غيرها من الانحرافات في التفسير.