دراسات دعوية
خالد أبو الفتوح
من المآثر المهمة للصحوة الإسلامية المعاصرة: التنبه إلى أهمية الكشف عن
سنن التغيير واستخدامها في الأنفس والمجتمعات؛ فمعرفة هذه السنن (القوانين)
والعمل بها: أمر ضروري لإحداث أي حراك اجتماعي طبيعي في أي مجتمع يعاني
من التخلف أو الركود الحضاري، أو يُراد له تصحيح مسار حركته.
وقد كانت هذه السنن معلومة ومعمولاً بها منذ عهد خير القرون، ثم أخذ
الضمور يصيب الوعي بها شيئاً فشيئاً حتى انتهى الأمر إلى التسليم عمليّاً على
الأقل بأنه ليس ثمة نظام يوجه حركة التاريخ، وفي النهاية وفي غيبة منهج أهل
السنة: ألقي هذا الوعي في سلة عقيدة الجبرية، حيث لا مكان لعمل الأسباب،
وأصبحت هذه الأمة هي أكبر أمة تُتخطف حتى من أحقر الأمم، ولكن.. بوعي
وتخطيط مدروس وفقاً لهذه السنن.
نعم.. كان العلم والعمل بهذه السنن مركوزاً في حركة المجتمع الإسلامي منذ
عهد النبوة، ولكنه كان كبقية العلوم الإسلامية غير مقنن وغير مدون، تماماً كما
كانت أصول فقه الأحكام الشرعية موجودة قبل ظهور أول كتاب مدون في هذا العلم
(الرسالة، للإمام الشافعي) ؛ يظهر ذلك جليّاً لمن تدبر كتاب الله وبخاصة قصص
الأمم السابقة: [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ ... ] [الروم: 9] ، وفي قصص الأنبياء؛ فهي لم تذكر لمجرد التلاوة أو السرد القصصي، بل: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ... ] [يوسف: 111] ، ويظهر أيضاً في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه الرشيد تجاه الأفراد، ثم الطوائف والجماعات، ثم التكتلات والدول، ويظهر كذلك في سلوك الصحابة والسلف الصالح (رضوان الله عليهم) تجاه الأفراد، وفي جهادهم الواعي للأمم الأخرى.
لقد كان الجهاد بمفهومه الشامل باباً واسعاً لفتح آفاق فهم وتطبيق سنن التغيير، ومع البعد عن زمن النبوة: كان هذا الباب ينكمش رويداً رويداً في الفهم، وفي
التطبيق، فرأينا انكماش مفهوم الجهاد إلى القتال، ثم انكماش القتال إلى الدفاع، ثم
تحول الدفاع إلى تعايش سلمي وعلاقات قائمة على مصالح مشتركة مع تغييب قيم
الأمة ومبادئها.. وفي منحى آخر: أصبح مفهوم الجهاد مرادفاً للعنف والاغتيال
السياسي. وصاحب ذلك بالتدرج نفسه غفلة الأمة عن دورها الرائد بين الأمم
باعتبارها أمة شهادة على الناس، وغفلتها عن دورها الرقابي الإصلاحي باعتبارها
خير أمة أخرجت للناس.
أي إننا نستطيع القول: إن المفهوم الصحيح للجهاد شاملاً الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر كان يمثل آلية عفوية للتحرك من خلال سنن التغيير، ولكن
كانت هذه الآلية مركوزة في الوعي الباطن، ولم تظهر في بؤرة الوعي المنظور
كبقية العلوم، إما للانشغال بالعمل بها كما كان في القرون المتقدمة وإما لعدم الانتباه
لأهميتها، كما كان يظهر في عهود الانحدار والانحطاط.
وتأتي مقدمة ابن خلدون كأول محاولة لوضع أسباب رقي وانحطاط الأمم في
بؤرة هذا الوعي المنظور، فجاءت هذه المقدمة لتكون بداية تقنين وتدوين (أصول
فقه التاريخ) ، ولكن.. لماذا لم تستمر هذه البداية لتكون دفعة لتأصيل ونشر الوعي
بهذا العلم؟ لقد كان ابن خلدون نفسه يأمل أن يأتي مِن بعده مَن يتم ما بدأه [1] ،
ولكن لم يتحقق أمل ابن خلدون بالرغم من أن الحركة العلمية بين المسلمين في هذا
الوقت لم تكن سيئة في فروع أخرى من العلم.
