دراسات اقتصادية
نظرات في موضوع بيع القطاع العام للأفراد
د.محمد بن عبد الله الشباني
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي باعتباره نظاماً اقتصاديّاً وقوة عالمية، وسَعْي
الدول المكونة والتابعة له إلى التحول إلى نظام السوق، وتبني الفكر الرأسمالي في
تنظيم اقتصاديات تلك الدول، وتفرد النظام الرأسمالي بتوجيه الاقتصاد العالمي
والترويج لهذا الفكر: بأن يكون وحده الفكر الموجه للسياسات الاقتصادية للدول
النامية، بما يمتلكه هذا الفكر من مؤسسات اقتصادية عالمية تتحكم في الحركة
الاقتصادية العالمية من خلال: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات
المالية الأخرى المنتشرة في الدول الصناعية الرأسمالية.
لقد أخذت الدول الإسلامية التي كانت تتبع منظومة الاتحاد السوفييتي باعتباره
نظاماً اقتصاديّاً يتبنى الفكر الاشتراكي القائم على تملك الدولة لمختلف الأنشطة
الاقتصادية بتغيير سياستها الاقتصادية بعد سقوط هذا النظام، والتحول إلى اقتصاد
السوق القائم على الفكر الرأسمالي المتهود بدون دراسة للواقع التنظيمي
للاقتصاديات الاجتماعية للدول الصناعية الرأسمالية، وإنما اتجهت إلى تبني ما
يمليه صندوق النقد الدولي من سياسات اقتصادية منزوعة من إطارها الذي قامت
عليه تلك المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وبدون النظر إلى المسيرة التاريخية
للفكر الرأسمالي من ناحية التشريعات التطبيقية.
إن مفهوم (الخصخصة) كما يتم تداوله في الإعلام هو: تحويل الملكية العامة
للأنشطة الاقتصادية المملوكة للدولة إلى الأفراد والقطاع الخاص، وطرح هذه
الأنشطة حتى لرؤوس الأموال الأجنبية، بل إنه يتم تشجيع رؤوس الأموال
الأجنبية على القدوم للتجارة في هذه الأنشطة؛ ويعود ذلك إلى أن معظم أفراد
شعوب الدول الإسلامية لا يتوفر لديهم رأس المال المدخر الذي يستطيعون به تملك
هذه الأنشطة؛ ولهذا قامت الدول الإسلامية بتقرير سياسات استقطاب رؤوس
الأموال الأجنبية، لشراء هذه الأنشطة الاقتصادية وإدارتها وبيعها إلى مواطني تلك
الدول. إن هذا التوجه سيكون له أثار سياسية متمثلة في تدخل الدول الصناعية في
السياسات الإدارية والإنتاجية لهذه الأنشطة: من خلال حماية رؤوس أمواله
المستثمرة في هذه المشروعات المباعة إلى القطاع الخاص الأجنبي.
وتدور المبررات المطروحة من قبل الأنظمة السياسية التي ترغب في تحويل
أنشطتها الاقتصادية المملوكة للقطاع العام إلى القطاع الخاص والانفتاح على اقتصاد
السوق ضمن إطار فكرة تفعيل الاقتصاد والتخلص من الأنشطة المسببة لخسارة
الاقتصاد الوطني؛ نتيجة لتدني الكفاءة التشغيلية، وغياب الحافز لدى الإدارة وغير
ذلك من المبررات، بجانب الرغبة في الحصول على التمويل من قبل المؤسسات
المالية الدولية والمؤسسات المالية الرأسمالية في الدول الصناعية.
إن تبني مفهوم (الخصخصة) لم يقتصر على الدول الإسلامية التي كانت تأخذ
بنظام الاقتصاد المخطط، الذي يقوم على تملك الدولة لمصادر الإنتاج وتقليص دور
القطاع الخاص، بل شمل الأمر تلك الدول التي كانت تُحسب ضمن معسكر اقتصاد
السوق، وتسمح للأفراد بتملك مختلف الأنشطة الاقتصادية، ولكنها تولت إدارة
وتملك أنشطة اقتصاديات المنافع العامة أو أنشطة اقتصاديات تنمية واستغلال
الموارد الطبيعية، لهذا: فإن من الضروري مناقشة هذا التوجه وإبراز الرؤية
الإسلامية، وهل يمكننا استخلاص تصور من خلال منهج الإسلام لكيفية إدارة
الاقتصاد بحيث يتم تحقيق الكفاية والفاعلية للاقتصاد مع احتفاظه بإطار حقوق الفرد
في تملك المال؟ .
