من قضايا المنهج
الحلقة الثالثة
[معوقات الحوار]
محمد محمد بدري
المتأمل في أكثر حواراتنا الإسلامية يجد أن بعضنا يحمل في كيانه جراثيم
تمنع الحوار الصحي، وتعوق تنمية أفكارنا وتلاقحها خلال الحوار! !
ومن هنا: فإن كل خلاف في حواراتنا لا يُنتج إلا حرق جسور التواصل بيننا، لنصل إلى حالة اللا حوار.. ومن ثم: الفرقة والتناحر..
ومن هذه الجراثيم أعني المعوقات ما يلي:
التعصب والحزبية:
جناحا التعصب هما: ضعف النفس وجهل العقل.. ومن ثم: يؤدي التعصب
إلى الحزبية التي يبتلى بها كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدين أو إلى
رئيس معظّم عندهم، فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقهاً ولا رواية إلا ما جاءت به
طائفتهم. [1] ولا يميلون إلا إلى الاجتماع برفقائهم في الطائفة نفسها أو الحزب
الذين يحملون أفكارهم نفسها، فإذا اجتمعوا بمن يخالفونهم في بعض الآراء؛ فهم
معزولون عنهم بحاجز نفسي هو اهتمامهم بسحق المخالف وإفحامه، بل وإذلاله! !
وهم لا يرون الوجود حولهم إلا من خلال هذا اللون الحزبي الذي يوقعهم في الكثير
من الأخطاء.. فهم مثلاً: يرون أن ما عندهم هو الحق المطلق، وأن ما عند
الآخرين هو الخطأ المطلق.. وهذا يدفعهم إلى التعصب ضد الآخرين والتحامل
عليهم، لأن هؤلاء الآخرين لا يمكن عندهم إلا أن يكونوا خبيثين، ليس ما عندهم
إلا خطأ لا يحتمل الصواب! ! ومن ثم: فهم لا يرون الاستماع إلى هؤلاء الخبثاء
الجهلاء! فضلاً عن مناقشة آرائهم وعرضها على بساط البحث والنظر.. بل كل
جهد الحزبيين إنما يوجهونه للدفاع عن آرائهم، واستحضار الأدلة والبراهين
للاحتفاظ بها.
وهكذا يتحول الحوار بينهم وبين الآخرين إلى سباق يحاولون فيه إسماع
الآخرين ما يستطيعون من الأفكار التي يحملونها، في جو من النزال والمصارعة
الحوارية التي تواجه فيها كل كلمة بضدها، وكل فكرة بما يقابلها، ويقترن فيها
رفع الصوت مع ضعف الحجة، بل إن بعضنا قد يلجأ إلى تخانة الأحبال الصوتية
تعويضاً عن عمق الحجة، وكما قيل بحق الماء العميق أهدأ إذ تجد الصخب
والضجيج على الشاطئ حيث الماءالضحل ولا جواهر ولا درر، وتجد الهدوء
والسكون لدى الماء الأعمق حيث النفائس والكنوز [2] .
إن الضحالة الفكرية وغياب نفائس الأدلة لدى الحزبيين مع التعصب
المذموم.. كل ذلك: من أكبر معوقات الحوار، ومن أهم أسباب تعكير صفو المتحاورين وترسيخ الجهالة في قلوب العوام والمقلدين، بل أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها [3] . ...
إننا نرى في جلسات الحوار بين الحزبيين كيف تتزاوج الأفكار دون أن
تنجب أفكاراً جديدة.. وما ذلك إلا لأن الحزبية تؤدي إلى العقم الفكري الذي لا يرى
في الحوار إلا لوناً من ألوان النزاع الذي يجب تجنبه إذا أردنا أن تبقى علاقاتنا
وصلاتنا.. وهذا من عجائب التفكير الحزبي، وأعجب منه: أن الحزبيين إذا
وجدوا آية من كتاب الله توافق رأيهم أظهروا أنهم يأخذون بها، وإذا وجدوا آية
نظيرها تخالف قولهم لم يأخذوا بها، وطلبوا لها وجوه التأويل وإخراجها عن
ظاهرها حيث توافق رأيهم، وهكذا يفعلون في نصوص السنة سواء: إذا وجدوا
حديثاً صحيحاً يوافق قولهم، أخذوا به، وقالوا: لنا قول رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كيت وكيت، وإذا وجدوا مئة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قولهم،
لم يلتفتوا إلى حديث منها [4] .