كان ابن خلدون عالماً لم يجد أصحاباً يقومون بنشر خلاصة علمه وعصارة
تجربته، ولم يكن هذا الحدث هو الأول من نوعه في تاريخ الحركة العلمية عند
المسلمين، بل سبق أن حدث أكثر من مرة أن ضاعت اجتهادات علماء أفذاذ بسبب
عدم قيام تلاميذهم بالنشاط الكافي لنشر علمهم واجتهاداتهم، ومنهم الإمام الليث الذي
قال عنه الشافعي (رحمهما الله) : الليث أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا
به [2] ، ولكن الخطورة في حالة ابن خلدون هي: ارتباط العلم الذي وضع قواعده به، فإنه في حالة الإمام الليث أو غيره كان هناك فقهاء آخرون يقومون بإثراء الاجتهاد في فقه الأحكام الشرعية إذا لم يقم هؤلاء الأصحاب بواجبهم، أما في حالة علم (أصول فقه التاريخ) : فإن تقنينه وتدوينه بدأ وانتهى عند ابن خلدون. والذي يظهر: أن هذا العلم باعتباره يمس أمر الدول والمجتمعات بصفتها التكتلية والتفاعلية كان في حاجة إلى عقل جماعي متحرك للكشف عنه ثم نشره، وإلى وعي اجتماعي للسير وفق سننه وقوانينه ومن ثم: إثراء الاجتهاد فيه [*] ، وإلى قيادة مدركة لأهمية هذه الحركة العلمية وهذا الاتجاه المجتمعي فتقوم بالدعم، وليس بالعرقلة خوفاً من ضياع سلطانها المزيف إذا انتشر الوعي بهذه السنن! ! .
ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وبقيت مقدمة ابن خلدون كلؤلؤة علمية مستقرة
في قاع التراث، يعلم الناس بوجودها، ولكنهم لا يدركون أهميتها فلا يكلفون
أنفسهم عناء الكشف عنها.. إلى أن لمع بريقها بعد قرون من الزمن لرجال من
المشرق، اختلفت مقاصدهم من صيدها، ولكنهم في النهاية أخرجوها وصقولها ثم
عرضوها، لكن.. في إطار مخملي خلف ستار زجاجي، لا يطلع عليها إلا نخبة
المفكرين وصفوة المثقفين! ! فتحولت المقدمة إلى ثقافة باردة ليس لها صدى في
حركة المجتمعات التي هي تستهدفها في الأساس.
ولم يهتم الإسلاميون في بداية أمرهم اهتماماً ذا بال بالمقدمة، إما لانشغالهم
ببيان صحيح الإسلام ومدى المخالفات الحادثة في الواقع، مع عدم إدراكهم إدراكاً
كافياً لسبل تغيير هذا الواقع، وبالتالي: عدم البحث عما يرشد إلى هذه السبل،
فاستقرت جهود معظمهم عند حدود الحركة الوعظية المجردة، وإما الانصراف عنها
نتيجة الانصراف عن صاحبها بسبب كلام عالم مشهور عن بعض تصرفات ابن
خلدون الشخصية، أو نتيجة بعض الثغرات والاجتهادات التي لا يُوافق عليها؛
وهذا الموقف من ابن خلدون ومقدمته: خطأ منهجي؛ فالمقدمة فيها فوائد كثيرة؛
فيجب ألا تهمل من أجل أخطاء أو أقوال غير صحيحة [3] .
ومن المنطقة نفسها التي خرج منها ابن خلدون، وبعد خمسة قرون، خرج
مفكر منهجي يبين أسباب التخلف الحضاري الذي قبعت الأمة بسببه في ذيل الأمم،
ورضيت بجُثُوم الاستعمار فوق صدرها.
ظهر مالك بن نبي وكأنه صدًى لعلم ابن خلدون يهمس في وعي الأمة بلغة
القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات،
ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة
على الأمم المستضعفة وبخاصة المسلمين ووضع لهم معادلات وقوانين الإقلاع
الحضاري.. ولكن الأمة لم تقلع حضاريّاً؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها
ومؤسساتها، وإما لضعف المحرّك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين
معاً.. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين نظريات مفيدة للمحرّكِين الذين يهتمون بانطلاق المشروع الحضاري للأمة.
