مجله البيان (صفحة 2090)

مقال

الحلقة الأخيرة

بقلم:فاطمة بنت عبد الله البطاح

هذا الموضوع أجيز من هيئة التحرير لسببين: لأنه يطرح قضية حيوية مهمة

يجب أن تكون محل اهتمام الكثير من الدعاة إلى الله، ولأنه بقلم كاتبة وليس كاتباً

فهي تكتب عن معاناة حقيقية ليست بالضرورة شخصية بقدر ما هي حالة معاشة في

مجتمعاتنا المسلمة جسدتها الكاتبة في هذه السطو ر، ولعل الموضوع يكون مجالاً

للحوار بين من يعنيهم الأمر.

وسينشر كل تعقيب ينطلق من رؤية شرعية مع الالتزام بآداب الحوار.

- البيان -

أحيانا: تسمع عن فتاة صالحة مصلحة، كانت شعلةً من نشاط، يجري حب

العمل لدين الله في عروقها، ويمتلىء فؤادها الغض حباً ورغبةً للدعوة إلى ربها،

تتحرق لمصائب الأمة وتهتم بالإصلاح وتفكر فيه وتنشغل به.

ولكن ...

حينما تضرب الدفوف معلنةً زواج هذه الفتاة، لابد وأن تُعلن معها نهاية

الحلقة الأخيرة من سلسلة نشاط هذه الفتاة وحماسها وهمتها في غالب الأحيان.

فينتهي مع زواجها كل شيء يتعلق بماضيها الطيب ودعوتها الخيّرة، وكأن

تراب النسيان قد أُهيل على دعوتها ووعيها، فأصبح ماضياً لا يخطر على بالها منه

شيء، اللهم إلا ذكريات حلوة! ترددها بين حين وآخر ... كنت وكنت! ! .

أما لماذا تبدل الحال وأصبح زواجها من (الصالح الخيّر) ! حلقة أخيرة في

سلسلة نشاطها وهمتها؟ !

فذاك سؤال تطول الإجابة عليه، بيد أني على أي حال سوف أختصر الحديث

في نقطتين أحسبهما داءً يحتاج منا إلى دواء، ولا أزعم مع هذا، أني سأوفيهما

حقهما من الإيضاح، لكن عسى أن تكون هذه الأسطر إشارة ضوء لمن يستطيع

المعالجة.

قعيدة البيت! !

ثمة رجال، لا يرون المرأة إلا قعيدة بيت ينبغي ألا يرقى تفكيرها عن شؤون

المنزل، ولاتخرج همتها وهمومها عن دائرة تلميع الحذاء، وكي الثوب! ! .

وربما عاب «هؤلاء» ونقدوا كل من أعطى زوجته من وقته، فحدثها عن

قضايا تتعلق بحال الأمة ومآسيها ومصائبها ومكر أعدائها، ويحسب هؤلاء أن

إدخال المرأة في مثل هذه الأمور ضرباً من ضروب تضييع الوقت، وتشتيت

الجهود!

متى يُدرك هؤلاء أن المرأة وإن كانت «قعيدة البيت» جسمياً! فليس

ضروريّاً أن تكون قعيدته فكراً وحسّاً؟ ! .

وهي المرأة التي كرمها ربها بالعقل، وأعزها بالدين، وأنقذها من براثن

الجاهلية وذلها! .

ووالله إنه ليحزنك ويحز في نفسك، عندما تتحدث إحدى زوجات بعض

الصالحين الأخيار عن قضايا مهمة علقت على حبالها رقاب أبناء الأمة! وأُهدرت

بذلك عزتها قبل ثرواتها، تكتشف بمرارة! أن هذه المرأة لا تعي شيئاً من ذلك

فضلاً عن أن تعي أبعاد هذه الأمور ومسبباتها.

لا أدري لماذا يسعى هؤلاء إلى إبعاد المرأة عن عالمهم؟ ! ولماذا لا يحاولون

تعليمها، وزرع حب الدين في قلبها، وإنماء فكرها ووعيها؟ !

قال (عليه الصلاة السلام) في حديث صحيح: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو

عهد بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس وباب يخرجون

منه» [1] .

ترى ما صلة عائشة وهي امرأة جليلة قعيدة بيت بالتغيير الذي هم الرسول

بإحداثه في الكعبة؟ !

إذ لو كان الأمر بيتيّاً أو على الأقل نسائياً لما تعجبت!

لكن أن يتحدث نبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة ومصباح الدجى فيها

ومرشدها وإمامها وعالمها مع امرأة في أمر قد يظن بعضهم أنه لا صلة لها به، فإن

هذا والله هو التربية!

