في دائرة الضوء
بقلم:كمال السعيد حبيب
يثير مصطلح الأقلية في بعده الأساس: الموقف من الآخر الذي يشاركك
العيش في مجتمعك، أي: ما هو الموقف الأخلاقي والقانوني والحضاري الذي تقفه
الأغلبية من الآخر.
النموذج الإسلامي وغير الإسلامي في التعامل مع الآخر:
هناك نموذجان لكيفية التعامل مع المخالفين: أحدهما: النموذج الإسلامي الذي
يستمد مصادره من الكتاب والسنة وتطبيقات الخبرة الإسلامية في الفترتين النبوية
والراشدة، وثانيهما: النموذج غير الإسلامي سواء أكان وضعيّاً مصدره العقل
البشري أو دينيّاً مصدره أصول محرّفة اختلط فيها الوضع والتحريف بأثارة قليلة
من الدين الصحيح.
في النموذج الإسلامي: نلحظ أن قبول الآخر، والحفاظ عليه، وترتيب
أوضاعه الحقوقية والإنسانية: هو جزء أساس من صُلب النموذج، فلا يوجد كتاب
فقه لم تنتظم أبوابه وفصوله الإشارة إلى قواعد تنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغير
المسلمين، سواء أكانوا أهل ذِمّة يربطهم بالدولة عقد مؤبد، أو كانوا كفاراً حربيين، أو مستأمنين، وقد وضع المسلمون لذلك علماً خاصّاً أسموه عِلم السِّيَر [1] ، وهذا
العلم يجعل علاقة الدولة الإسلامية بمخالفيها في العقيدة حتى لو كانوا حربيين كفاراً
جزءاً من القانون الداخلي للدولة، يحق لمخالفيها مقاضاتها لو خالفته؛ ففي الكامل
لابن الأثير واقعة بالغة الدلالة، تبين إلى أي مدى بلغ رُقي وعظمة السلوك
الإسلامي في التعامل مع المخالفين حتى لو كانوا أعداءً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي السري واليه على سمرقند:
اعمل خانات في بلادك؛ فمن مَر بك من المسلمين فأقروه يوماً وليلة وتعهدوا دوابّهم، ومن كانت به عِلة فأقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعاً فأبلغه بلده، فلما أتاه
كتاب عمر، قال له أهل سمرقند: قتيبة ظلمنا وغدر بنا؛ فأخذ بلادنا، وقد أظهر
الله العدل والإنصاف، فَاًذن لنا فليقدم منّا وفد على أمير المؤمنين، فأذن لهم،
فوجهوا وفداً إلى عمر، فكتب لهم عمر: إلى سليمان: إن أهل سمرقند شكوا ظلماً
وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي هذا: فأجلس
لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم، كما
كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة، فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي،
فقضى أن يخرج العرب من سمرقند إلى معسكرهم، وينابذهم على سواء، فيكون
صُلحاً جديداً أو ظفر عنوة، فقال أهل الصفد: بلى نرضى بما كان ولا تحدث
حرباً، وتراضوا بذلك [2] .
هذه الواقعة تؤكد أخلاقية الدولة الإسلامية في التعامل مع المخالفين - حتى لو
كانوا أعداءً- وهو ما يعرف بوحدة القيم في الإسلام، أي: إن الحضارة الإسلامية
لم تعرف الازدواجية في سلوكها؛ فهي تعامل الخصم بالقواعد نفسها، وهذه القواعد
ليست على سبيل التطوع، ولا على سبيل التبادل، بل لها طابع إلزامي حتى ولو
لم يلتزم بها الطرف الآخر، فقد نقض الروم عهدهم مع المسلمين زمن معاوية
(رضي الله عنه) وفي يده رهائن منهم، فامتنع المسلمون جميعاً عن قتلهم، وخلوا
سبيلهم، وقالوا: وفاءٌ بغدر خير من غدر بغدر [3] .