ومع أهمية ما تركه مالك من فكر إلا أنه ظل في أذهان كثير من شباب
الصحوة فكراً مَتْحفيّاً، لا يهتم به إلا المتخصصون من روّاد الفكر الساكن على
الرغم من أنه (نموذج لنظريات الحركة الاجتماعية) ، ولعل من أسباب هذه الفجوة
ما يلي:
1- جفاف أسلوب مالك نظراً لأن معظم كتبه مترجمة عن الفرنسية.
2- افتقاد كلامه للبعد الشرعي، بل جل فكرة استقاه من النظر والتأمل في
الواقع، والاطلاع على أطروحات بعض المفكرين الغربيين، وذلك نتيجة اختلاط
منابع فكره؛ فظهر فيها بعض الكدر.
3- وقوعه في بعض الأخطاء الاجتهادية والسقطات السياسية؛ نتيجة السبب
السابق.
4- وقوع بعض خلاف في وجهات النظر بينه وبين أحد رموز الصحوة.
ومع كل ذلك: فإنه لا سبيل لمنصف إلا أن يضع فكر مالك بن نبي بأسلوبه
الصعب وأخطائه الاجتهادية وسقطاته السياسية كدواء مهم ينبغي على المريض
تناوله رغم مرارة طعمه ورغم آثاره الجانبية [4] .
ونلاحظ أن أسباب التجافي عن كتابات مالك تقترب من أسباب إهمال علم ابن
خلدون وبخاصة آخر سببين، ولكن مالك كان أوفر حظّاً من ابن خلدون حيث تهيّأ
له أصحاب من المشرق أيضاً يقومون به عنايةً بفكره ونشراً له وتوضيحاً،
فأخرجوا أفكاره في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة، احتوت على مستحضرات فكرية
مشتقة من تركيبة مالك الحضارية، ولكن راعوا فيها تحسين طعمها وتخفيف آثارها
الجانبية.
ومع ذلك فقد كان من الملاحظ وجود هوّة بين الأعمال الفكرية التي تهتم
بكشف سنن التغيير وبين النبع الصافي لهذه السنن أعني: القرآن الكريم، ومعه
السنة النبوية الصحيحة واختلفت علاقات هؤلاء الكتّاب بهذا النبع:
1- فمنهم: من حاول الاجتهاد في الاستنباط من هذه النصوص قدر طاقته،
ولكنه اجتهاد غير أصيل؛ لاختلاط روافد فكره، ونتج عن ذلك: عدم كفاية الإقبال
الذي يستحق صاحبه أن تفتح عليه كنوز القرآن والسنة، فندعو الله أن يثيب من
ذلك شأنه على اجتهاده.
2- ومنهم: من استدل بنصوص الوحي كشواهد لصحة أفكاره الاجتماعية؛
فهذه الأفكار لم تكن بنت الأدلة، ولكن كانت الأفكار سابقة عليها ثم أُتي بالأدلة
معضدة لها.
3- ومنهم: من أورد أدلة الوحي للالتفاف حول بعض الطيبين لإقناعهم بهذا
الخير من الباب المحبب إليهم المقنع لهم.
4- ومنهم: من أوردها لمجرد ذر الرماد في العيون حتى لا يتهم بأن هذه
الأفكار اجتهاد شخصي.
5- ومنهم: من أهمل نصوص الوحي إهمالاً شبه كلي اعتماداً على النظر في
علم الاجتماع، وتدبر تجارب الحركات والأمم، واستنطاق أحداث التاريخ، بل:
والنظر في العلوم الطبيعية والتجريبية لاستخراج سنن التغيير في الأنفس
والمجتمعات.
ولا شك أن هناك مندوحة للنظر في مثل هذه العلوم لاستخراج السنن
والقوانين التي تحكم تغيير النفوس والمجتمعات، بل نرى أن النظر في مثل ما
سبق وبخاصة أحداث التاريخ هو من مقتضى قوله (تعالى) : [ ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا
تَعْقِلُونَ] [يوسف: 109] ،.. وغير ذلك من الآيات التي تحث على دراسة عاقبة
أي: نتائج ومآل أفعال الذين من قبلنا الذين سبقونا تاريخيّاً، بل في الآيات حث
على السير وهو دعوة للدراسة العملية للتاريخ فضلاً عن تذاكر الأخبار.. والحكمة
ضالة المؤمن.