وهذا والله هو المربي الذي يريد أن يرتفع بهموم نسائه وهمتهن؛ لتناطح

السحاب بسموها علواً ورفعة! !

ولن نعجب بعد هذا إذا علمنا أن هذه (المرأة «قد أصبحت بعد وفاة زوجها

ومعلمها عالمةً يرجع إليها الصحابة فيما أشكل عليهم؛ قال أبو موسى (رضي الله

عنه» : «ما أُشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً» ! .

وكانت (رضي الله عنها) تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات

الصحابة علانية؛ مما جعل الإمام الزركشي يجمع انتقاداتها لبعض فتاوى الصحابة

في كتاب أسماه: (الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) [*] .

أما أن يترك الرجل الصالح زوجته في واد، ويبقي هو وهمومه ونشاطه

ودعوته في وادٍ آخر! فلتترحم الأمة على إحدى فتياتها المتوفيات! !

ضيق الخِناق:

ثمة رجال أخيار يعنيهم أمر الأمة وصلاح نسائها، وقد تجد أحدهم جادّاً في

تربية زوجته وإعانتها على أمور دينها، وزرع الحماس في قلبها للعمل الخيّر

والدعوة بين صفوف النساء!

لكنك مع ذلك تراه وقد ضيق الخِناق الدعوي على زوجته، فيرى مثلاً أنه لا

داعي لخروجها مع قدرتها وتوفر إمكاناتها لإقامة درس أو إلقاء موعظة، أو حتى

الاشتغال بإعداد موضوع مفيد أو كتابة مقالٍ هادف!

أما لماذا؟ ! فذاك أحسبه راجع لسببين:

(أ) إما عدم وجود رغبه لديه للتضحية والإيثار بالذات، مع علمنا أن

اشتغال المرأة بالدعوة والتحصيل والطلب ربما تعارض مع بعض شؤونها البيتية!

وهنا لا بد لهذه المعضلة (عدم التوافق) من حلول يشترك في صناعتها الطرفان:

الرجل والمرأة مع يقيني أن في حديث الرسول (عليه الصلاة السلام) الذي رواه

البخاري «سددوا وقاربوا» نور لمن أراد أن يستضيء به!

(ب) وإما مراعاة منه أو تماشياً مع بعض العادات الاجتماعية التي نشأ عليها؛ إذ يخاف مثلاً أن يُعاب عليه نشاط زوجته الدعوي، أو ذكر اسمها في المجالس،

أو ترديد بعض كلامها المنشور أو المسموع.

ولو تأمل لوجد أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) صدع ببعض المبادىء

على ما فيها من مخالفة لمألوف قومه ومعهودهم! ؛ فلم يكتف الرسول (عليه الصلاة

والسلام) مثلاً بوضع ابنته الصغيرة في حجره، إنما تعدى ذلك إلى أن يحمل بنات

الناس، فما أن تولد البنت إلا ويهرع بها أهلها إليه، ليضعها في حجره. ويدعو لها

بالبركة! [2] .

يفعل ذلك أمام جمع غفير من الناس، متحدياً ومخالفاً تقاليد البيئة التي يستحي

الإنسان فيها أن يُرزق أنثى! فضلاً عن النطق باسمها أو التلطف معها والتودد إليها!.

وكم يأخذك العجب إذا رأيت بعضاً من ناشطات زوجات أو بنات أولئك الذين

يتحدون نقاء المجتمع، فيرفعون بقولهم أو فعلهم رايات التخريب والعلمنة والفساد

في الأرض! فكم تحمّل هذا أو تلك تبعات مجاهرة ابنته أو زوجتهِ بفسادها وخُبث

طويتها على صفحات الجرائد والمجلات.

أتظنون المرأة التي خرجت من بين صفوف نسائنا، لتعلن على الملأ أن

الحجاب من مخلفات عهد التخلف والظلام! أتظنون هذه تسير وحدها، ولايوجد

خلف ظهرها وليّ: أب، أو زوج يسندها ويقوي عزيمتها! !

قبل النهاية:

أحسب والله أعلم أنه أصبح وجود المرأة الداعية من متطلبات هذه المرحلة

التي تعيشها الأمة وتمر بها! ، كما أحسب أيضاً أن المرأة الداعية هي أحوج الناس

إلى التربية الجادة والمستمرة!

وإلا فستفتح عينيها يوما لتكتشف أنها أصبحت متداعية لا داعية! .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015