مجله البيان (صفحة 1900)

دراسات شرعية

نظرة في المصطلحات العقدية

سعد بن محمد آل عبد اللطيف

تشهد الساحة الإسلامية في المجال الفكري فوضى في الاصطلاحات، فهذا

يجعجع بالمصطلحات المحدثة نابذاً خلفه المصطلحات الشرعية، وذاك يستتر

بباطله خلف المصطلحات الشرعية لتزيين الباطل وترويجه بين الناس، والآخر

يرفض جميع الاصطلاحات المحدثة ولو كانت ذات معنى صحيح.

إن تحديد الاصطلاحات وتوضيح مدلولاتها يساعد كثيراً على إزالة الإشكال

في الفهم، وحسن الظن بالآخرين، والوصول إلى الحق، وتضييق دائرة الخلاف،

ويغلق الباب أمام سيل جارف من الشرور والفساد، ويحول دون تسلل دعاة الزندقة

وأهل الأهواء إلى الساحة بترويج أباطيلهم وبدعهم.

والاهتمام بهذا الموضوع هو جزء مهم من مسألة التأصيل العلمي الشرعي في

الصحوة العلمية التي تشهدها الأمة الإسلامية. وهذه السطور هي محاولة متواضعة

في هذا الباب، وسيكون تناولي لهذا الموضوع على النحو التالي:

1- أهمية الاعتناء بالاصطلاحات الشرعية:

تأتي أهمية الاعتناء بالاصطلاحات العقدية كالإيمان والكفر والنفاق ... لأنها

مما جاء في وحي الله (عز وجل) فلها حرمتها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه

الله) : ومن الأصول الكلية أن يُعْلَم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة

فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما

نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي

السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله

بها، يثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما

أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر [1] .

والتعبير عن الحق بالمصطلحات الشرعية هو سبيل أهل السنة والجماعة؛

قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية (رحمه الله) : والتعبير عن الحق بالألفاظ

الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة [2] .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) :.. والتعبير عن حقائق الإيمان

بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها،

وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن

تفهم، وفيها من الحِكَم والمعاني مالا ينقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال

واشتباه ونزاع، ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق

المصدوق، وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس،

فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام؛ كما قال (تعالى) :

[واعتصموا بحبل الله جميعاً] [آل عمران: 103] ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بياناً شافياً: فإنها لا تنتظم فقط جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، بل فيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل؛ كما قال: [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] [الحجر: 9] [3] .

ولابد من توضيح الاصطلاحات للناس حتى لا يلتبس الحق بالباطل، وليس

كما فعل الفلاسفة الإسلاميون، فقد سعوا إلى ترويج الفلسفة اليونانية الوثنية بأسماء

ومصطلحات شرعية حتى يوجدوا لتلك الفلسفة قبولاً عند الناس تحت هذه الأسماء

والمصطلحات الشرعية التي تعظمها نفوس المسلمين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية

(رحمه الله) فيهم:.. ثم إنهم لما سمعوا (أي: الفلاسفة الإسلاميون) كلام الأنبياء

أرادوا الجمع بينه وبين أقوالهم، فصاروا يأخذون ألفاظ الأنبياء فيضعونها على

معانيهم، ويسمون تلك المعاني بتلك الألفاظ المنقولة عن الأنبياء، ثم يتكلمون

ويصنفون الكتب بتلك الألفاظ المأخوذة عن الأنبياء فيظن من لم يعرف مراد الأنبياء

ومرادهم أنهم عنوا بها ما عناه الأنبياء، وضل بذلك طوائف [4] مثال ذلك:

الملائكة، فهي عندهم: هي العقول العشرة، واللوح المحفوظ: هو النفس

الفلكية ... ، إلى غير ذلك.