كما سبق أن أوضحت في مقالات سابقة: فإن الإسلام يعطي أهمية خاصة
للمال وحق الفرد في التملك بدون حدود من حيث الكمية وفق ضوابط الحلال
والحرام ومراعاة مقاصد الشريعة الأخرى.
إن حماية الناس من الاستغلال والاحتكار فيما يتعلق بالحصول على المنافع
العامة سواء أكانت منافع خدمية مثل الماء والكهرباء، أو منافع مادية من الأمور
التي أولاها الإسلام عناية خاصة.
إن من أهم الملامح والركائز التي يتميز بها النظام الاقتصادي الإسلامي:
حماية أفراد المجتمع من وقوع القطاعات الاقتصادية التي يحتاجها الناس في مجملهم
في قبضة القوى المالية الفردية أو الجماعية، لقد وردت جملة أحاديث وضعت
الإطار العام لهذا التوجه، فمن ذلك: ما رواه أبيض بن حمال: أنه استقطع الملح
الذي يقال له ملح سدّ مأرب، فأقطعه له، ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في
الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ماء، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العِدّ،
فاستقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض بن حمال في قطيعته في الملح،
فقال قد أقلتُك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- هو منك صدقة، وهو مثل الماء العِدّ، من ورده أخذه [1] فهذا الحديث
يضع قاعدة عامة تتمثل في: أنه لا يجوز منح امتياز أو تمليك فرد أو جماعة من
الأفراد لأي منتج خدمي أو سلعي إذا كان هذا المنتج يحتاج إليه عامة الناس إلا
ضمن شروط معينة تحفظ للناس حقوقهم، وتمنع عنهم الاستغلال، وتحقق منفعة
لاقتصاد المجتمع.
ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام [2] ،
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ، والنار [3]
وهذه الأحاديث في مجملها تؤكد: ضرورة أن يكون استغلال المنافع العامة التي
يحتاج إليها الناس؛ سواء أكانت استغلال موارد طبيعية أو بيع منافع عامة مثل:
منفعة الكهرباء، أو المواصلات، أو التعليم، أو غيرها ضمن نطاق العدل، بحيث
لا يؤدي منح بيع هذه المنافع إلى التحكم في المادة المنتجة أو المنفعة أو الخدمة
المقدمة، وأن على ولي الأمر وضع القواعد والأسس التي تحفظ حق الأمة بدون أن
يؤدي ذلك إلى تعطيل استغلالها وحرمان اقتصاد المجتمع المسلم منها، وفي الوقت
نفسه الالتزام بالتوجيه النبوي الذي أشرت إليه والذي يؤكده أيضاً ما رواه أبو داود
والطبراني في الكبير، عن قيلة بنت مخرمة، قالت: قدمنا على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، قالت فقدم صاحبي، تعني: حريث بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين
بني تميم بالدهناء: ألا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال: اكتب
له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري،
فقلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هي هذه
الدهناء عندك مُقَيّدُ الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، قال:
أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر،
ويتعاونان على الفتان [4] ، إن هذا الحديث يضع قاعدة عامة في التنظيم
الاقتصادي، وذلك: بأنه لا يجوز تخصيص مورد أو منفعة عامة لفئة من الناس
دون أخرى إذا كان هذا التخصيص سوف يؤدي إلى الإضرار بالآخرين، وإن مثل
هذه الإجراءات تثير الفتن والمشاكل في المجتمع.
على ضوء الأدلة السابقة التي تحد من تملك الموارد الطبيعية ذات النفع العام، وكذلك تملك استغلال المنافع العامة ومنع إقطاعها سواء أكان إقطاع تملك أو
إقطاع استغلال منفعة، يثور هنا تساؤل: ما هو التصور الذي يطرحه الإسلام لحل
مشكلة استغلال الموارد المتاحة للمجتمع وإدارة أنشطة اقتصاديات المنافع العامة،
وفق إطار تشجيع تملك هذه الأشياء، أو تمليك استغلال منافع الخدمات العامة،
التي يحتاج الناس إليها مثل: الكهرباء، والهاتف، والمواصلات.. وغير ذلك من
المنافع الخدمية التي يحتاج إليها الناس؟
إن النظرة التكاملية الشمولية التي يتميز بها النظام الإسلامي عن بقية الأنظمة
البشرية تمد الدارس لشريعة الإسلام بالحلول، وذلك من خلال الدراسة المباشرة
لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ، فيجد فيهما المخارج العملية لأي إشكال قد
يعترضه، سواء أكان ذلك في المجال التنظيري أو العملي.