وفي النماذج غير الإسلامية: نجد الحضارة الإغريقية في قمة ارتقائها، لم
تكن تطبق نظمها الحقوقية والدولية إلا على رعاياها اليونانيين؛ حيث يشترك
السكان في اللسان والدين والتقاليد والعادات (النموذج الغربي المعاصر في تطبيقه
القومي) ، ولم تكن تلك النظم تطبق على من يطلقون عليهم: البرابرة (كل ما عدا
الإغريق) ، وقال أرسطو: إن الفطرة هي التي أرادت أن يكون البرابرة لليونان
عبيداً، فليتصرف القائد اليوناني في كل بربري بما يشاء. واليهود: قالوا: ليس
علينا في الأميين سبيل، واعتبروا الآخرين خدماً لهم، باعتبار أن اليهود في
زعمهم شعب الله المختار. والهنود: قسموا الناس إلى أربع طبقات البراهمة: وهم
أهل الدين، والكشترية: وهم أهل السيف، والريشة: وهم أهل الحِرَف والتجارة،
والشودرة: وهم الخدم، وهذا التقسيم طبقي موروث، لا يمكن لاحد أن ينعتق منه، وينظر الهنود لطبقة الخدم على أنهم طبقة الأنجاس، وهم لا يعرفون لأحد من
الأجانب حقّاً في حال السلم أو حال الحرب.
والرومان في أوج مدنيتهم قالوا: ما في الأرض إلا أقوام ثلاثة: الرومان،
والمعاهدون، وسائر العالمين، وكانوا يطلقون على الأجنبي (HOStes) أي: العدو المبين، أما المتنصرة الغربيون المتأثرون بالإغريق والرومان: فإنهم رأوا الآخرين برابرة لا تلزمهم أية قواعد قانونية أو أخلاقية، حتى قال هوكو خروتيوس (ت 1645م 1050هـ) وهو أبو القانون الدولي الحديث: إن المسيحيين في عصرنا يقدمون في حروبهم على أعمال تستحي منها الوحوش أنفسها، وقال البابا أربانوس السادس: إن الغدر إثم، ولكن الوفاء مع المسلمين أكبرُ إثماً، ويذكر آدم ميتز: أن الكنيسة الرسمية في الدولة الرومانية ذهبت في معاداتها للمسيحيين الذين يخالفون رجالها في الفكر أبعد مما ذهب إليه الإسلام بالنسبة لأهل الذمة. ولوقوع التشاجر والتخاصم بين المذاهب النصرانية المتعددة؛ فإن حاكم أنطاكية المسلم في القرن الثالث الهجري عين رجلاً نصرانيّاً يتقاضى ثلاثين ديناراً في الشهر، كان عمله منع المتخاصمين من قتل بعضهم بعضاً [4] . ...
ولما ظهر المذهب البروتستانتي في أوروبا في القرن السادس عشر، قاومته
الكنيسة الكاثوليكية بكل قوتها، وعرف تاريخ الاضطهاد النصراني المذهبي مذابح
بشرية رهيبة؛ أهمها مذبحة باريس عام 1572م، التي استضاف فيها الكاثوليك
البروتستانت لديهم، لتقريب وجهات النظر بينهم، لكنهم قتلوهم ليلاً وهم نيام، فلما
طلع الصبح على باريس وكانت شوارعها تجري بدماء الضحايا؛ هنّأ البابا
الكاثوليكي ملكَ فرنسا شارل التاسع الذي وقعت المذبحة في عهده [5] .
وفي إطار الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا: نظم المجلس
النيابي لباريس لجنة خاصة عام 1549م لقمع الخروج على الرأي، وإرسال
المدانين إلى المحرقة، وأطلق على المحكمة الجديدة اسم (الغرفة المتأججة) ،
وقضى مرسوم شاتو بريان عام 1551م: بأن طبع أو بيع أو حيازة كتب الهرطقة
يعد جريمة عظمى، وأن الإعدام هو عقاب الإصرار على الآراء البروتستانتية،
وخلال ثلاث سنوات أُرسل ستون بروتستانتيّاً إلى الغرفة المتأججة؛ حيث ماتوا
حرقاً.
وعن كراهية النصارى لليهود يذكر وول ديورانت: كانت نيران الحقد
تضطرم في قلوب المسيحيين، وكان بنو إسرائيل في تلك الأيام يحبسون أنفسهم في
أحيائهم وبيوتهم خشية أن تثور عواطف السذج من الناس؛ فتؤدي إلى مذابح.
ولما خرجت الحملة الصليبية الأولى، أعلن قائدها أنه سيثأر لدم المسيح من
اليهود، ولن يترك واحداً منهم حيّاً، وأنه لابد من قتل يهود أوروبا قبل الخروج
لقتال الأتراك في أورشليم [6] .