2- خطورة الاصطلاحات المجملة التي لم تحدد:

الاصطلاحات المجملة هي اصطلاحات تحمل حقاً وباطلاً وتشتمل على

صواب وخطأ، وعدم تحديدها يكون سبباً في وقوع الخلاف والشقاق؛ يقول شيخ

الإسلام (رحمه الله) : ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال

عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن

كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين

يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما

قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله.. [5]

ويقول ابن القيم (رحمه الله) : فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة

والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك

هوى وتعصب [6] .

وهناك فريقان عبر تاريخ الأمة الإسلامية قد تحدثوا بمصطلحات مجملة محدثة، كانت سبباً في ظهور البدع وفشوها بين الناس.

الفريق الأول: الصوفية: فقد كان التصوف في مراحله الأولى قد أكثر فيه

من استخدام المصطلحات المجملة التي تحمل حقاً وباطلاً؛ كالغناء مثلاً، فجاء مِن

بعدهم مَن تعلق بهذه الاصطلاحات، وأصبح يستدل على مذهبه الفاسد من وحدة

الوجود أو سقوط التكاليف بأقوال هؤلاء المشايخ.

يقول ابن القيم (رحمه الله) : فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع

اصطلاح القوم عليها فإنها أصل البلاء، فإذا سمع ضعيف المعرفة والعلم بالله

(تعالى) لفظ: اتصال وانفصال، ومسامرة ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا

وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهم بمنزلة وجود الظل القائم بغيره:

فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات، والعارفون من القوم أطلقوا

هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم فخلط الغالطون في فهم

ما أرادوه ونسبوه إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم

وجُنة [7] .

الفريق الثاني: أهل الكلام: الذين استخدموا مصطلحات محدثة مجملة في

مجادلتهم مع الملاحدة والفلاسفة ونحوهم.

يقول ابن تيمية (رحمه الله) : وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة (المبتدعة)

كلفظ الجسم والجوهر والعَرَض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم

ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله،

فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج

وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تكن

باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخْفَ على الناس،

ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً

غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد [8] .

3- استخدام المصطلحات المحدثة:

لابد أن يحرص المسلم على استخدام المصطلحات الشرعية، أما المصطلحات

المحدثة فلابد من عرضها على الكتاب والسنة للتحقق من صحة دلالتها على

المطلوب؛ قال (تعالى) : [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم

تؤمنون بالله واليوم الأخر، ذلك خير وأحسن تأويلا] [النساء: 59] .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل

الكلام، فلا تُتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يُعرف مراد المتكلم بها، فإن وافق ما

قاله الرسول كان من القول المقبول، وإلا كان من المردود، ولا يكون ما وافق قول

الرسول مخالفاً للعقل الصريح أبداً، كما لا يكون ما خالف قوله مؤيداً ببرهان العقل

أبداً [9] .

ويقول أيضاً (رحمه الله) : وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم

فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة؛ كمخاطبة العجم من

الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة [10] .

ثم يقول بعد ذلك: والسلف والأئمة الذين ذموا وبدّعوا أهل الكلام في الجوهر

والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل في المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه

الألفاظ في أصول الدين: في دلائله، وفي مسائله: نفياً وإثباتاً.

فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم

بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة،

وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ كما قال (تعالى) : [كان الناس

أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين

الناس فيما اختلفوا فيه] [البقرة: 213] وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب

فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى

معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم، ثم اعتبار هذه

المعاني ليظهر الموافق والمخالف [10] .

وهذا المنهج قد استخدمه شيخ الإسلام في كتبه ومناظراته مع الخصوم، ومن

أمثلة ذلك: قوله (رحمه الله) : فيقال له: لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح

الخاص: ليس نفيهما عن الله من الشريعة، كما أنه ليس إثباتهما من الشريعة، بل

سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها، كما أنكروا التكلم بإثباتها وعدوا ذلك

بدعة، فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين الذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في

إجماع ولا أثر إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ، إذ الحجج التي يستدل منها باللفظ

لابد أن يكون لفظها منقولاً عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة والإجماع،

فكيف باللفظ الذي لا يُنقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة [11] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015