مقال
مسألة القدر المشترك
من خلال كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية
وأثرها في الإيمان بالغيب
بقلم: سامي السويلم
مما فطر الله عليه الخلق: القدرة علي الجمع بين المتشابهات، والتفريق بين
المتغايرات؛ فالطفل مثلاً: يدرك أن أباه (رجل) ، كما أن عمه كذلك، وإمام
المسجد كذلك،.. وهكذا، لكنه يدرك أيضاً إن أباه ليس عمه، وليس إمام الحي،
أي إن الأب والعم والإمام يشتركون في بعض الخصائص، كالرجولة، لكنهم
يختلفون في أشياء كثيرة. ولفظ (رجل) يقتصر على معنى يشترك فيه هؤلاء، أي: على (قدر مشترك) بينهم.
ومن زار مكة وطيبة والرباط يجد قواسم مشتركة بين هذه المدن، وبموجب
هذا الاشتراك نطلق على كل منها لفظ (مدينة) ، فهذه مدينة الرباط، ومدينة مكة،
ومدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع أننا ندرك جيداً الاختلاف الكبير بين
هذه المدن؛ فلفظ (مدينة) إذن يشير إلى معنى موجود في كل من هذه المدن الثلاث، وإن اختلفت فيما بينها، حتى في درجة المدنية وتطورها.
ونحن نرى الثلج فنجده أبيض، ونرى السحاب والبيض، فنجد كل واحد
منهما أبيض، مع أن بياض الثلج يختلف عن بياض السحاب، عن بياض
البيض،.. وهكذا. أي إن لفظ (أبيض) يدل على معنى مشترك بين صفة البياض في هذه الأشياء، وإن تفاوت مقدار هذا المعنى من شيء إلى آخر.
من الأمثلة المتقدمة نستنتج أن الله (تعالى) وهب العقل البشري قدرة فذة على
إدراك أوجه الشبه بين أشياء متغايرة ومتباينة، كما ألهمه استعمال ألفاظ تسمى:
(الألفاظ المتواطئة) تشير إلى المعاني المشتركة، دون أن يستلزم ذلك انتفاء المغايرة
أو التفاوت بين ما تطلق عليه هذه الألفاظ، فهذه المعاني المشتركة هي ما يسمى:
(القدر المشترك) ، ويسمى التفاوت الحاصل: (القدر المميّز) ، وهذه القدرة، التي
تبدو لنا بدهية، هي في نظري خاصة بديعة، تشهد لخالقها بالعظمة والجلال.
إن هذه المقدمة البدهية، التي قد لا يجد القارئ لأول وهلة جديداً فيها، تمثل
أساساً مهمّاً تصاغ من خلاله عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد العلم والقول،
وكون القارئ لا يجد فيها جديداً يؤكد انفراد عقيدة أهل السنة والجماعة بالجمع بين
اليسر والعمق.
توظيف القدر المشترك في إدراك الغيب:
فالإنسان يستطيع أن يستخدم هذه الخاصية في إدراك أشياء لم يرها قط، ولم
يعاينها من ذي قبل: فإذا سمع الطفل مثلاً عن (رجل) ينظم سير السيارات يسمى
(رجل المرور) ، أدرك شيئاً من صفاته، وإن لم يكن قد رآه من قبل، وإن لم
يستوعب صفته كما يستوعب صفة أبيه وعمه وإمام المسجد؛ فهو يدرك أن رجل
المرور فيه شبه من أبيه وعمه وإمام الحي، وهذا الشبه استنتجه الذهن من لفظ
(رجل) الذي يطلق أيضاً على هؤلاء.
وهكذا: إذا سمعنا عن مدينة لم نرها من قبل (طنجة مثلاً (فستتكون لدينا
صورة عن هذه المدينة، استطعنا أن نرسم هذه الصورة من معرفتنا للفظ (مدينة) ،
فهذا اللفظ نعلم أنه يدل على معانٍ مشتركة توجد في مكة وطيبة والرباط. لكن
الصورة تظل عامة لأننا ندرك أنه كما اختلفت الرباط عن مكة عن طيبة، فقد
تختلف طنجة عن هذه المدن، وتتميز عنها بما لا يوجد في المدن الأخرى.