وعندما نستخرج سنن التغيير من النصوص الشرعية، فقد نجد التقاءً في نقاط
تقاطع مع بعض ما يُذكر في هذه العلوم أو غيرها:
فمثلاً: يقول بعض علماء الحضارات: إن شيوع الترف وتفشي الانحراف
الجنسي والتحلل الخلقي سبب لانهيار الحضارات، ونجد ذلك في السنة المستخرجة
من قوله (تعالى) : [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] ، فنستطيع أن نضع هذه السنة كالآتي:
ترف + فسق (استفاضة بلاغ+ وعدم استجابة) --< = تدمير وانهيار.
وعند إعمال هذه السنة في أمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ نجد حديثاً
يبين نوع العقوبة التي يمكن أن تقع على الأمة، وذلك في قوله -صلى الله عليه
وسلم-: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي
بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل
بأسهم بينهم فمنعنيها [5] .
وكذلك المبدأ الشهير في السياسة فرّق تَسُدْ: يستخدمه حزب الشيطان لنصرة
الباطل وإضعاف أهل الحق، ويستخدمه حزب الله لنصرة الحق وإضعاف أهل
الباطل، والمتتبع لغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته في مواجهة
قوى الكفر يجد أنه استخدم هذا المبدأ غير مرة، ولكن لنصرة وسيادة دين الله.
وكما أننا نجد نقاط التقاء بين هذه العلوم المستخرجة من نصوص الوحي،
نجد أيضاً نقاط افتراق؛ كما في السنة المستخرجة من قوله (تعالى) : [فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..] [مريم: 49] ،
وقوله (تعالى) : [وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ فَاًوُوا إلَى الكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ
رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] [الكهف: 16] ؛ فاعتزال الشرك
واعتزال أهله بعد البلاغ المبين يترتب عليه هبة وزيادة فضل إلهي.. بينما لا فرق
عند الناظرين في العلوم السابقة نظرةً عقلانية بحتة بين اعتزال الشرك واعتزال
التوحيد! !
فالمقصود: أن هذه العلوم المذكورة وغيرها من العلوم والمعارف: كفقه
الواقع، وفقه الحركة، ومعرفة مقاصد الشريعة، بجوار فقه التاريخ لمعرفة أسباب
قيام وسقوط الدول والحضارات، ودراسة أسباب نجاح وفشل الحركات الاجتماعية
القديمة والحديثة ... كل ذلك يمثل منظومة واحدة يمكن الاستفادة بها في التغيير إذا
أُحسن الاستفادة والتنسيق بينها.
ولكن.. هل مجرد التغيير هو كل ما يهم المسلم؟ ... إن معرفة كل ما سبق
قد يعطي تمكنّاً في قوانين التغيير، وعند استعمال هذه القوانين فقد يتحقق التغيير
والتمكين، ولكنه لا يؤدي وحده إلى تمكين الرضا والاستخلاف في الأرض،
فمعرفة هذه القوانين قد يُنتج مسلماً صاحب وعي حضاري، ولكنها وحدها لا تنتج
مؤمنين يستحقون معيّة الله الخاصة واستخلاف الله لهم في أرضه.
* وهذا هو أول المعالم المميزة والفوائد العديدة للإقبال على نصوص الوحي
لأخذ سنن التغيير، فالتوجه الأول يساعد على معرفة أسباب التمكين المجرد،
والتوجه إلى نصوص الوحي يدلنا على أسباب تمكين الرضا الذي من أهم أركانه:
تحقق صفات (التوحيد) ، و (التقوى) ، و (الصلاح) فيمن يستحقونه، وهذا ما تدل
عليه آيات من كتاب الله؛ كقوله (تعالى) : [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ... ]
[النور: 55] وقوله (تعالى) : [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... ] [الأعراف: 96] وقوله (تعالى) : [وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]
[الأنبياء: 105] ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدل على هذا المعنى، والتي تفتح لنا المجال للبحث في هذه المعاني من وجهة أخرى غير الوجهة الفردية.
