دراسات اقتصادية
السكان والتنمية من المنظور الإسلامي
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة الأولى تم تحديد واستجلاء الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر
العالمي للسكان الذي انعقد في القاهرة خلال شهر سبتمبر لعام 1994 م، كما تمت
مناقشة موقف الإسلام من مفهوم التنمية وعلاقة ذلك بالسكان، وفي هذه الحلقة
سوف يتم مناقشة موقف الإسلام ومعالجته لموضوع السكان ضمن إطار عملية
التنمية وفقاً للمفهوم الذي سبقت مناقشته في الحلقة السابقة.
يمتلك الإسلام أسساً وأطراً توضح العلاقة بين مجموعة أفراد البشر (السكان)
وبين عملية التنمية من حيث إنها وسيلة من وسائل معالجة وجود البشر كثرةً وقلةً،
فكثرة البشر وقله الموارد حقيقة من حقائق وجود الإنسان على هذه الأرض، وهي
جزء من سنة الله الكونية في وجود النقص في الموارد بحيث تتحقق سنة الله في
الابتلاء والامتحان للبشر فيما أعطوا وفيما منعوا؛ يقول الله (سبحانه) : [ولَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ولَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] [الشورى: 27] .
إن الإسلام يضع ضوابط وقواعد تعالج الخلل عند نقص الموارد، كما تعالج
أسلوب تنمية الموارد الطبيعية بتحسين قدرات الإنسان بحيث تعمل على زيادة
الإنتاج القومي وتحقيق التوزيع العادل بين الأفراد لهذا الإنتاج.
والحقيقة الشرعية حول وجود الناس زيادة ونقصاً تتمثل في أن الله قد حدد
عددهم وأحصاهم ولا يمكن أن يولد إنسان ما لم يكن قد أراد الله ولادته؛ يقول
تعالى: [ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَأْخِرِينَ] [الحجر: 24] وقد
جاءت هذه الآية لتبين حقيقة أن البشر قد تم إحصاؤهم في الأزل، وأنه لن يكون
هناك نفس مخلوقة أتت إلى الوجود أو تأتي في المستقبل إلا وهي معلومة له
(سبحانه وتعالى) ، فإن الله قد وفر لهذه النفوس احتياجاتها، ولهذا جاء في نفس
السورة وفي هذه الآية تحديد مصدر الأشياء وأن ما يوجد على وجه الأرض معلوم
مقدر؛ يقول تعالى - موضحاً لجميع البشر أن مصدر الرزق وغيره مملوك لله
وتحت تصرفه -: [وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]
[الحجر: 21] وفي آية أخرى تصف حقيقة تعلق الرزق وأن جميع المخلوقات
مضمون رزقها وأن أنكار هذه الحقيقة هو مخالف لحقيقة الإيمان بالرب الخالق؛
يقول (تعالى) : [ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا] [هود: 6] .
إن محاربة الزيادة السكانية من خلال منعها - سواءً أكان ذلك بفرض وسائل
منع الحمل أو بالإجهاض - باعتقاد أن الموارد لا تكفي الزيادة السكانية وأن مصلحة
البشر تقتضي الإقلال من زيادة نموهم، إن ذلك إعلان لإنكار ربوبية الله للخلق.
إن الإسلام لا يعارض استخدام وسائل تأجيل الحمل لظروف معينة فردية،
فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أنه قال: (كنا نعزل
والقرآن ينزل) [1] ، كما روى البخاري أيضاً عن ابن محَيْريز أنه قال: (دخلت
المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد:
خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بني المصطلق فاصبنا سبياً
من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل، فقلنا نعزل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه
عن ذلك، فقال: (ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا
وهي كائنة) [2] .
من خلال هذين الحديثين ندرك أن عملية تنظيم الحمل لأغراض معينة كتأجيل
الحمل للحاجة إلى المرأة أو لمرض المرأة أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لتأخير
الحمل أمر جائز، لكن مع إدراك أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال القضاء على
الحمل تخلصاً منه، وأن جميع وسائل الحمل المعروفة لا تضمن منع الحمل ولا
تمنع وقوعه مهما كانت هذه الوسائل، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم- (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) ، لهذا قامت الدعوة في
مؤتمر السكان الأخير بالسماح بتقنين الإجهاض والسماح به قانوناً باعتباره هو
الوسيلة المضمونة لمنع المواليد، وهو وأد الجاهلية المعاصرة.