إن من يدخل ساحة الحوار بقوالب فكرية معدة مسبقاً وانتماءات حزبية مقررة
سلفاً: إنما يدخل الحوار لتقرير رأيه، والمدافعة عنه، والتعصب له، وليس عنده
الاستعداد أبداً أن يتنازل عن رأيه، حتى وإن تبين له خطؤه.. ومن هنا: تتصدع
جسور التواصل بين المتحاورين، ولا يصل الحوار إلى أي نتيجة بحال.
إن الحوار الفعال يحتاج دائماً إلى طاقة عالية من الحب، تحرر العقل من
الخوف، وتوفر الأمان الفكري الذي يسمح بتبادل الأفكار على أساس من رؤية
واضحة ومتحررة من القيود الفكرية، وفي مقدمتها قيدا التعصب والحزبية.
التصنيف المتعسف:
يمثل هذا المرض الحواري (التصنيف المتعسف) لوناً من ألوان الإعاقة الذاتية
لسير الحوار في طريقه الواضحة المستقيمة.. ذلك أن أصحاب هذه الطريقة في
التفكير يسيطر عليهم التصنيف المتعسف وغير الحقيقي للآخر، ويجعلون من هذا
التصنيف الخاطئ ما يمكن أن نطلق عليه الفلتر الذي يتلقون من خلاله ما يعرضه
عليهم الآخر من أفكار، بل ليس عندهم أدنى استعداد لتغيير هذا الفلتر مهما أتى
الآخر من أقوال أو أفعال تدل على تغير أفكاره! ! فالحوار يبدأ بالتصنيف وتُفسر
الأقوال والأفعال بناءً على هذا التصنيف حتى ولو كانت لا تدل عليه! !
ومثل هذه الحال يشبه تماماً ما حكاه الإمام الشاطبي (رحمه الله) عن الإمام
الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال:
عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين
والمنكرين.. إن صدقت من دعاني لموافقته سمّاني موافقاً، وإن وقفت في حرف
من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب
والسنة بخلاف ذلك وارد سمّاني خارجيّاً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني
مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالميّاً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيّاً،
وإن كان في الأعمال سماني قدريّاً، وإن كان في المعرفة، سماني كراميّاً، وإن
كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيّاً، وإن كان في فضائل أهل البيت،
سماني رافضيّاً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما،
سماني ظاهريّاً، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيّاً، وإن أجبت بتأويل، سماني
أشعريّاً وإن جحدتهما، سماني معتزليّاً، وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني
شافعيّاً، وإن كان في القنوت، سماني حنفيّاً، وإن كان في القرآن، سماني حنبليّاً،
وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث
محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم..
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون عليّ من أحاديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني
غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله (تبارك وتعالى) ، ولن يغنوا عني من الله
شيئاً [5] .
فانظر (رحمك الله) إلى تلك الحال التي حكاها الإمام ابن بطة، وقارنها
بواقعنا.. هل تجد فرقاً؟
إن الكثيرين منا يدخلون الحوار مع الآخر وقد صنفوا هذا الآخر على أنه من
معسكرات الخصوم.. ومن ثم: يبدؤون في مصارعته عبر حوار شعاره: قاتل أو
مقتول، تستخدم فيه الأدلة لتشويه الآخر واتهام نواياه والطعن في مقاصده، ثم
يحشد المحاور مع الأدلة الأتباع المقربين عبر تعبئة عامة مفادها أن من ليس منا
فهوعلينا وأنه لا يمكن بناء كياننا إلا عبر تدمير كيانات الآخرين! ! .
ويبدأ الأسلوب العجيب في التصنيف؛ فيدان الفرد عبر تصنيف خاطئ
متعسف، ثم يدان كل شخص ينتسب إليه مجرد انتساب.. فتكون النتيجة الحتمية
هي ضمور الحوار الإيجابي، ثم يتطور الأمر عبر الروح الانفعالية ليصل إلى
موت الحوار تماماً.. ومن ثم: تحدث الفرقة المقيتة والتصارع المخزي.. تلك
الفرقة وذلك التصارع اللذان ينتجهما الزهد في سماع الآخر، فضلاً عن الرغبة في
التعاون معه بسبب من أخطر أمراضنا الحوارية وهو: التصنيف المتعسف.