وهذه المعاني قد يعتبرها بعض أصحاب التوجه الأول من أصحاب الفكر
الناضج! والتقدمي أنها مجرد دروشة لا تقدم ولا تؤخر في التغيير.
* وثانياً: أننا عندما نقبل على نصوص الوحي لننهل منها منهج التغيير
يتضح لنا جوهر الصراع وأطرافه، إضافة إلى معادلاته، فسنن التغيير ما هي إلا
مجرد معادلات وقوانين إدارة الصراع، أما جوهره فقائم على عداوة الشيطان
للإنسان (وليس للمسلم فقط) ، والله (عز وجل) يؤكد على هذه العداوة، فيقول:
[ ... وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168] ويقول على
لسان يعقوب: [ ... إنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [يوسف: 5] ، بل ويحثنا
ويحرضنا على عداوته، فيقول: [إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواً ... ]
(فاطر: 6) ... فكيف يمكننا بعد كل ذلك تهميش الحضور الشيطاني في المعركة، والاقتصار على الإيمان الغيبي بوجوده؟ ! فلابد للمسلم من استحضار هذه العداوة ليستطيع المواجهة [6] . وطرفا الصراع هما: حزب الله وحزب الشيطان، ويمثل المتقون حزب الله، بينما يمثل قوى حزب الشيطان: أهل الكتاب، والمشركون، والمنافقون. فلابد من معرفة صفات المتقين كما أسلفنا التي بها يستحق أفراد حزب الله الفوز بمعية الله الخاصة، فيكونون مؤمنين حقّاً ينصرون الله فينصرهم [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] [الحج: 40] ولا شك أن من مقتضيات التقوى عدم التخلف عن المنهج الرباني في التحويل والتغيير؛ فحزب الله يستخدم السنن الربانية في التغيير في الأنفس والمجتمعات استخداماً صحيحاً لمواجهة الشيطان وحزبه في معركة العداوة بينهما.
وأيضاً: لابد من معرفة العدو وكل فصيل من تكتله (على أرض الواقع) :
معرفة صفاته الخلقية، ودواخله النفسية، وطريقة تفكيره، ودوافعه، ونقاط
الضعف فيه، ومراكز القوة ...
وكذلك لن يستغني حزب الله عن الوعي بالخطة المضادة للعدو أي: المنهج
الحركي للشيطان (أو ديناميكية الشيطنة) لمعرفة أساليبه في التغيير والتأثير، فالله
(عز وجل) لا يكتفي بالتأكيد على عداوة الشيطان للإنسان، بل يوضح أساليبه
وطرقه في المواجهة؛ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ... ] [النساء: 45] .
فعناصر حزب الشيطان أولياءٌ للشيطان، أي: إن الشيطان رائدهم وقدوتهم،
وهناك إيحاء متبادل بين شياطين الجن وشياطين الإنس: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً ... ]
[الأنعام: 112] ، وهذا ما يجعل أسس مناورات المعسكر الشيطاني واحدة مع
اختلاف الزمان والمكان [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] [الذاريات: 53] .
* وثالثاً: أن الاعتصام بحبل الله يعطينا رؤية متكاملة تعصمنا بحول الله من
الانزلاق إلى دعوات مخادعة أو سقطات سياسية ساذجة؛ فبها نعرف أن الدعوة إلى
الإنسانية وذوبان الحضارات: سراب كبير يكشفه قوله (تعالى) : [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] (هود: 118) وأن الدعوة إلى السلام
العالمي وهمٌ يجليه قوله (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251] وكذلك تعارضها عقيدة
الولاء والبراء.
وأن تبني اللاعنف خدعة كبرى كذبها الواقع فضلاً عن أنها تصطدم بدعوة
القرآن للأمة بالإعداد واليقظة والتحفز لمواجهة أعدائها ... إلى غير ذلك من
اجتهادات وسقطات.
