المسلمون والعالم
الأصولية الغربية.. المنشأ والواقع والمستقبل
بقلم:ياسر قارئ
تمهيد:
كثرت في الآونة الأخيرة الكتابات والتصريحات حول الأصولية الإسلامية
والتنديد بخطرها حتى أصبحت قرباناً يَقْدُمُ الحجاج إلى عواصم الدول الغربية
المتسلطة، وعربوناً للمزيد من الصفقات المالية والعسكرية. وخشية من ضياع
الحقيقة وسط ضجيج الباطل أقدمت على كتابة هذا الموضوع، لنستكشف سويّاً
حقيقة الأصولية المتسترة تحت أخلاق الديمقراطية العلمانية، وفي الوقت نفسه نعي
حجم الدور الذي تلعبه تلك القوة الشريرة في تسيير دفة الأمور في عواصم القرارات، ولعل في هذه المحاولة عبرة وعظة للمنخدعين بسعة صدر الديمقراطية وجاذبيتها
الخلابة ممن صُنعوا على أعين أجنبية في المناطق الثلجية، أيضاً لعله يستفيد منها
إخوة لنا في الدين غفلوا أو جهلوا حقيقة المسرحية الدرامية التي يتم من خلالها
احتكار القرارات الخارجية المتعلقة بالشعوب الإسلامية في ردهات البرلمانات
الغربية، إذ ليست العبرة بتكوين مجموعة عمل مؤثرة تلقي بثقلها الانتخابي على
أصوات النواب؛ ليحصل المسلمون على بعض حقوقهم، وإنما بمعرفة طبيعة
العلاقة الدينية العقدية التي تربط صُنّاع القرار بتلك المنظمات؛ إذ التقوا على موجة
واحدة أصبحت لا تفرق فيها بين الرئيس والقسيس ولا بين النائب والراهب،
يعملون جميعاً لتهيأة الظروف التي نص عليها الكتاب المقدس لاستقبال أمير السلام
المسيح عيسى ابن مريم (عليه الصلاة والسلام) .
وليسهل تناول الموضوع قسمته إلى ثلاث حلقات: أعرض في الأولى منها
الأسس التي قام عليها المذهب البروتستانتي النصراني وصلة ذلك بالمهاجرين
الأوائل إلى العالم الجديد، أما الحلقة الثانية فسيكون الحديث فيها عن المنظمات
الإنجيلية الأصولية التي استمدت منهجها من ذلك المذهب ودورها على المسرح
السياسي، ثم أتطرق في الختام إلى نتائج ذلك الدور من خلال صناديق الاقتراع،
مع تسليط الضوء على مواقف لبعض قادة اليمين الديني في بلاد (العم سام) !
إن الصراع الأزلي بين الحق والباطل هو الذي أدى إلى قيام ما يعرف
بالولايات المتحدة الأمريكية، فالمعروف عندنا ب (الكشوف الجغرافية) كان بمثابة
محاولة للالتفاف حول العالم الإسلامي، ومن ثم سهولة القضاء عليه؛ وذلك لفشل
أوروبا في الغزو المباشر نظراً لوجود الدولة العثمانية التي وقفت ولقرون عديدة سدّاً
حائلاً بين الصليبيين والعالم الإسلامي، فكانت رحلة كريستوفر كولمبوس التي
ادّعى فيها اكتشافه للعالم الجديد، ثم ساهم الصراع الديني بين الكاثوليك
والبروتستانت في الهجرة والاستيطان في الأرض الجديدة التي اغتصبوها من
سكانها الأصليين، وأدى تشاغل بريطانيا العظمى (سابقاً) بالمشاكل القريبة منها (أو
لعله إيثارها التركيز على المناطق الإسلامية) إلى غض الطرف عن الدولة الناشئة
على الضفة الغربية للمحيط الأطلسي؛ هذه العوامل مجتمعة أوجدت القوة العظمى
اليوم، إلا أن الدين ينفرد بدور خاص في إحداث هذا المخاض؛ حيث عبّر إليكس
دي تاكفيل عن ذلك بقوله: إننا يجب ألا ننسى: أن الدين هو الذي أوجد المجتمع
الأمريكي؛ فهو يتدخل في كل عادات المجتمع ومشاعره الوطنية، مما يشكل قوة
فريدة ومتميزة، ولا تزال النصرانية تتمتع بالهيمنة على الرأي العام الأمريكي،
وهذا مسلم به [1] ، لقد وصف دي تاكفيل أمريكا في القرن التاسع عشر تقريباً أثناء
زيارته لها، فيا ترى ما هو هذا الدين الذي أوجد هذه الإمبراطورية؟ وهل لهذا
الدين انعكاسات على صناعة القرار السياسي أم إن أمريكا دولة علمانية؟ .