مصطلح الأقلية في العلوم الاجتماعية:
لأن المصطلحات انعكاس للحضارات التي أفرزتها، فإن النموذج الغربي
المعاصر الذي يُعد استمراراً للتقاليد الصليبية ولكن في صيغة علمانية هو الذي أنتج
مصطلح الأقلية (Minority) ، وترتبط بهذا المصطلح في الدراسات الاجتماعية
الغربية قضايا تعكس الطابع العنصري، مثل: التحامل (Pregadce) وما يرتبط
به من معاملات أخرى مثل: القلق (صلى الله عليه وسلمnxiety) ، والجمود (Rigidity) ، وسوء
الحكم (Misgudgment) ، والتعصب (Fanatism) ، والاضطهاد وعدم
التسامح، وأيضاً: الصراع وما يرتبط به من عنف، وتوتر، وتفرقة
(عز وجلescrimination) ، وعدوان، ثم هناك مفهوم الاضطهاد أو التمييز العنصري
(Segregation) [7] ، وهذه القضايا التي يثيرها الفكر السياسي والاجتماعي الغربي حين دراسته لقضية الأقليات تؤكد على أنه رغم دعاوى التسامح والمساواة وحقوق الإنسان؛ فإن العلاقة بين الأغلبية والأقلية تتضمن تفاعلات ذات طابع لا يقبل الآخر إلا مكرهاً أو في وضع أدنى؛ حيث: يتعرض للتحامل والتمييز والاضطهاد والعدوان والتفرقة، ولنتابع بعض تعريفات الأقلية في الفكر الغربي:
الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية تعرّف الأقلية بأنها: جماعة من الأفراد
يختلفون عن الآخرين في المجتمع نفسه بسبب: العرق، أو القومية، أو اللغة، أو
الدين، وهم يتصورون أنفسهم كجماعة ذات مضامين سلبية، وهم يعانون من نقص
نسبي في القوة، ومن ثم: يخضعون لبعض أنواع الاستعباد والاضطهاد والمعاملة
التميزية المختلفة.
والموسوعة الاجتماعية الأمريكية تعرف الأقليات بأنها: جماعة داخل
المجتمع لها وضع اجتماعي أقل، وتمتلك قدراً أقل من القوة والنفوذ، وتمارس
عدداً أقل من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع وهي عادة ما تعزل،
وتخضع للاضطهاد في المواقف والسلوك بسبب اختلافات (فعلية أو مفترضة) :
طبيعية، أو ثقافية، أو اجتماعية؛ باختصار: فإن أفراد الأقليات غالباً ما يحرمون
من الاستمتاع الكافي بامتيازات مُواطن الدرجة الأولى [8] .
وهذه التعريفات تجعل من الأقلية موضوعاً غير فاعل؛ أي: إن الأغلبية هي
التي تحدد وضع الأقلية في المجتمع، وتجعلها دائماً في مكانة المستلب أو المضطهد، ولذا: فقد عمد بعضهم إلى طرح مفهوم للأقلية يجعلها طرفاً فاعلاً في مجتمعها،
بحيث تمكنها من ممارسة تكتيكات دفاعية متمايزة عن الأغلبية إذا لم تحصل على
حقوقها بشكل متساوٍ مع الأغلبية، كما اتجه البعض للبحث عن مصطلحات بديلة
لمفهوم الأقلية لاستبطانه دلالات عنصرية، ويمكن افتراض أن الاتجاهين في
تعريف الأقلية يعبران عن استراتيجيتين غربيتين في التعامل مع الأقلية:
أحدهما: تعرف ببوتقة الصهر (Melting - Pot) التي تحاول امتصاص
الأقلية واستيعابها في الأغلبية: بحيث يصبح المجتمع موحداً في صيغة متماثلة
بدعوى تحقيق التكامل (Integesation) .
ثانيهما: تعترف بالتعدد، لكنها تضع حدوداً قصوى ودنيا يجب أن يمارس
التنوع في إطارها، بحيث لا يؤدي إلى تفجير المجتمع من الداخل. ومارست
الدولة القومية المعاصرة الاستراتيجية الأولى، التي تؤكد الطابع المهيمن والمركزي
للحضارة الغربية في علاقتها بالآخر، لكنه ثبت فشل هذه الاستراتيجية؛ لأنه لا
يمكن إلغاء الولاءات والانتماءات الأولية للجماعات الأخرى المكونة للمجتمع.