إن الإشكالية التي قد تواجهنا هي: كيف يتم التوفيق بين الرغبة في استغلال
الموارد المتاحة، وإشباع حاجات الناس، وتحقيق الكفاءة والفعالية في إدارة
الأنشطة الاقتصادية؟ .
إن معالجة هذه الإشكالية يتمثل في اتباع الآتي:
إبقاء أصل ملكية الموارد الطبيعية بيد الدولة، ومشاركة الدولة في استثمار
هذه الموارد، مع إتاحة الفرصة للأفراد باعتبارهم عنصراً من عناصر الإنتاج
(وهو عنصر العمل) بالمشاركة في استغلال هذه الموارد، مع إشراك رأس المال
من خلال استغلال رؤوس الأموال عن طريق: قيام الدولة بتوفير الأصول الثابتة
التي تساعد قوة العمل على ممارسة النشاط بواسطة المشاركة في العملية الإنتاجية
بالعمل، ومشاركة أصحاب رؤوس الأموال من خلال: توفير رؤوس الأموال
التشغيلية، يُستدل على ذلك بدليلين: الأول ما رواه البخاري مرسلاً، عن قيس بن
مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث
والربع، وزارع علي وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين، وقال
عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل
عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم
كذا [5] ، وأشار البيهقي في سننه: أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران واشترى
عقرهم وأموالهم، وأجلى أهل ضمك وتيماء وأهل خيبر واستعمل يعلى بن منبه،
فأعطى البياض على: إن كان البذر والبقر والحديد من عمر، فلعمر الثلثان ولهم
الثلث، وإن كان منهم فلهم الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين
ولهم الثلث.
إن عمل عمر (رضي الله عنه) مستمد من فعل رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) : أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر لليهود؛ على أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها [6] إن هذا المنهج الذي فعله رسول الله -صلى الله ... عليه وسلم-؛ وتبعه في ذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تطبيقاً لعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدة مهمة في إدارة الاقتصاد الإسلامي فيما يتعلق بكيفية استثمار واستغلال عناصر الإنتاج مع الإبقاء على روح المبادأة الفردية والبعد عن البيروقراطية، فَفِعْلُ عمر (رضي الله عنه) يحدد لنا منهجاً يمكن ممارسته في هذا العصر، بل إن ممارسته سوف تحل كثيراً من المشاكل فيما يتعلق منها بإيجاد الموارد المالية للدولة بدون اللجوء إلى فرض الضرائب؛ وذلك من خلال قيام الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج بتوفير ما يعرف محاسبياً بالأصول الثابتة، وتفويض استغلال هذه الموارد الطبيعية إلى أفراد الأمة من خلال إعطائهم حق
الاستغلال بدون تدخل في كيفية الإدارة، على أن يكون نصيب الدولة مربوطاً
بالإنتاج وليس بالربح، فالدولة في هذه الحالة لا تتدخل في كيفية إدارة النشاط،
ولكنها تتحصل على نسبة من الدخل يكون مصدراً من مصادر الواردات العامة،
وبهذا الأسلوب نكون قد حققنا الاستغلال لهذه الموارد بالأسلوب الذي يحقق الكفاية
والفعالية الإدارية بعيداً عن تدخل الدولة في إدارة النشاط، والشيء نفسه يمكن
تطبيقه على أنشطة خدمات المنافع العامة، فمثلاً: حق النقل الجوي أو البري،
يمكن للدولة أن تجعله مورداً ماليّاً لها، وفي الوقت نفسه تتحقق الكفاءة في الإدارة،
من خلال ما يمكن أن نطلق عليه تمليك إدارة النشاط، فتقوم الدولة مثلاً: بإنشاء
السكك الحديدية وتوفير العربات سواء أكان ذلك لنقل البضائع أو الركاب، أي:
توفير الأصول الثابتة، ثم عرض إدارة تشغيل هذه المنفعة على الأفراد أو الشركات، مقابل جزء من الدخل العام يتناسب مع ما صرف من أصول ثابتة، أي: أن
يكون نصيب الدولة من الدخل يعادل قيمة الأصول الثابتة المستثمرة في هذ النشاط
ونسبة إضافية تكون عائداً لاستثمار مال الدولة؛ ليكون مورداً من موارد الخزينة
العامة، بهذا الأسلوب: فإن الدولة تحقق أمرين: الأول: توفير الخدمة التي يحتاج
إليها الناس واستغلال الموارد الطبيعية، وتحقيق عائد مالي يكون رافداً من روافد
الإيرادات العامة.