لكي تتضح الصورة، سوف أستعرض واقع
المهاجرين الأوائل ومعتقداتهم:
منذ القرن السادس عشر الميلادي: أصبح الكتاب المقدس للنصارى يشتمل
على العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) ، وكان للقس مارتن لوثر الدور
الأكبر في هذا التحول الخطير والمهم، لما له من آثار مستقبلية، ولقد سميت
حركته هذه ومن سار على نهجها فيما بعد ب (البروتستانت) أي: المعترضين الذين
خرجوا على سلطان الكنيسة الكاثوليكية في روما، ويطلق عليه النصارى لقب
المصلح ظناً منهم بأنه قد حسّن أوضاع الكنيسة وصلاتها بالمجتمع، وبغض النظر
عن الأسباب التي دفعت لوثر إلى ذلك فإن المهم في الأمر هو دمج الكتابين وتقبل
النصارى لذلك، وماذاك إلا لأن العهد القديم قد أصبح في ذلك الوقت كتاباً سياسيّاً
يقوم على قاعدة الحق الإلهي في الأرض المقدسة للشعب اليهودي [2] ، ونتيجة
لذلك الاندماج تسربت إلى العقيدة النصرانية ثلاثة أمور رئيسة هي: أولاً: زعم
اختيار الله لليهود وتفضيلهم على سائر الأمم، ثانياً: ما يدعى بالحق الإلهي لليهود
في الأرض المقدسة في فلسطين، ثالثاً: ربط الإيمان عند النصارى بعودة المسيح
(عليه الصلاة والسلام) ثانية بقيام دولة صهيون [3] .. وعلى هذه الأسس قامت
المنظمات الأصولية أو الإنجيلية النصرانية التي أخذت على عاتقها عبء تطويع
القرارات السياسية الخارجية للولايات المتحدة وتجييرها لصالح إسرائيل -كما
سنرى فيما بعد-.
انبثقت عن هذا الفكر في أوروبا طائفة تسمى البيورتانتس أو المتطهرين،
وقد غالت هذه الفرقة في تعظيم الكتاب المقدس مع إعطاء الأولوية للعهد القديم،
وبالتالي: ساهمت في نشر الثقافة العبرية على المستوى الشعبي، فرضع الإنجليز
النصارى مفهوم الأرض المقدسة التي حارب أجدادهم الصليبيون خلال حملاتهم
المعروفة من أجل السيطرة عليها؛ ليجتمع فيها اليهود فيكون ذلك حسبما يرون
مقدمة لعودة المسيح (عليه السلام) ، فوصلت النهضة العبرية بأفكارها المتداخلة
المؤيدة للصهيونية ذروتها في عهد الثورة البيورتانية في بريطانيا في القرن السابع
عشر [4] ، وتعدى التطرف النصراني إلى مطالبة مجموعة تطهيرية تدعى لفلرز
الحكومة الإنجليزية بإعلان التوراة (العهد القديم) دستوراً للبلاد [5] ، وربما لا
يستغرب أمر كهذا خاصة إذا سبقه تمهيد على مستوى المجتمع؛ إذ كانت تقام
الصلاة في الكنائس باللغة العبرية، وكذلك كانت تلاوة الكتاب المقدس بالعبرية بدلاً
من اللغة اللاتينية، وأصبح الأطفال يعمّدون بأسماء عبرية بدلاً من أسماء القديسين
النصارى، وتوجت هذه الهيمنة اليهودية على الدين النصراني بشقه البروتستانتي
بنقل يوم الاحتفال الديني ببعث المسيح (عليه الصلاة السلام) إلى يوم السبت
اليهودي [6] . وفي سنة 1807م تم تأسيس جمعية لندن لتعزيز النصرانية بين
اليهود، ولقد تبنى وزير الخارجية اللورد بالمرستون تسهيل عودة اليهود الغرباء
إلى فلسطين رغم أنه لم يكن من أتباع الحركة الصهيونية، وتابعه في ذلك اللورد
جلادستون ودوق كنت [7] .. نخلص مما سبق إلى أن حركة الإصلاح الديني في
أوروبا التي نشأت عنها طائفة البروتستانت قد غيرت كثيراً من المواقف السياسية
فضلاً عن الاجتماعية والدينية، على الرغم من أن أوروبا كانت ولا تزال ترفع
شعار العلمانية وتُسَوّقُه لدول العالم وبالذات مستعمراتها السابقة.