المصطلحات التي استخدمتها الحضارة الإسلامية:
لم تعرف الحضارة الإسلامية مصطلح الأقلية طوال تاريخها للتعبير عن غير
المسلمين الذين يقيمون داخلها، وإنما عُرف هذا المصطلح لأول مرة في إطار
صراع الدولة العثمانية مع القوى الأوروبية للإجهاز عليها فيما أطلق عليه المسألة
الشرقية، وذلك باستخدام القوى الغربية للأقليات التي تعيش داخل الدولة العثمانية:
كمخلب قط لتفتيتها بدعوى حماية هذه الأقليات والحفاظ عليها.
فمصطلح الأقلية ظهر في العالم الإسلامي مرتبطاً بقوى خارجية تسعى لإثارة
القلاقل وعدم الاستقرار داخل المجتمع المسلم، أما المسلمون: فقد استخدموا
مصطلح الملة للتعبير عن الفئة غير المسلمة التي تعيش بينهم، وبينما كان نظام
الملة العثماني المستمد من الخبرة الإسلامية للدولة النبوية يقيم العلاقات بين
المسلمين وغير المسلمين على قاعدة التسامح والاعتراف بالتنوع في إطار الوحدة
وتحقيق العدل والحماية؛ فإن مصطلح الأقلية ارتبط بالتدخل الغربي وارتباط فئات
داخلية من المجتمع الإسلامي به، وبالتالي: تأكيد تمايزها عن المجموع والغالبية،
لتحقيق مآرب سياسية وتأسيس الطائفية.
المصطلحات التي استخدمتها الحضارة الإسلامية للتعبير عن الآخر (غير
المسلم) الذي يشارك المسلمين أوطانهم تؤكد مشروعيته.
وأهم هذه المصطلحات:
أهل الذمة: وهم المعاهدون من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يقيمون في
دار الإسلام على سبيل التأبيد، حيث يربطهم بالدولة الإسلامية عقد يكفل لهم الأمان
والحماية والحرمة، ويصبحون من أهل دار الإسلام شرط أن يبذلوا الجزية
ويلتزموا أحكام الملة.
أهل الملة: وهي الصيغة العثمانية لترتيب أوضاع غير المسلمين فيها، على
أساس منحهم حق إدارة شؤونهم الخاصة والعامة تحت إشراف الدولة وعن طريق
رؤسائهم.
وهذه المصطلحات تجعل الدين فقط معيار التمييز بين المسلمين وغير
المسلمين، ولا تقيم للعِرق أو اللغة أو القومية أي أثر في ترتيب أوضاع البشر
داخل مجتمعاتهم [9] .
نحو بناء إسلامي لمصطلح الأقلية:
تضمنت مفردات اللغة كلمة الأقلية كتعبير عن الجزئية والاستثناء، أو مباينة
الكثرة أو الغالب، وتشير معاجم اللغة إلى مادة قَلَلَ التي اشتقت منها كلمة الأقلية؛
فقد جاء في لسان العرب: قلل القلة خلاف الكثرة ... وفي حديث ابن مسعود:
الربا وإن كثر فهو إلى قِل معناه: قِلة ... ويقول: قدم علينا قُلُلٌ من الناس إذا كانوا
من قبائل شتى متفرقين، وقلة كل شيء رأسه، والقلة أعلى الجبل، وقلة كل شيء
أعلاه.
ويشير معجم القرآن الكريم إلى أن الكلمة في القرآن تشير إلى النقص، كما
في قوله (تعالى) : [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ] [البقرة: 249]
وقوله (تعالى) عن فرعون: [إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ] [الشعراء: 54]
وبالتأمل في الدلالة اللغوية التي اشتقت منها كلمة أقلية نلاحظ:
أولاً: استخدمت للتعبير عن دلالة كمية تقابل الأكثر [وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً
فَكَثَّرَكُمْ] [الأعراف: 86] .
