الشرع والواقع
د. خميس بن عاشور
عندما نتصفح جملة الإنتاج الفكري المعاصر للمسلمين، نلاحظ تلك
الاندفاعات غير الشعورية التي ربما تفسر ذلك الاضطراب النفسي الناتج عن
الحيرة المنهجية في كيفية التعامل مع الموروث الثقافي، ومن ملامح هذا
الاضطراب المنهجي: عدم الفصل بين الدين الحقيقي الذي تمثله نصوص الوحي
الإلهي (الكتاب والسنة الصحيحة) وبين إضافات علماء المسلمين من تفسيرات
وشروح قد تكون سليمة وقد تكون عكس ذلك، وعندما نُفصّل أكثر: نجد أن أهم
اضطراب في هذا المجال هو موقف العلماء والمفكرين من العمل في المنظور
الإسلامي باعتباره بعداً (فلسفياً) .
إن أصحاب الفكر الإرجائي قديماً وحديثا ركزوا كثيراً على تفسير الإسلام
وشرحه ومحاولة فهمه فهوماً تختلف باختلاف المنابع الفكرية والبدع (الأيديولوجية) ، ولكن بالرجوع إلى نصوص الدين الإسلامي نجدها تدل دلالة واضحة على أن
مشكلة فهمه وتوضيحه ليست مطروحة بهذه الكيفية المعقدة؛ فالقرآن بيان للناس،
والبيان في اللغة هو الوضوح، فالقرآن واضح الدلالة بنفسه [ونزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم] [النحل: 44] وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركتكم
على مثل البيضاء ليلها كنهارها» [1] ، وهذا معناه: الوضوح والمفهومية.
ومن هنا نقول: إن الأزمة إذاً أزمة عمل وتطبيق لا أزمة فهم وتفسير،
وبالتالي: فالاستقامة على وفق دعوة الإسلام في الوقت الراهن وفي جميع أوقات
انحطاط المسلمين هي القضية التي يمكن أن تكون مستقبَلاً علاجاً لهذا الاضطراب
النفسي والجمعي لدى مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، وبعد ذلك يمكن أن
تطرح قضية اللغة والدعوى التي لا دليل عليها في هذا المجال وهي أن لغة
المسلمين أثناء فترة التنزيل ليست هي لغة المسلمين اليوم، وهذا خطأ فاحش،
فالقرآن عربي مبين إلى يوم القيامة، وتعلم اللغة العربية ميسر أكثر من أي وقت
مضى، فالقرآن العربي إذن واضح ومفهوم ومفسر بنفسه وبالسنة النبويةالصحيحة
بشرط معرفة لغته.
وهذه العملية - أي: عملية تعلم لغة القرآن - أصيبت بجرثومة يمكن أن يقال
لها: «ذهان الصعوبة والاستحالة» ، وهذا المرض الجرثومي أنشأ أمراضاً
أخرى - أو بالأحرى بدعاً فكرية أخرى - بدأت تطرح قضية خطيرة ومهمة وهي البحث عن وسائل لفهم الإسلام من خارج نصوص الإسلام الإلهية، ولهذا سيطر الفكر الإرجائي على الساحة الرسمية للمسلمين - إلا من رحم ربك -، هذا الفكر الذي يجعل العمل مشروطاً بشروط جعلت منه قضية فلسفية مثالية لا نجدها إلا في صفحات ومخيلات أصحابها، وبالتالي: بدا الإسلام عند هذه الفئة عبارة عن تراث فكري جميل يدرس من أجل نفقات الأبهة والبهارج الرسمية التي هي بمثابة التوابل للطعام لا أكثر ولا أقل.
إن الإسلام الممثل في نصوص الكتاب والسنة قد بين للناس قيمة العمل
والتطبيق والاستقامة عليه، بل إنه جعل العمل هو العبادة، فالعبادة هي أن يعمل
المسلم كل ما يحبه الله ويرضاه، فالصلاة عبادة، والخشية من الله عبادة، والرجاء
والتوكل عبادة، وتعليم الناس عبادة، والجهاد في سبيل الله عبادة، ومعاملة الناس
بسلوك حسن عبادة، وغير ذلك من مجالات الحياة الواسعة.
قال (تعالى) : [ألا له الخلق والأمر] ، فهذه الآية المجملة المختصرة قد
جمعت بمضمونها توحيدي الربوبية والألوهية، وهي في حد ذاتها عنصر وأصل
من أصول المنهج الإلهي، فقصر الخلق على الله (عز وجل) بيان لتوحيد الربوبية
وكل ما يتعلق به من رزق وتدبير وإحياء وإماتة..، وقصر الأمر فيها بيان لتوحيد
الألوهية أي: العبادة وكل ما يتعلق به من مقتضيات وعلى رأسها: الاستقامة وفق
الأوامر والنواهي، وهذه النواهي هي كذلك أوامر بالترك.
فالأزمة إذاً قد تفرعت، وأصبح المسلمون والذين يأمرونهم قد يخالفون ما أمر
الله به، وقد يفعلون ما نهى الله عنه، وهذا المنهج الذي هو واقع بالفعل هو نتيجة
اتباع الهوى، وقد أظهر لنا إسلاماً موازياً للإسلام الحقيقي الإسلام الذي تمثله
نصوص الوحي الإلهي (الكتاب والسنة الصحيحة) ، وفي هذه الحالة فإنه لابد أن
تتشكل الحركة الإصلاحية التي تعمل على توضيح الحقائق الشرعية، وهذه هي
مهمة العلماء العاملين الذين ورد ذكرهم في الأثر القائل: «يحمل هذا الدين من كل
خلف عدوله ينفون عنه تأويل الغالين وانتحال المبطلين» [2] .
والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.