من تلك الطائفة البروتستانية التي تُدعى (التطهيرية) جاء جُلّ المهاجرين
الأوائل إلى الولايات المتحدة، فحملوا معهم التقاليد والقناعات التوارتية وتفسيرات
العهد القديم التي انتشرت في أوروبا وإنجلترا بالذات في القرنين السادس عشر
والسابع عشر، فسّموا أنفسهم (أبناء إسرائيل) واحتفلوا بيوم السبت راحة لهم،
وأدخلوا اللغة العبرية إلى جامعة (هارفرد) الشهيرة، وألزموا الطلاب بها، وجعلوا
ترجمة التوراة من العبرية إلى اللاتينية أساساً لاجتياز الدراسة [8] .
ويقول الرحالة الفرنسي دي تاكفيل في وصفهم: إنهم أحبوا أن يطلق عليهم
وصف الحجاج (أسوة بمن يزور موطن ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام) وطبقوا
القوانين وكأن ولاءهم للرب فقط، فلم يعد هناك ذنب إلا وأقيم عليه الحد (بمفهومهم)
من زنى أو اغتصاب أو علاقة محرمة، بل وصل الأمر بهم إلى القيام بجولات
على المنازل لمعاقبة المتخلفين عن حضور القداس الذي جعلوه فرضاً على الناس
وأنزلوا أشد العقوبة بهم [9] .
وظنوا أن العالم الجديد هو الأرض الموعودة فسمّوا مدناً كثيرة بأسماء عبرية
قديمة، كما ظنوا أن الهنود الحمر هم القبائل اليهودية العشر المفقودة فحاولوا ردّهم
إلى اليهودية؛ ليعجلوا بالعودة الثانية للمسيح (عليه الصلاة والسلام) ، وقد سمحوا
لليهود ببناء محافلهم الدينية في وقت مبكر جدّاً بعد هجرتهم وقبل السماح للطائفة
الكاثوليكية بذلك [10] ، الأمر الذي حدا بأحد الوزراء (رئيس المحكمة العليا فيما
بعد) واسمه روجر تاني إلى القول: إنه لو وصل إلى أمريكا أي شخص يخالف
المستوطنين البيض النصارى لما اعترف بأنه مساوٍ لهم أو مستحق لمشاركتهم في
المزايا التي يمتعون بها، فالأمم الوحيدة المتمدنة على الأرض هي الشعوب
النصرانية البيضاء التي تقطن أوروبا، وأولئك المهاجرين يمكن قبولهم [11] ،
ومن هذه التركيبة الاجتماعية والعقدية انحدر المؤسسون الأوائل لنظام الحكم
والدستور الأمريكي، فتومس جيفرسون على سبيل المثال (وهو متهم من قبل
بعضهم بعدائه للدين) قد حاول من خلال وضعه للائحة الحرية الدينية سنة 1779م
الحفاظ على انتشار النصرانية بفصلها عن الدولة، وعذره في ذلك (أي الفصل) :
هو أن النصرانية ازدهرت خلال السنين الثلاثمئة الأولى دون الحاجة إلى مؤسسة
تدعمها، وعندما تبناها الإمبراطور قسطنطين بدأ صفاؤها في الزوال [12] ، ولعل
هذا الموقف لا يبدو غريباً منه وهو الذي صنّف كتاباً عنوانه: (حياة وأخلاق يسوع
الناصري) وذلك في عصور التنوير! وبالرغم من إيمانه ب (إله الطبيعة) (وهو
عكس إله الوحي) إلا أنه أوجب على الحكومة الحث على الدين ورفض (اللادين) ،
بل وأيد رفض المحكمة لشهادة الملحد، وقال: لتكن وصمة عار عليه [13] ، وقد
أبدى اهتماماً بالغاً بالدين، وأشعر بأهميته للناس: فجعله بمثابة الدستور لهم
لحاجتهم إلى مصدر فوق البشر يدفعهم لمنح الحقوق الطبيعية للآخرين؛ مثل
الحكومة التي تحتاج إلى دستور لكبح جماحها [14] ، أما أغرب ما صدر عنه: هو
اقتراحه بأن يكون شعار الولايات المتحدة على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة وفي الليل عمود من النار، بدلاً من النسر أسوة بحال اليهود في فترة
التيه [15] ، فلا عجب إذاً في أن ينتخب للرئاسة في سنة 1800م، كيف لا وهو يعبر عن آراء وعقائد القطاع الأكبر من الشعب.