ثانياً: استخدمت للتعبير عن دلالة كيفية لا تجعل العدد معياراً لها؛ كما في
حديث ابن مسعود: الربا وإن كثر فهو قُل، وكما في قول لبيد:
كلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُمْ.. ... قُلّ وإن أكْثرتْ من العَدَدْ
فالقلة هنا: تعبير عن حالة كيفية العدد المجرد وليست معياراً لها.
ثالثاً: قد تعبّر عن حالة كيفية خالصة؛ كما في تفسير القلة بأعلى الشيء،
وكما في التعبير القرآني [حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً] [الأعراف: 57] أي:
حملت وارتفعت.
رابعاً: تشير الكلمة إلى تجمع الأشتات المتفرقين من أصول عرقية متعددة،
وهو ما يعنيه المصطلح في العلوم الاجتماعية، وهو واضح جدّاً، كما في قوله:
قدم علينا قُلُلٌ من الناس إذا كانوا من قبائل شتى.
وإذا تأملنا السياق القرآني تفتحت لنا آفاقاً أوسع للفهم؛ ففي القرآن استخدمت
الكلمة مرات عدة:
أولاً: في مقابل كلمة ثُلّة لتدل على تعبير كمي في سياق كيفي؛ كما في قوله
(تعالى) : [ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ] [الواقعة: 13، 14] فالقلة
هنا لا تعني النقص، وإنما التمييز والسبق والارتقاء.
ثانياً: أُلحِق بها ما يزيدها بياناً بحالة اجتماعية وسياسية تعبر عن
الاستضعاف؛ كما في قوله (تعالى) : [وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي
الأَرْضِ تَخَافُونَ ... ] [الأنفال: 26] .
ثالثاً: تقدم عليها ما يزيدها بياناً، وهي كلمة: شرذمة في إطار سياق
اجتماعي وسياسي يعكس أكثر الحالات تعبيراً عن مفهوم الأقلية كما تذهب إليه
العلوم الاجتماعية الحديثة وذلك في قوله (تعالى) حكاية عن فرعون في وصفه لقوم
موسى بعد أن خرجوا من مصر: [إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ] [الشعراء: 54، 55] ، ويميل كاتب هذه السطور لافتراض أن كلمة
شرذمة قليلون في هذا السياق تعكس الدلالة السياسية والاجتماعية لما يشير إليه
مصطلح الأقلية من وجهة نظر الأغلبية والسلطة الحاكمة، حيث تسود بينهما علاقة
صراعية استخدمت فيها أدوات القهر المعنوي والمادي بقصد استئصال الأقلية
ومحوها من الوجود، وربما يدفعنا ذلك إلى أن نؤكد العلاقة بين طبيعة النظام
السياسي وبين ممارساته تجاه الأقلية، حيث يميل النظام الفرعوني الاستبدادي إلى
عدم التسامح مع الأقلية التي تقع تحت سلطانه، وقد يجنح إلى حد العمل على
استئصالها، ويمكن لنا أن نقول: إن تطبيقات فرض التكامل القومي بمعنى سحق
الولاءات الأولية لصالح الأيديولوجية الواحدة التي تفرضها الأنظمة الثورية في
العالم الثالث هي تعبير عن ممارسة تدخل في إطار النموذج الفرعوني.
رابعاً: إن تعبير الاستضعاف مصطلح قرآني أكثر تعبيراً عن مصطلح الأقلية، ... ولكن من حيث رؤية هذه الأقلية لذاتها تجاه الجماعة الحاكمة التي توصف عادة
في القرآن الكريم بالاستكبار، حين يكون الصراع بين الأقلية والأغلبية حول
المبدأ [*] .
خامساً: التعبير القرآني يستخدم القلة للتعبير عن النقص العددي، لكنه لا
يجعل مجرد النقص العددي مثاراً للاحتقار أو مبرراً للتقليل من الشأن، بل الغالب
أن القلة تستخدم في السياق القرآني للتعبير عن المدح والتقدير، وهو ما يؤكد أن
الإطار القرآني لا يجعل من المعيار العددي المجرد مقياساً لترتيب أوضاع اجتماعية
وسياسية واقتصادية متميزة، فتعبير القلة أو الكثرة هو تعبير محايد حتى يأتي
وصف يحدد طبيعة هذه الكثرة أو القلة، وهو ما يطلق عليه: التعبير الوظيفي للعدد.