الثاني: تحقيق الفعالية الاقتصادية والبعد عن البيروقراطية الحكومية في إدارة
الأنشطة الاقتصادية من خلال: تحفيز القوى البشرية ورأس المال المتاح من قبَل
أفراد الأمة، لتحقيق الفعالية للنشاط الاقتصادي الذي هو ميزة النظام الرأسمالي.
الدليل الثاني: ما رواه بطرق عدة وروايات متعددة الحافظ أبو عبيد القاسم بن
سلام في كتابه الأموال، فقد أورد عدداً من النصوص حول ما ارتآه عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) ووافقه عليه الصحابة فيما يتعلق بالأراضي المفتوحة من
إبقائها ملكاً عامّاً للمسلمين، ووضع الخراج عليها؛ فقد روى عن إبراهيم التميمي
أنه قال: لما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، فإنا افتتحناه عنوة،
قال: فأبى وقال: فمن لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا
بينكم في المياه، قال: فأقر أهل السواد في أراضيهم، وضرب على رؤوسهم
الجزية وعلى أراضيهم الخراج، ولم يقسمها بينهم [7] . إن تصرف عمر (رضي
الله عنه) بإبقاء الأرض للمسلمين وتحصيل خراج عليها، إنما هدف منه توفير
الموارد المالية للدولة، بدليل ما أخرجه البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- خيبر [8] ، فالعلة التي بنى عليها عمر (رضي الله عنه)
اجتهاده واتخاذه قراراً بوقف الأرض بجعلها ملكاً للمسلمين عامة: هو العمل على
توفير مصدر دائم لدخل الدولة، حتى يتم الصرف منه على شؤون المجتمع، هذا
الاجتهاد الذي بنى عليه عمر (رضي الله عنه) حكمه، إنما كان بناءً على استشارة
الفقهاء وعلماء الصحابة، فقد أورد الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رواية أخرى
عن هذا الموضوع بسنده، قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس، قال: قدم عمر
الجابيه فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره! ؛ إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم مم يبدون، فيصير ذلك إلى
الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدّاً، وهم لا
يجدون شيئاً، فانظر أمراً ليسع أولهم وآخرهم [9] .
ووفقاً لذلك التعليل وتلك النظرة الثاقبة للصحابي الجليل معاذ بن جبل (رضي
الله عنه) : اتخذ عمر قراره بإبقاء الأرض، فأبقى الأرض يجبي ريعها لبيت مال
المسلمين، فهل يمكن الأخذ بهذا الإجراء فيما يتعلق بالأراضي البور التي تحتاج
إلى إصلاح، فتقوم الدولة بذلك، وتهيئها للمستغلين، وتنال جزءاً من إنتاجها، مع
إبقاء الأرض لصالح الأجيال القادمة، وعدم إقطاعها، وكذا: ما يختص بتمليك
استغلال المنافع العامة؟ . لكن السؤال الذي يثور هنا هو: كيف يمكن التوفيق بين
هذا والنصوص التي أشارت إلى جواز إقطاع ولي أمر المسلمين تمليك الأرض قبل
إحيائها، حسب ما جاء في الحديث: الذي رواه هاشم بن عروة عن أبيه أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم
حق [10] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق [11] ، وما رواه عبد الله بن أبي بكر قال: جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستقطعه أرضاً فقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرضاً طويلة عريضة قطعها لك، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، قال: انظر ما قويت عليه منها فأمسكه، ومالم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله؛ شيء اقتطعنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين [12] .