أما صنوه في التوجس من الدين جيمس ماديسون: فإنه يؤكد رأي جيفرسون
ويرى أن المؤسسة النظامية سوف تحد من التبشير بالنصرانية، وبالتالي: سوف
تؤذيها ولا تنفعها، وهذا يتطلب فصل الكنيسة عن الدولة [16] ، فالدين حسب
وجهة نظره ينتشر في أطهر صوره بدون مساندة الحكومة لا في ظلها، ولهذا: فلم
يعارض ماديسون وجود القساوسة وأماكن الصلاة في الجيش الأمريكي على الرغم
من كونه مؤسسة حكومية، إلا أنه طالب باستقلالهم عن الإدارة العسكرية [17] .
وفي دراسة قام بها أحد الباحثين ويدعى جون داسمو بعنوان (النصرانية
والدستور) دحض فكرة إلحاد الآباء المؤسسين للدستور الأمريكي، وبالنظر إلى أهم
ثلاث عشرة شخصية ممن شاركوا في مؤتمر (فيلادلفيا) : فإن ثمانية منهم يمكن
وصفهم بأنهم إنجيليون (أي أصوليون حسب التعبير المعاصر) ، وثلاثة من عامة
النصارى، واثنان موحدان هما جيفرسون، وماديسون إلا أنهما قد تحولا إلى
التعاطف مع النصرانية كما يتضح ذلك في كتاباتهم ومحاضراتهم، ولنا أن نتصور
بعد هذا حال البقية من المشاركين في المؤتمر وتأثرهم بالفكر التطهيري وانعكاس
ذلك على: سياسة الحكومة الداخلية المتعلقة بأتباع هذا الفكر، والخارجية التي
تطالب بتطبيق تعاليم الكتاب المقدس في أرض الواقع خاصة إذا ما تذكرنا ضعف
الخلافة العثمانية البيّن واحتلال الصليبيين لمواقع متقدمة في البلاد الإسلامية،
فأصبحت قضية فلسطين مسألة وقت لا أقل ولا أكثر؛ لأن القرار الشعبي والسياسي
قد اتخذ منذ زمن مبكر جدّاً؛ منذ أن قامت حركة الإصلاح اللوثرية في أوروبا،
وكانت الهجرة إلى أمريكا وقيام ذلك الكيان إرهاصات للتوجه نحو احتلال فلسطين.
لقد قام القس النصراني الأمريكي وليام بلاكستون بتكوين البعثة العبرية من
أجل إسرائيل (لاحظ الصراحة في الأسماء فهي ليست نصرانية أو كنسية) والهدف
منها هو: تسريع عودة اليهود إلى فلسطين، وقد ألّف كتاباً اسمه (المسيح آت)
يربط فيه بين العودتين، ولا تزال هذه البعثة تعمل حتى يومنا هذا ولكن تحت اسم
(الزمالة اليسوعية الأمريكية) ، وظني أن التغيير قد تم بسبب قيام الكيان الصهيوني
من جهة، وكذلك عدم إثارة الشكوك، خاصة وأن بعض المسلمين القلائل قد أخذوا
ينتبهون إلى هذه المنظمات وأدوارها المشبوهة، وتعتبر المنظمة اليوم قلب جهاز
التأثير (اللوبي) الصهيوني في أمريكا.