الذوات المتورمة:
الإحساس بالذات في إطار إنجاز حقيقي، قد يكون أمراً مقبولاً.. أمّا الشعور
بتضخم الذات مع العجز والفشل فهو ما نقصده بمرض الذوات المتورمة؛ يرمونهم
بالسطحية، وضيق الأفق، والخلو من عمق الفهم.. بل إنهم يرون الآخرين
قاصرين في تفكيرهم، لم يصلوا بعد إلى النضج الذي وصلوا هم إليه! ! .
إنهم يرون أنفسهم الأساتذة الذين يفهمون كل شيء، ويعرفون كل الأمور! !
إنهم يرون أنفسهم أساتذة يجب أن يُعَلِّموا ولا يتعلّموا، ومن ثم: لا يقبلون
الاستماع إلى الآخر أيّاً كان هذا الآخر وإذا جلس أحدهم في حوار مضطرّاً، فهو
يحس في أعماق نفسه أنه أعلى من المكان الذي يجلس فيه، وأنه لا حاجة له في
سماع ما يقوله الآخر! !
إن الواحد من هؤلاء يمارس ما لا يصلح له من العلوم دون تأهل اغتراراً
بقدرته وذهولاً عن حقيقة علمه ومجاله، وتسمعه يتكلم فيما لا يحسنه، ولم يبلغ
الدرجة التي تؤهله للخوض فيه وإبداء الرأي في مسائله، فيضع الأمور في غير
موضعها فيضل ويضل [6] . ويدفعه تورم ذاته إلى ترك الحق الذي عليه الآخر،
كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: الكبر: مَنْ بَطِرَ الحق
وغَمَطَ الناس [7] ، ولا شك أن هذا الصنف من المحاورين لا يمكن أن يكون
حوارهم إلا فرصة لتورم ذواتهم، وليس لحل المشكلات أو الاختلافات المعروضة
للحوار، ولذلك تراهم يستبدون بآرائهم، ويسرقون الأدلة والبراهين لتسفيه الآخر
والتهكم منه والاستخفاف به، مع اعتقاد خفي بأن ما يصدر عنهم سداد لا خطأ فيه،
وأن ما يصدر عن الآخرين خطأ لا سداد فيه، ومن ثم: يعز عليهم الرجوع عما هم
عليه، فيبقون على أخطائهم لا يجدي معهم تفهيم ولا محاورة! !
إن المحاور أجدر الناس بالبعد عن الكبر بشتى صوره، فإن الطرف الآخر إذا
رأى منه ازدراءً له واحتقاراً بالقول أو الفعل فإن ذلك ينفره منه، ويؤدي إلى
كراهته وكراهة ما عنده من الحق، لأن الناس جبلوا على محبة المتواضعين
وكراهية المتكبرين [8] ، وما أفسد علينا أكثر حواراتنا إلا التعالي على الآخرين
وتجاهلهم والزهد فيما عندهم بسبب أحد أمراضنا الحوارية، وهو مرض تورم
الذات.
النظرة الأحادية:
النظرة الأحادية هي لون من ألوان الأمراض الحوارية التي يمكننا أن نطلق
عليه: عمى الألوان، حيث تسيطر على صاحبه فكرة واحدة، يرفض ما عداها من
الأفكار.. ففكرته في حقيقتها سجن يمنعه من الاطلاع على أفكار الآخرين،
ونظرته عمى يحول بينه وبين رؤية البدائل المطروحة من الآخرين، فضلاً عن
الإفادة منها.
إن أصحاب النظرة الأحادية يرون أنهم يملكون كل المعرفة، بينما لا يرون
أن الآخرين يمكن أن يملكوا ولو جزءاً من هذه المعرفة.. وحالهم في ذلك يشبه حال
من ذكرهم الإمام الغزالي في الإحياء في قصة رمزية تستحق التأمل مفادها: أن
ثلاثة من العميان أُدخلوا على فيل ولم يكونوا عرفوه من قبل فوضع أحدهم يده على
رجله، ووضع الآخر يده على ذيله، ووضع الثالث يده على بطنه، فلما خرجوا
سألوهم: ما الفيل؟ فقال الأول: الفيل: كسارية المسجد، وقال الآخر: الفيل:
كخرطوم طويل به شعر كثيف، وقال الثالث: الفيل: الجبل العظيم الأملس..