إذن، فالعقل البشري يدرك أوجه الشبه بين الأشياء التي يراها ويخبرها،
ويطلق على هذه الأوجه والمعاني المشتركة ألفاظاً مطلقة، فإذا سمع هذا اللفظ
مضافاً إلى شيء لم يره من قبل أدرك ثبوت القدر المشترك لذلك الشيء الغائب،
دون أن يستلزم ذلك نفس ما قد يوجد من أوجه الاختلاف أو التفاضل بينه وبين ما
رآه من قبل.
أثر المسألة في الإيمان بالغيب:
ويدخل في ذلك ما أخبرنا به الله (تعالى (ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مما
لم نشاهده وذلك مثل: - الصفات الإلهية، والجنة والنار، والصراط، والحوض،
والميزان، والملائكة والروح، ... ونحوها، فكيف يمكن أن يدرك العقل البشري
صفةَ ما غاب عنه، وهو لم يره قط؟ ! .
الجواب يتلخص في تلك الخاصية الفذة التي وهبها الله (تعالى) للعقل البشري؛ فنحن نفهم معنى (أجنحة) في قول الله (تعالى) : [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ..] [فاطر: 1]
مما تكون لدينا من معنى عام للفظ (جناح) في إطلاقاته المألوفة لدينا: فهناك جناح
النسر، وجناح الحدأة، وجناح الحمام، وجناح العصفور، وجناح الذباب، وجناح
البعوض.
فمن هذه الاستعمالات المختلفة للفظ (جناح) يستنتج الذهن معنًى عامّاً، هو
القدر المشترك بين مدلوله في تلك الأشياء المختلفة التي رأيناها وعرفناها، فإذا
أخبرنا الله (تعالى) أن للملكِ جناحاً، استنتج الذهن مفهوماً عامّاً مطلقاً عن جناح
الملك من خلال إثبات ذلك القدر المشترك الذي استخلصناه من استعمالات هذا اللفظ
فيما نشاهده، لكن المفهوم يظل مطلقاً لأننا ندرك أن طبيعة الملك تختلف عن طبيعة
الطيور والإنسان وسائر ما قد يستعمل له لفظ (جناح) فيما نشاهده من مخلوقات،
تماماً كما تختلف هذه المخلوقات التي نشاهدها فيما بينها، مع ثبوت القدر المشترك
للفظ فيها جميعاً، وكلما كان الإنسان أكثر إحاطة بهذا الاختلاف في المشهودات،
مع ثبوت القدر المشترك بينها، كان أكثر قدرة على إدراك الاختلاف بينها وبين ما
غاب عنه مما وصف باللفظ نفسه.
وكذلك القول في سائر أوصاف الملائكة، كالصعود والنزول والكلام وغيرها، بل وفي سائر أمور الغيب.
ولأدع الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) حول هذه النقطة:
(وتمام الكلام في هذا الباب أنك تعلم: أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما
شهدناه، فنحن نعرف أشياءً بحسّنا الظاهر أو الباطن [1] وتلك معرفة معينة
مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة
كلية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا، فلولا أنا نشهد من أنفسنا جوعاً وعطشاً وشبعاً وريّاً، وحبّاً وبغضاً، ولذةً وألماً،
رضًى وسخطاً، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا ذلك وأخبرنا به عن
غيرنا، وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد: حياةً، وقدرةً، وعلماً، وكلاماً، لم نفهم
ما نخاطب به إذا وصف الغائب عنا بذلك، وكذلك لو لم نشهد موجوداً لم نعرف
غائباً) .
(فلا بد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمى اللفظ المتواطئ، فبهذه الموافقة والمشاركة والمشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذا خاصة
العقل، ولولا ذلك لم نعلم إلا ما نحسه، ولم نعلم أموراً عامة ولا أموراً غائبة عن
أحاسيسنا الظاهرة والباطنة، ولهذا من لم يحس الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته) .
(ثم إن الله (تعالى) أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك
في الدنيا لم نفهم ما وعدنا الله به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل
هذه حتى قال ابن عباس (رضي الله عنه) : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير قوله: [.. وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً..] [البقرة: 25] على أحد الأقوال.. فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة من
بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه، أو أبغضناه ونفرنا عنه.
وبينهما مباينة ومفاضلة لا يُقدّر قدرُها في الدنيا ... ) .
(فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر بين الخالق والمخلوق أعظم،
فإن مباينة الله لخلقه وعظمته وكبريائه وفضله: أعظم وأكبر مما بين مخلوق
ومخلوق، فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق،
بينهما من التفاضل والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ... فصفات الخالق (عز وجل)
أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله
(تبارك وتعالى) ... [و] قد علمنا بطريق خبر الله (عز وجل) عن نفسه ... أن الله
يوصف بصفات الكمال، موصوف بالحياة والعلم والقدرة ... ولولا أن هذه الأسماء
والصفات تدل على معنى مشترك كلي، يقتضي من الموافقة والمشابهة ما به تُفهم
وتُثبت هذه المعاني لله: لم نكن قد عرفنا عن الله شيئاً. ولا صار في قلوبنا إيمان
به، ولا علم ولا معرفة ولا محبة، ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته
وتعظيمه؛ فإن جميع الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك
المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب
عن شهودنا) .
(ومن فهم هذه الحقائق الشريفة والقواعد الجليلة النافعة حصل له من العلم
والمعرفة والتوحيد والإيمان، وانجاب عنه من الشبه والضلال والحيرة ما يصير به
في هذا الباب من الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ومن
سادة أهل الإيمان ... ) إلى آخر كلامه (رحمه الله) ، وهو نفيس للغاية [2] .
أدلة الكتاب والسنة على إثبات القدر المشترك:
ليس المقصود هنا الاستدلال على إثبات قدرة العقل على استخلاص القدر
المشترك، فهذه خاصة بدهية، إنما المقصود الاستدلال على أن الله (تعالى) أثبت
في القرآن وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- القدر المشترك بين الصفات
الإلهية وصفات المخلوقين، كما أثبت القدر المميّز بينهما، وقد جاءت الأدلة على
أنواع:
1- أول هذه الأنواع: ما ذكره الأئمة مما وقفت عليه كابن خزيمة في
التوحيد [3] ، وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على المريسي [4] ، وابن ت يمية في مواضع متعددة من كتبه، كالرسالة التدمرية وغيرها، قال (رحمه الله) : (فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بأسماء، وليس المسمى كالمسمى، فسمى نفسه حيّاً عليماً قديراً، ورؤوفاً رحيماً، عزيزاً حكيماً، سميعاً بصيراً ... كقوله: [اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ] ، وقوله: [إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] .
وقال: -[وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ، وقال: [وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] .
وقد سمى بعض عباده حيّاً فقال: -[يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ
مِنَ الحَيِ] ، وبعضهم عليماً بقوله: [وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ] ، وبعضهم حليماً
بقوله: [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ] ، وبعضهم رؤوفاً رحيماً بقوله: [بالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] ، وبعضهم سميعاً بصيراً بقوله: [فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً] .
ومعلوم أنه لا يماثل الحيّ الحيّ، ولا العليمُ العليمَ، ولا العزيز العزيزَ، ولا
الرؤوف الرؤوفَ، ولا الرحيمُ الرحيمَ) [5] .
2- عطف الخلق على الرب (تعالى) في مقام الفاعل. وذلك في مثل قول الله
(تعالى) : [شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ] ، وقوله: [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاً صَفاً] ، وقوله: [هلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أَن يَاًتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] ، وقوله: [كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] ونحوها.
فعطف الخلق على الرب (تعالى) في مقام الفاعل دليل على اشتراكهما في
أصل الفعل، وإلا لما صح العطف، فلا يصح أن يقال: شهد زيد وعمرو، أو:
جاء زيد وعمرو، وزيد لم يشهد أو لم يجئ، بل لا بد من أن يكون الجميع قد شهد
وجاء، وإن كانت شهادةُ أحدهما أو مجيئُه قد تفضل شهادةَ الآخر ومجيئَه، ومما
يوضح ذلك: أن الله (تعالى) عطف أولي العلم على الملائكة في قوله: [شهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ] فدل على اشتراكهما في أصل الشهادة،
مع أن شهادة أولي العلم ليست مماثلة لشهادة الملائكة، فكذلك شهادة هذين لا تماثل
شهادة الرب (تعالى) ، وإن اشتركوا في أصل المعنى.
3- الجزاء من جنس العمل، مثل قوله (تعالى) : -[هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ
الإحْسَانُ] ، وقوله: [وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ] ، وقوله: [وَإن تَعُودُوا نَعُدْ] وقوله: [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ] ، وقوله: [يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ] ، وقوله: -[كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى] ، وقوله:
[نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] ، وقوله: [وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا] ،
وقوله: [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] ، وقوله: [وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا
مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (?) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]
وفي صحيح البخاري قوله (عليه الصلاة والسلام) : (لا توعي فيوعي الله عليكِ) ،
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو
(رضي الله عنهما) أن النبي قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء) ، ونحوها.