وشارك المنصّرون الرحالة والحجاج وعلماء الآثار في هذه المهمة، فأيقظوا
مشاعر الأمريكيين العاديين نحو العهد القديم والتاريخ اليهودي ليشجعوا الهجرة إلى
فلسطين وإقامة المستوطنات، وقامت زوجة أحد كبار التجار في (فيلادلفيا) في
سنة 1850م بشراء أراضٍ كثيرة في فلسطين، ووهبتها لإقامة مستوطنات يهودية هناك [18] ، ولا يملك المرء أمام هذا إلا ترديد قول الشاعر:
ولو كان النساء كمثل هَذِهْ ... لفضلت النساء على الرجال
مع فارق المناسبة والأشخاص بالطبع! إننا لا نستغرب أن تقوم امرأة ثرية
بالتبرع من أجل عقيدتها خاصة إذا كانت تلك هي رغبة الرئيس الأمريكي في ذلك
الوقت؛ فقد صرح جون آدامز لأحد الصحفيين اليهود بأنه يتمنى رؤية أمة يهودية
مرة ثانية في يهودا [19] .
كذلك كان للسفراء دور في هذه المهمة الدينية، إذ رفع القنصل الأمريكي في
استانبول يوم كانت حاضرة الخلافة العثمانية مقترحاته إلى وزارة الخارجية التي
تقضي بأن تكون فلسطين وليست أمريكا وطناً لليهود، فما معنى تصريح كهذا
لدبلوماسي يقيم في بلد أو دولة تتبع لها تلك المنطقة؟ .. في عرف السياسة يعتبر
هذا تدخلاً صارخاً في الشؤون الداخلية للدولة، بل والدعوة إلى النيل من سيادتها
الوطنية، وظني كما أشرت سابقاً أن القضية قد حسمت في أذهان الساسة
الأمريكيين منذ زمن بعيد، وأصبح التصريح بالدعوة إليها عن طريق الدبلوماسيين: كالدعوة التي رأيناها إلى استقلال جمهوريات البلطيق عن الاتحاد السوفييتي البائد
أيام حكم جورباتشوف، أما القنصل الأمريكي في القدس: فيبدو أنه حاول تلطيف
الأجواء، فقال في مذكراته: متوقعاً أن موضوع استعادة إسرائيل على الرغم من
عدم شعبيته الآن سيكون مقبولاً في العالم غداً، وهذا الغد هو الذي عبر عنه
الرئيس وورد ولسن قائلاً: إن على ابن راعي الكنيسة (يقصد نفسه) وقد أُعْطِيَ
الفرصة التاريخية لخدمة رغبة الرب بتحقيق البرنامج الصهيوني المساعدة على
إعادة الأرض المقدسة إلى شعبها اليهودي [20] ، فبعد تيقنه من هزيمة العثمانيين
في الحرب العالمية الأولى أكد تأييد بلاده لقرار الدول الحليفة بوضع حجر الأساس
للدولة اليهودية في فلسطين، وأيده مجلس النواب الأمريكي، وبالتالي: صادقت
أمريكا على وعد بلفور، وقد لوحظ من خلال سجلات الكونجرس تشابه مواقف
أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي واستشهاد كثير منهم بالعهد القديم
والنبوءات التوراتية أثناء المداولات [21] .