إن الأخذ بفكرة إبقاء ملكية الأراضي وحق إبقاء استغلال أنشطة خدمات
المنافع للدولة قياساً على ما عمله عمر مع أراضي البلاد المفتوحة، يحقق مصلحة
عامة؛ حيث: محدودية الأراضي البور سواء أكانت قد مُلكت في الماضي وهجرت
ولا يعرف مالكها، أو لم يتم تملكها وإحياؤها، على أن يقتصر الإقطاع على ما يتم
إقطاعه لأغراض السكنى، وأن يكون الإقطاع إقطاع استئجار، أي: إنه إقطاع
مشروط بالاستغلال، وإن للمُستَقْطَع له أن يتملك ويتصرف، لكن بشرط قدرته
على الاستغلال واستمراريته واستثماره في مجاله الذي من أجله منح، أما في حالة
عجز من أقطع له أو من تملكه بعد من استقطعه وعجز عن استغلاله: فترجع ملكية
الأصل إلى الدولة، وذلك في حالة عدم وجود أصول استثمارية موضوعة على
الأرض المقطوعة، وأما في حالة وجود أصول موضوعة لغرض الاستفادة من
الأرض: فتمنح لمن يقدر على استغلالها على أن يعطى المالك غير القادر على
الاستغلال جزءاً من الإنتاج لقاء هذه الأصول الموضوعة وفق القاعدة الشرعية
لاضرر ولا ضرار، وبهذا نبقي على سريان نصوص أحاديث الإقطاع، وفي
الوقت نفسه عدم تعطيل الأرض بحجة إقطاعها، والأخذ بهذا الرأي قد استند فهمه
إلى ما رواه الدارقطني وأبو داود عن عبيد الله بن حميد عن عبد الرحمن الحميدي
أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من وجد دابة قد
عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها الرجل فأحياها فهي له [13] ، ويمكن
أن يقاس على هذا الحديث الأراضي المستقطعة وغير المستغلة وأي أصل مملوك لا
يستغل لعجز مالكه عن استغلاله، بأن تقوم الدولة بمنحه لمن يقدر على استغلاله؛
وفق إجراءات تنظيمية تحقق العدالة والمصلحة العامة للمجتمع المسلم.
ثانياً: الرقابة على أسعار بيع المنتجات السلعية للموارد الطبيعية والمنافع
الخدمية، التي مُنح الأفراد تملك منافعها من خلال تشغيل هذه الأنشطة بوساطة
العمل أو بالعمل ورأس المال، بحيث تُراعي هذه الأسعار مصلحة المنتفعين بهذه
السلع والخدمات من ناحية، وتحقيق عائد مجز لمن يقوم بالاستثمار، سواء أكان
ذلك من خلال تقديم المال، أو الجهد، لإدارة تشغيل هذه الأنشطة الاقتصادية من
ناحية أخرى.
والسؤال الذي يبرز هنا: هل يجوز التدخل في تحديد الأسعار، أي: تسعير
المنتجات والخدمات؟ وما هي حدود هذا التدخل في حالة جوازه؟ ، وما هي
الوسائل التي هي أكثر فعالية لتحقيق التوازن لحماية مصالح المستهلكين من ناحية،
وعدم الإضرار بمصالح المنتجين وبائعي منافع الأنشطة الخدمية من ناحية أخرى؟ .
تتطلب عملية حماية المستهلكين التدخل في تحديد أسعار المنتجات السلعية أو
الخدمية، وعملية التدخل في التسعير سوف تؤدي إلى تعطيل فعالية قانون العرض
والطلب، وبالتالي: حصول الخلل في الأنشطة الاقتصادية، لما للتدخل في تحديد
الأسعار من أثار سلبية على فعالية وكفاءة النشاط الاقتصادي، كما أن ترك
المستهلكين تحت رحمة المنتجين وبخاصة تلك السلع والخدمات التي يحتاج إليها
الناس في غالبيتهم فيه ظلم لهم وفتح لباب الاحتكار، لقد وردت أحاديث تمنع
التدخل في التسعير؛ من ذلك: ما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة: أن
رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، سعّر،
قال: بل أدع، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله سعّر، قال: بل الله يرفع
ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة [14] ، كما روى
ابن ماجة عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، قد غلا السعر فسعّر لنا، فقال: إن الله هو
المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ يطلبني
بمظلمة في دم ولا مال [15] .