ويمكن استخدام مصطلح الأقلية للتعبير عن التعدد الثقافي أو العِرقي لجماعة
من البشر في مواجهة جماعة أخرى تعبر عن الأكثرية أو التميز في سلم التدرج
الاجتماعي والسياسي، لكنه يحتاج إلى تحديد وضبط ليعبر عن الخصوصية
الحضارية الإسلامية.
وتعرّف هذه الدراسة الأقلية من منظور إسلامي
على النحو التالي [10] :
الجماعة التي تعيش داخل المجتمع الإسلامي على سبيل الاستقرار (الدوام)
ولها حكم شرعي مختلف عن أحكام الجماعة المسلمة، أو التي فارقت الجماعة
المسلمة بتأويل ديني لا يسوغ.
فلا يعد أقلية من وجهة النظر الإسلامية: المستأمنون الذين يدخلون دار
الإسلام لضرورات تفرضها طبيعة العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب.
كما ينظم العلاقة بين الجماعة المسلمة والأقلية الحكم الشرعي لا معيار الكثرة
أو القلة العددية، ونقصد بالحكم الشرعي: اجتهاد ولي الأمر في تحديد الأوضاع
المنظمة لتواجد غير المسلمين في المجتمع الإسلامي بما لا يتعارض مع المقاصد
العامة للشريعة أو نصوصها القطعية.
ويعد أقلية: من فارق إجماع المسلمين بتأويل ديني لا يسوغ، أي: لا تجيزه
قواعد اللغة والشرع أي الجماعات المخالفة لإجماع الأمة ويدخل ضمن هؤلاء:
البهائيون، الإسماعيليون، الدروز، العلويون، بعقائدهم الباطنية المصادمة للإسلام، فهم ينتسبون للإسلام، ولكنهم ليسوا منه، فهم أحق بوصف الردة بتعبير عبد
القاهر الجرجاني وغيره.
ولا يدخل ضمن الأقلية من وجهة النظر هذه: الأكراد، البربر، الأتراك..
وغيرهم ممن تعتبرهم الدراسات الحديثة أقلية، وكما يقول فاضل رسول: إن طرح
علاقة الشعوب الإسلامية ببعضها ضمن مفهوم الأقلية والأكثرية هو أمر خاطئ؛
فالإطار الإسلامي من المفترض أن يجمع المسلمين من أي شعب وقوم، فلا توجد
هنا أغلبية وأقلية، وإذا اعترفنا بوجود انتماءات قومية مختلفة: فيمكن الكلام ربما
عن شعب صغير وآخر أكبر، ولكن ليس عن أكثرية وأقلية.
إن العلاقة بين الشعوب المسلمة ضمن البلد الواحد لا يمكن فهمها على أساس
علاقة الداخل بالخارج؛ فتاريخيّاً: كانت علاقة الشعوب الإسلامية ببعضها علاقات
مركز بأطراف، وليست علاقة داخل بخارج، وكانت علاقة المركز بالأطراف
قابلة للتداول، ولا تعتمد على القهر، أما الحالة التي نعيشها فهناك ضغط دائم من
الأطراف على المركز، ربما لصالح أطراف خارجية.. [11] .
إن معيار الحكم الشرعي الذي تتبناه هذه الدراسة لإعادة التعريف بمصطلح
الأقلية من وجهة النظر الإسلامية يتميز بالآتي:
أولاً: أن الحكم الشرعي معيار فوقي؛ بمعنى: أن الله هو الذي أمر المسلمين
بقبول غير المسلمين في إطار البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الإسلامية،
وأمر بالإحسان إليهم وحمايتهم إذا دفعوا الجزية وقبلوا التزام أحكام الملة، وعقد
الذمة بهذا المعنى، ورغم أن الذين يوقعونه بشر، إلا أن مصدره الله والرسول،
وهو بهذا واجب شرعي وتكليف إلهي لا يمكن مخالفته.
ثانياً: أنه معيار ثابت لا تعتريه التغيرات، ولا تكيفه أهواء البشر، وهو
منضبط، بمعنى أن استخلاص الحكم الشرعي محكوم بقواعد علمية صارمة يتم
الاجتهاد في ضوئها.
ثالثاً: أنه صريح؛ فهو لا يتتبنى خطاباً مراوغاً يحاول أن يلغي فيه
خصوصية غير المسلمين.