* رابعاً: أن نصوص الوحي تشمل سنن التغيير في الأنفس وسنن التغيير في
المجتمعات، ففيها مجال فهم قوانين تغيير الأفراد بجوار ما تكسبه من الوعي
باتجاهات وقوانين تغيير المجتمعات، فيكون الناهل منها متكامل الإدراك شامل
الوعي؛ حيث نرى فيها مثل قوله (تعالى) : [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ] [الحج: 40] (سنة المدافعة) ، كما نجد قوله (تعالى) : [ ... ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] وتكون
سنة تحويل العداوة كالآتي:
عداوة (دفع بالإحسان) --< ولاية
كما نرى فيها قوله - -صلى الله عليه وسلم- -: يا عائشة لولا أن قومك
حديث عهدهم قال ابن الزبير: بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل
الناس، وباب يخرجون بوّب له البخاري (رحمه الله) بعنوان: من ترك بعض
الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه [7] . وهكذا
يعرف الفرد المسلم كيف يكتسب ويحتوي الآخرين، كما يعرف كيف يواجههم.
* وخامساً: أنه ثمّة خصائص متميزة في الإقبال على القرآن الكريم لا تجدها
في غيره:
1- فثمرة الاجتهاد فيه أقرب إلى الثبات واليقين، ولكن يبقى جهد المتلقي في
التجرد والإخلاص والصلة بالله ليصل إلى المستوى الذي يليق بمن تفتح عليه كنوز
القرآن؛ [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] [وَنُنَزِّلُ مِنَ
القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً] [الإسراء: 82] .
2- كون الانتهال منه عبودية يؤجر عليها المسلم (تدبر تفكر تعقل) ، وكذلك
العمل وفق منهجه.
3- والقرآن يخاطب الإنسان بما فيه من عقل وقلب ونفس، بخلاف المصادر
الأخرى.
4- وهو أقرب إلى الحس وبداهة العقل وثقافة المسلم، فينتفع منه كل مسلم
مقبل مهما بلغ مستواه العلمي.
5- وللقرآن سلطان على النفوس وسيطرة على الشعور لا يصلها أي مصدر
آخر.
وبعد.. فقد يثار تساؤل، وهو: هل من المصلحة الكشف عن هذه السنن
والقوانين؟ وأليس من الحكمة ألا يطلع الأعداء على هذه السنن؟
وعند مناقشة هذا السؤال يجب أن ندرك:
1- أنه لا تقدم إلا بوجود وعي عام بهذه السنن، بحيث يصل مفهوم هذه
السنن إلى العوام في صورة يقينيات بدهية ولو أخذت صورة عبارات مختصرة
تحمل معاني مكثفة، فإنه لابد أن يعي كل شخص دوره في التغيير بحيث لا يعرقل
تصرف منه جهود بقية المجموع، وبحيث تستثمر وتحشد كل الطاقات في اتجاه
التغيير إلى الأفضل.
2- أنه عند تساوي إمكانات حزب الله وحزب الشيطان، أو عند وصول
حزب الله إلى بذل غاية الجهد: فإن معية الله الخاصة تتدخل لنصرة جنده؛ [يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] [وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] ، [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ... ] [التغابن: 16] .
3- أن الأعداء يعرفون هذه السنن والقوانين بالفعل ولكن حسب توجههم
ومناهجهم ويبنون عليها حركتهم السياسية في مواجهتهم لنا.
وأخيراً: فهذه دعوة لكل مسلم للعمل على تكوين وإشاعة إطار وعي سنني مع
الحرص على ربانية المسلم، ودعوة لعلمائنا ومفكرينا لبيان منهج رباني واقعي
للتغيير.
وتنبيه للعاملين في حقل الدعوة إلى الله وإلى سبيل الله: أن التفلت من هذه
السنن بدعوى أن علينا العمل وليس علينا النتائج على نحو إهمال إحكام الأسباب
يعتبر تسللاً خفيّاً نحو عقيدة الجبر. وإن أي حركة لن تستطيع الوصول إلى تغيير
صحيح بغير الوعي والتمكن من سنن التغيير، لن تبلغ التغيير المنشود مهما أُحكم
تنظيمها، ومهما بلغ علم وذكاء منظريها، أو ألمعية وحكمة كوادرها، أو إخلاص
وتفاني أفرادها، ولن تكفي مجرد إرادتهم للتغيير، وبغير هذه السنن والقوانين
سيكون نصيبها من النجاح هو ما كان لـ عباس بن فرناس عندما أراد أن يطير في
الهواء جاهلاً قوانين الجاذبية، فكان نصيبه من الطيران: تسجيل اسمه في التاريخ
باعتباره أول هالك في سبيل التحليق في الفضاء.