إن هذه الأحاديث تؤكد أن الإسلام لا يحبذ التدخل في التسعير، بل يترك
الأمر لقوى السوق، وهي التي تصحح الاختلال ما بين العرض والطلب، لكن
هناك آثاراً ذكرت تصرفات صدرت عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد يفهم
منها معارضة هذه الأحاديث، ومن ذلك: ما رواه الإمام مالك والبيهقي عن سعيد بن
المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيب له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا وفي
رواية للبيهقي: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه
غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين لكل درهم، فقال له
عمر (رضي الله عنه) حُدّثنا بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون
بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت،
كما روى الإمام مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) يأخذ من النبط من الحنطة والزبيب نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر
الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر، كما روى البخاري: أنهم كانوا
يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبعث
عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث يباع الطعام [16] ،
وذكر البيهقي في رواية: أن الغاية من منع البيع: حتى ينقلوه إلى سوقه؛ لئلا
يغلو الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع أرخص، يتضح من هذه
الأحاديث أن هناك نوعاً من التدخل في التأثير على التسعير، بل إن ما طلبه عمر
(رضي الله عنه) من حاطب ابن أبي بلتعة (رضي الله عنه) يوحي بالتسعير؛ حيث: طالبه برفع السعر أو رفع بضاعته من السوق، وأن هذا قد يعارض ما جاء عن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدم استجابته لطلب الناس بالتسعير للوهلة
الأولى.
ولكن واقع الأمر: أن عمر (رضي الله عنه) في جميع ما ورد عنه لم يقم
بالتسعير وتحديد السعر، وهو الذي رفضه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما
اتبع أساليب تنظيمية مراعاة للمصحلة العامة، فهو لم يحدد سعراً معيناً ألزم به
حاطب بن أبي بلتعة، ولكنه حينما علم أن سعره سوف يضر بجلب السلعة في
المستقبل؛ لأن عدم تحقق سعر مجز للجالب للسلعة سوف يؤدي ولابد إلى الامتناع
عن الجلب في المستقبل؛ وهذا فيه ضرر على توفير الكميات المعروضة، مما
سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لهذا: أمره بأن يرفع بضاعته من السوق أو يرفع
سعره، وهذا ليس من باب التدخل في السعر، وإنما هو أسلوب من أساليب الرقابة
السعرية، وهذا أمر يختلف عن التسعير وتحديد السعر، وقد مارس هذا الفعل
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء في حديث البخاري: حينما منع الناس
من تلقي الجلب، ومن شراء الطعام قبل أن يجلب في مكان البيع حتى يتحقق
التنافس الكامل بين المشترين والبائعين، فلا يُحْمَلُ غبن لأي طرف.
لهذا: نجد أن الإسلام لا يتدخل في التسعير، ولكنه يتدخل في التأثير على
العوامل المؤثرة في جانبي العرض والطلب.
إن السؤال الذي يمكن طرحه هو: إذا اتّبعَ المنهج الإسلامي كما أشرنا إليه
فيما سبق من حيث: مشاركة الدولة استغلال الموارد الطبيعية، وممارسة بيع
المنافع الخدمية، مع إعطاء عنصري العمل ورأس المال حق مشاركة الدولة وتوفير
المرونة للقطاع الخاص لممارسة دوره الفعال في إدارة الأنشطة الاقتصادية، مع
الإبقاء على دور الدولة فاعلاً ومؤثراً سواء في الإبقاء على التملك، أو التدخل في
الرقابة على الأسعار بدون التسبب في إضعاف المبادأة الفردية.. فكيف يتم
المحافظة على توفير الاحتياجات الأساسية للأفراد ذوي الدخول الضعيفة مع
الارتكاز على توفير الظروف الملائمة لتحقيق العائد المجزئ لمن فُتح لهم مجال
العمل في الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالموارد الطبيعية وبيع المنافع الخدمية؟ .
إن الإسلام حينما وضع منهجيته لتشجيع القوى الفاعلة من القوى العاملة
وأصحاب رؤوس الأموال مع اتباع سياسة التحفيز كما أوضحناه فيما سبق لم يترك
معالجة أوضاع كثير من الفئات التي تحتاج إلى هذه المنتجات والخدمات مع كونها
لا تستطيع شراء هذه السلع والمنافع لقلة مواردها، فقد وضع منهجاً ماليّاً من خلال
أساليب الإنفاق من الموارد العامة للدولة.
يتميز الإسلام في منهجيته في توزيع موارد الدولة بتقسيم الموارد المالية
للدولة إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالزكاة، فقد خصصها للإنفاق على
أفراد المجتمع بقصد تحقيق الرفاه الاجتماعي بحيث: لا تنفق موارد الزكاة إلا
للأصناف الثمانية التي حددها القرآن، أما المصالح العامة وهي القسم الثاني: فيتم
الإنفاق عليها من الموارد العامة للدولة، ومن ضمن هذه الموارد العائد من مشاركات
الدولة في استغلال الموارد الطبيعية والعائد من تأجير الأصول الثابتة الخاصة ببيع
المنافع العامة [17] .