إن تربية الرئيس ولسن الدينية قد أثرت فيه وفي سياسته؛ فقد بعث بمذكرة
إلى الحاخام اليهودي استيفن وايز يشعره فيها باهتمامه البالغ والعميق بالعمل البناء
الذي قامت به (لجنة وايزمان) في فلسطين، وعبر فيها عن ارتياحه للتقدم الذي
تسير عليه الحركة الصهيونية في أمريكا وأوروبا [22] ، كما أن الرئيس إبراهام
ترومان وبسبب دراسته التوراة، مثل سلفه الرئيس إبراهام لنكولن كان يؤمن
بالتبرير التاريخي للوطن القومي لليهود، وأنه كمعمداني (إنجيلي أصولي) يحس
بشيء عميق له مغزاه في فكرة البعث اليهودي، وأن موسى (عليه الصلاة السلام)
هو الذي أتى بالمبدأ الأساس لقانون هذه الأمة من على جبل سيناء [23] ، فالشيء
العميق الذي لم يذكره هو: العودة الثانية للمسيح التي يؤمن بها المعمدانيون
النصارى، التي من شروطها كما بينا: إقامة دولة صهيون كمقدمة للعودة! أما
الغريب في الأمر هو: ما يقصده بالأمة، فهل هي أمريكا؟ أم النصارى عموماً؟
أم اليهود والنصارى؟ إن واقع الحال يدل على أنهم اليهود الذين قدمهم النصارى
على أنفسهم بسبب العقائد المتسربة إليهم من العهد القديم الذي لُقّنوه منذ قرون خلت، ولم يتوقف دعم الساسة الأمريكيين على البوح بالمشاعر الفياضة والدافئة تجاه
إسرائيل وشعبها، بل تعدى ذلك إلى الانخراط في الجماعات التي تؤيد النشاط
الصهيوني في فلسطين والغرب على حد سواء، ومن ذلك: انضمام ثمانية وستين
عضواً من مجلس الشيوخ (مجموع أعضائه: مئة، يمثل كل ولاية فيه نائبان) الذي
من صلاحياته التصديق، بل واقتراح القرارات السياسية الخارجية للدول، ومئتي
عضو من مجلس النواب (مجموع أعضائه قرابة أربعمئة) : إلى اللجنة الفلسطينية
الأمريكية (لاحظ تضليل الاسم) ، التي أسست في الثلاثينيات لتوعية الرأي العام
الأمريكي حول أهداف وإنجازات الصهيونية، وقد ردّ أحد أعضاء هذه اللجنة من
النواب على رسالة الرئيس روزفلت عندما كان متوجهاً إلى (يالطا) لحضور المؤتمر
الشهير هناك قائلاً: إن ناخبيّ ينظرون إليك كأنك موسى [معاذ الله] المعاصر،
وينتظرون منك نتائج تتعلق بدولة اليهود في فلسطين [24] .
وبمرور الأيام وتسارع الأحداث: ازداد نفوذ الأصوليين النصارى في أروقة
الكونجرس والمكتب البيضاوي، وكما سيأتي معنا بإذن الله كيف أن سقوط القدس
في سنة 1387هـ 1967م واقتراب الألف الثانية من نهايتها قد ضاعفا من جهود
الإنجيليين لدرجة أنهم أصبحوا يتحكمون في الانتخابات الرئاسية والنيابية وبالذات
العقد الأخير - كما سيأتي معنا لاحقاً-، لأن هؤلاء المتطرفين ينطلقون من عقائد
ورثوها عن التطهيريين الأوائل الذين نزلوا الأرض الجديدة، وتشبعوا بمحتويات
التوراة التي أصبحت مصدراً للقرارات السياسية العالمية؛ فانطلقوا بكل إمكاناتهم
ليقيموا الكيان الصهيوني، وقد شاركهم بل سابقهم في ذلك الرؤساء والنواب
الأمريكيون، ليس بدافع الحاجة إلى المال اليهودي لتمويل الانتخابات كما يظن،
فهذه ظاهرة متأخرة في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما إنطلاقاً من عقيدة
راسخة درسوها صغاراً وحاولوا فرضها على الواقع من مراكز نفوذهم كباراً، ولا
يستثنى من ذلك أحد حتى واضعو الدستور الأمريكي الذي يفترض فيه وجود الأثر
العلماني، إلا أنه كما بينا أن الدستور نفسه قد وضع بطريقة تضمن انتشار
النصرانية أو البروتستانية بالذات التي صاغت توجهات الساسة، ولا تزال حتى
عصرنا هذا، لدرجة وجود مراكز أبحاث في أمريكا مهمتها دراسة أثر (اليمين
الديني) ومنظماته على السياسة الأمريكية [*] .