فأدخلوا مرة أخرى على الفيل، وأمسكوا بجميع أجزائه، وعندها ضحكوا من
تعريفاتهم السابقة للفيل، واستطاعوا أن يصفوه على حقيقته.
وهكذا أصحاب النظرة الأحادية، يرى الواحد منهم جزءاً من الحقيقة، ويظن
أنه يرى كل الحقيقة؛ فيصف الأمور بغير أوصافها.. فإن حدّثه الآخر عن بقية
الحقيقة التي يجهلها، لم يكلف نفسه مجرد محاولة التعرف على ما يريد الآخر قوله، بل يَنْقَض عليه متهماً إياه بالضلال والانحراف والجهل.. ولا يترك له فرصة
الحوار، بل يسعى لمصادرة آرائه والحجر عليه، فيصم أذنيه ويغلق عينيه، فلا
يسمع له رأياً ولا يقبل له طرحاً.. هكذا.. مهما بلغ الآخر من الفهم والتخصص
فيما يحدثه فيه ويعرضه عليه! !
إن النظرة الأحادية هي نظرة تفتقد إلى الشمولية والتوازن وضبط النسب،
ولذلك: فهي من المعوقات الكبيرة في طريق نجاح حواراتنا، فهل نتخلص منها؟
الحجة الدائرية:
إذا كانت الحجة الرأسية هي إحدى ميزات الحوار.. وكانت الحجة الأفقية
هي من عيوب الحوار [9] ، فإن من معوقات الحوار ما يمكن أن نطلق عليه:
الحجة الدائرية.. فما هي تلك الحجة؟
إن الحوار مثلاً يكون حول المستوى التربوي لأفراد الحركة الإسلامية،
فيطلق أحد المتحاورين حكماً عامّاً بأن المعاصرين منهم ليسوا على مستوى
القدامى.. فيعترض الثاني ويسمي اثنين أو ثلاثة من أفراد الحركة الإسلامية المعاصرين.. وهنا يقول الأول: نعم.. ولكني لا أرى أن من ذكرتهم من المعاصرين بالمعنى الصحيح.. فيجيبه الثاني: وكيف تميز المعاصرين من القدامى؟ فيرد الأول: باستطاعتك أن تعرفهم بمستواهم التربوي الفائق!
وهكذا.. يعود الحوار إلى المكان نفسه الذي بدأ منه وكأنه يسير في دائرة! ! .
ولا شك أن أصحاب هذه الحجة الدائرية يغلب عليهم التنظير والسفسطة، مع
قلة من طرق مسدودة.
ومن هذه المغالطات الحوارية: أن يعمد أحدهم إلى فكرة الآخر فيقطعها أجزاءً
صغيرة، ثم يخضع كل جزء لامتحان دقيق ليظهره بلا قيمة وبلا فائدة، فإذا انتهى
من جميع أجزاء الفكرة خلص إلى تفاهة فكرة الآخر على الجملة! !
ومن مغالطات أصحاب الحجة الدائرية: أنهم يحاولون إحراق الجزئيات
بعرض الكليات.. فإذا تحدث المحاور عن ضرورة الحجاب مثلاً، تأوه هؤلاء
وبدؤوا في عرض آلام الأمة وأحزانها ليحيدوا عن مواجهة الموضوع الأساس
للحوار [10] .
ومن مغالطاتهم أيضاً: أن يستدل الواحد منهم على ما يراه بمؤهلاته العلمية،
أو قناعته الشخصية، أو يمينه المغلظة.. هكذا، وكأن مؤهلاته تصلح بديلاً عن
الحجة الواضحة.. أو أن قناعته الشخصية يمكن أن تحل محل الفكرة المقنعة.. أو
أن يمينه المغلظة يمكن أن تكون دليلاً؟ !