إثبات القدر المشترك ليس تمثيلاً:
قد يتبادر للذهن أن في إثبات قدر مشترك بين صفات الرب (جل وعلا)
وصفات المخلوقين تشبيه أو تمثيل لصفات الله (تعالى) بصفات خلقه، ويخلط كثير
من الناس في هذا المقام بين مفهوم (التمثيل) ومفهوم (التشبيه) . فالأول هو الذي
نفته النصوص الشرعية، كقوله (تعالى) : [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] . بخلاف لفظ (التشبيه) فإنه لفظ مجمل، قد يراد به التمثيل، وقد يراد به ما
ليس تمثيلاً، وقد فرّق (تعالى) بينهما في قوله: [وَقَالَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ أَوْ تَاًتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ] . قال شيخ
الإسلام: (فوصفَ القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب وإن
اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي: (الحلال بيّن والحرام
بيّن وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، فدل على أنه يعلمها بعض
الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة بل بعضها حرام وبعضها حلال) [6] .
فالتشابه، إذا أطلق، يتضمن الموافقة من بعض الوجوه دون بعض، أما
المماثلة فهي الموافقة من جميع الوجوه، بحيث يستوي الشيء ومثله في كل جانب
ويجوز ويمتنع على أحدهما من الخصائص واللوازم. فالمحذور شرعاً هو التمثيل،
أما (التشبيه) فإن أريد به التمثيل فهو ممتنع، وإن أريد به الموافقة من بعض
الوجوه دون بعض فليس في ذلك محذور، وذلك أن (جماهير العقلاء يعلمون أنه ما
من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفس ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل
والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل
على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله (سبحانه وتعالى) إذ هو
(سبحانه) ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله) [7] .
(وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا
يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع. وإذا قيل هذا حي
عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير، لم
يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلاً لهذا المسمى من كل وجه، بل هنا ثلاثة
أشياء:
أحدها: القدر المشترك الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به
أحدهما، ولا يوجد كليّاً عامّاً إلا في علم العالم [8] .
الثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم
والقدرة.
الثالث: ما يختص به ذاك، كما يختص به العبد، من الحياة والعلم والقدرة،
فما اختص به الرب (عز وجل) لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من
النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب،
ولا يستحق شيئاً من صفات الكمال التي يختص بها الرب (عز وجل) . وأما القدر
المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان، فهذا لا يستلزم خصائص الخالق
ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه) [9] .
(والقدر المشترك المطلق، كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك، لا يلزمه
شيء من صفات النقص الممتنعة على الله (تعالى) ، فما وجب للقدر المشترك لا
نقص فيه ولا عيب. وما نُفي عنه فلا كمال فيه، وما جاز له فلا محذور في جوازه. وأما ما يتقدس الرب (تعالى) ويتنزه عنه من النقائص والآفات، فهي ليست من
لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلاً، بل هي من خصائص المخلوقات
الناقصة، والله (تعالى) منزه عن كل نقص وعيب، وهذه معانٍ شريفة بُسطت في
غير هذا الموضع) [10] .
نفي القدر المشترك يستلزم الإلحاد [*] :
ومما يوضح ذلك أنه (ما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو
أنه في كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل
منهما) [11] ، فلو نفى أحدٌ القدر المشترك بين صفات الرب (تعالى) وصفات الخلق، ظنّاً منه أن ذلك من التمثيل أو التشبيه المحظور، لزمه نفي وجود الرب (تعالى) بالكلية، (فإن من نفى بعض ما وصف الله به نفسه، كالرضا والغضب والمحبة والبغض ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم، قيل له: أنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تُثبته ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما أثبتَّه مثل قولك فيما نفيته وأثبتَهَ الله ورسوله، إذ لا فرق بينهما.
فإن قال: أنا لا أثبتُ شيئاً من الصفات.
قيل له: فأنت تثبتُ له الأسماء الحسنى، مثل: حي وعليم وقدير، والعبد
يتسمى بهذه الأسماء، وليس ما تثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما تُثبت للعبد،
فقل في صفاته نظير قولك في أسمائه.
فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، أو هي
أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة.
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه،
وليس هو مماثلاً) [12] .
فليس له بعد ذلك إلا أن يقول: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الرب
(تعالى) ، وإلا كان متناقضاً، وهذا هو الإلحاد، ولو قال ذلك (قيل له: فمن المعلوم
بالمشاهدة والعقل وجودُ موجودات، ومن المعلوم أيضاً أن منها ما هو حادث بعد أن
لم يكن، كما نعلم أنا حادثون بعد عدَمِنا، وأن السحاب حادث، والمطر والنبات
حادث ... ومن المعلوم بالضرورة أن الحادث بعد عدمه لا بد له من مُحدِث، وهذه
قضية ضرورية معلومة بالفطرة ... ولهذا قال (تعالى) : [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ] ... والمحدَث لا بد له من قديم ... والممكن لا بد له من
واجب ... فقد لزم أن الوجود فيه موجود قديم واجب بنفسه، وموجود ممكن محدَث كائن بعد أن لم يكن، وهذان قد اشتركا في مسمى الوجود) [13] .
(فعُلم بهذه البراهين البينة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما
اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل،
والله أعلم) [14] .
تطبيقات المسألة في العصر الحاضر:
غني عن القول أن أهمية موضوع المقال تنبع من أهمية فهم العقيدة الإسلامية
واستيعابها، لكن من المفيد أيضاً أن ننظر كيف يمكن الاستفادة من منهج أهل السنة
والجماعة في هذا الباب في العصر الحاضر.. هناك مجالات متعددة، لكني
سأقتصر على واحد من هذه المجالات، وهو مجال الإعجاز العلمي في القرآن
والسنة.
إن الفكرة الأساسية في مشروع الإعجاز العلمي هي النظر في بعض
النصوص الشرعية التي تناولت المظاهر الكونية في ضوء الاكتشافات الحديثة،
ولكي يسير المشروع في طريقه الصحيح، دون الوقوع في خطأ تحميل النص ما لا
يحتمل، فلا بد من فهم النص في ضوء قواعد التفسير وأصوله التي سلكها السلف
الصالح (رضي الله عنهم) ، والنصوص التي تناولت المظاهر الكونية قبل أن يعلم
الإنسان حقيقة هذه المظاهر وماهيتها تدخل في دائرة نصوص الغيب، ومن هنا:
فإن الحاجة إلى اتباع منهج السلف في هذا الباب ملحة لكي يأمن الباحث في هذا
المجال من ليّ النصوص أو تأويلها لكي توافق الاكتشافات العلمية المعاصرة، ومتى
أحسن تطبيق هذا المنهج، ستكون النتيجة نصراً مضاعفاً؛ فالاكتشاف العلمي
سيكون دليلاً جديداً على إعجاز القرآن، وفي الوقت نفسه دليلاً على سداد منهج
أهل السنة والجماعة.
مثالٌ على ذلك أذكر قوله (تعالى) : [بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ] ، فهذا البرزخ
كان غيباً لمن نزل عليهم القرآن، ومقتضى منهج السلف أن يُثبت لهذا البرزخ
القدرُ المشترك للفظ (برزخ) المعلوم مما نشهده مما يطلق عليه اللفظ، مع الامتناع
عن الجزم بمماثلته لشيء من ذلك، ثم تبين لنا الآن طبيعة هذا البرزخ، وشهد
الجميع فعلاً ثبوت القدر المشترك للفظ فيه، مع مغايرته لكل ما عرفناه سابقاً.
إن هذه النتيجة لم يكن الوصول إليها ممكناً لو سلكنا سبل الفرق الإسلامية
التي اعتمدت التأويل منهجاً لها كلما وجدت ظاهر النص مخالفاً لما تقرر عندها من
مسلمات باطلة في كثير من الأحيان، ومن جهة أخرى: فإن منهج السلف في هذا
الباب يضمن حماية النص من أي خطأ في تنزيله على الاكتشافات العلمية الحديثة،
فغاية ما هنالك حينئذ أن الباحث أخطأ في تحديد (كيفية) النص، أو (القدر المميز)
الذي تضمنه، أما (المعنى) أو (القدر المشترك) فهو باق لم يطرأ عليه شيء. إن
مثل هذا المنهج هو الأسلوب الوحيد، في نظري، للجمع بين الحفاظ على تعظيم
القرآن (وما يتبع ذلك من احترام خير القرون وما أثر عنهم في تفسيره) واقتحام
ميادين جديدة للبحث عن إعجاز القرآن العظيم.