وهكذا تتعدد المغالطات الحوارية من الاحتجاج بالواهيات من الأدلة إلى
الاحتجاج بالكثرة من الدهماء على الباطل لمجرد كثرتهم.. إلى غير ذلك.
ومن طرائف هذا الصنف من المحاورين: ما حكاه الماوردي (رحمه الله) قال: رأيت رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه خصمه بدلالة صحيحة،
فكان جوابه أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما
لم يذكره الشيخ لا خير فيه! ! [11] .
فتأمل (رحمك الله) هذه الحجة وأمثالها مما لا يفيد معها منطق ولا يجدي معها
برهان.. ألا ترى أن الحوار لا يمكن معها الاستمرار فيه؟ وأن النتيجة البدهية لها
هي دوران الحوار في حلقة مفرغة بسبب من ترك محكمات الأدلة إلى متشابهاتها،
بل إلى ما ليس من الأدلة، وإنما هو حجة وهمية نطلق عليها جدلاً الحجة
الدائرية ...
*وثمة معوقات أخرى لا توقف الحوار فقط، بل يصبح الحوار معها أمراً
مستحيلاً، نذكر منها أحدها لكي ندرك أنه مع التزامنا بضوابط الحوار، وإتقاننا
لأساليبه، ومعرفتنا بمعوقاته.. فإن كل هذا لا يعني بالضرورة قبول الآخر لما
نقول من أفكار أو نعرض من آراء..
وهذا العائق هو..
كراهية الآخر:
في بعض الحوارات يظهر الحق جليّاً، ولكن يبقى صراع الآخر قائماً بتأثير
عوامل نفسية لا يجدي معها دليل ولا منطق.. ومن هذه العوامل النفسية: كره
المحاور لمن يحاوره، ذلك الكره الذي يدفعه إلى رفض ما عنده وإن كان صواباً..
وذلك كحال اليهود مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كانوا يعرفون الحق قبل
ظهوره -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاءهم هو به لم ينقادوا له حسداً وكرهاً.
إن من يدخل الحوار وقد انطوت نفسه على كره الآخر تراه يشتد في الحوار
حول ما يعرضه الآخر عليه من أمور لو أتته من غير هذا المحاور لقبلها بلا
جدال.. ومن هنا: فإن أمثال هذه الحوارات تفتقد الاعتماد على الحجة، بل هي في الحقيقة حوارات (طرشان) لا يسمع طرفٌ فيها الآخر، وإنما يتفنن كل طرف في أساليب العداء تجاه الآخر، تلك الأساليب التي تبدأ بوصم المخالف بأقبح الألقاب وأحط الأسماء، ثم تنتقل خطوة أخرى في العداء: فيبدأ المكر والكيد والتربص بأمر السوء حتى يصل العداء إلى أسلوب لأقتلنك حيث يرى الآخر أن قتل محاوره هو البديل للحجة والبيان، فيحل السيف والسنان محل القلم واللسان، ... وتصبح المواجهة الوحشية والإرهاب والعدوان هي وسائل التحاور.. أو إن شئت قلت: وسائل فرض الرأي على الآخر..
وهكذا يعود الحوار إلى جاهلية الفكر التي واجهها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالدعوة لتدبر الأمور والتفكر فيها، بينما يريد من يتربص بنا السوء من بني
جلدتنا أن يرجعونا إلى التحاور وفق ضوابطها في الصراع والتناحر، وعبر
أساليبها التي تحرق جسور التواصل بين المتحاورين لتصل بهم إلى الفرقة والتشرذم
والشتات والعار..
وبعد..
فهذه المقالة ليست رأياً لي أسجله، وإنما هي محاولة للمشاركة في تغيير واقع
حواراتنا عن طريق الكلمة المكتوبة.. ولست أدعي لهذه المحاولة الكمال، وإنما
هي خطوة على الطريق يعوزها التواصل المستمر.
فلتكن هذه المقالة دعوة للكتابة المستمرة والتذكير الدائم بقواعد الحوار وفنون
التحاور.
ولتكن هذه المقالة وصية لي ولإخواني بعدم الانقطاع عن الكتابة في هذا
الموضوع المهم تحت دعوى أننا عذرنا أنفسنا، وأدينا أمانة الكلمة بما كتبناه ذات
مرة حول لمحات في فن الحوار.