الإسلام يعتبر الإنسان عنصراً مهماً من عناصر التنمية، وبالتالي فإن العناية
بالسكان من حيث الكم والكيف أمر مهم لمسار التنمية الاقتصادية، مع الأخذ في
الاعتبار أن هناك تفاوت في هذه القدرة على المساهمة في العملية الإنتاجية من فرد
إلى فرد.
إن الأفراد متفاوتون في القدرة على المساهمة؛ فمنهم من يمتلك القدرات
الجسمية والعضلية ومنهم من لا يمتلك ذلك، ولذلك فقد وضع الإسلام قواعد لمعالجة
هذه الاختلالات، سواء أكان ذلك من ناحية تنمية قدرات الأفراد وقيام الدولة
المسلمة بتنمية ذلك، أو من خلال إلزام الأفراد القادرين على مساعدة غير القادرين
من خلال التشريعات المالية التي وضعها الإسلام.
والعناية المهنية بالفرد هي إحدى السمات البارزة في عملية التنمية السكانية
من وجهة النظر الإسلامية، تتمثل هذه العناية بتوجيه الأفراد نحو تأكيد أهمية
الممارسة المهنية من خلال إعطاء قيمة للإنسان العامل المنتج المهني؛ فقد روى
أحمد بسنده عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة بن نيار، قال: سئل النبي -
صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الكسب، فقال: (بيع مبرور، وعمل الرجل
بيده) [3] .
ففي الحديث السابق توضيح وتوجيه إلى أهمية الفرد في التنمية وأنه هو
مصدر التنمية سواء أكان ذلك فيما يخصه أو ما يخص بيئته المحيطة به، وبالتالي: فإن من الواجب العمل على زيادة القدرة لدى أفراد الأمة على المساهمة في زيادة
الإنتاج، باعتبار أن الإنسان هو أهم عنصر من عناصر الإنتاج القومي.
إن من أهم مقومات التنمية السكانية إيجاد الأفراد المدركين لدورهم في
المجتمع، وأن كل فرد من أفراد المجتمع يتحمل المسؤولية تجاه استقرار ونماء
مجتمعه، بحيث يكون له دور فعال ومؤثر مهما كان مركزه في هذا المجتمع؛ لهذا
فإن من مرتكزات التنمية السكانية تنمية هذا الوعي، والذي يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: إيجاد الإحساس لدى كل فرد من أفراد المجتمع بأهميته في
الواقع الاجتماعي، على أن يغرس هذا الأمر في النفوس من نعومة الأظافر،
ويرشد إلى ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير
الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو
مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد
راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته) [4] .
الأمر الثاني: المساهمة الفعلية في تنمية قدرات الآخرين ومساعدتهم ليكونوا
فاعلين ومنتجين، ويوضح ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل سلامي من الناس عليه صدقة،
كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته يحامله
عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى
الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة) [5] ويكمل مدلول هذا الحديث ما رواه ابن
حبان والحاكم في مسنده عن ابن كثير السحمي عن أبيه، قال: سألت أبا ذر، قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: يؤمن بالله، قال: فقلت: يا رسول الله إن مع الإيمان
عملاً! ، قال: يرضخ في رزقه لله، قلت: وإن كان معروفاً لا شيء له، قال:
يقول معروفاً بلسانه، قلت: فإن كان عَيينا لا يبلغ عن لسانه، قال: فيعن مغلوباً،
قلت: فإن كان ضعيفاً لا قدرة له، قال: فليضع لأخرق، قلت: وإن كان أخرق،
قال: فالتفت إلي، وقال: ما تريد أن ترع في صاحبك شيئاً من الخير؟ فليدع
الناس من أذاه) ففي هذا الحديث توضيح لمنهج الإسلام في كيفية توجيه الفرد
للمساهمة في تنمية مجتمعه من خلال المساهمة قي توفير الظروف المساعدة لتحسين
ظروف الآخرين سواءً أكان ذلك بالفعل المادي أو بالقول.
إن التنمية السكانية التي يسعى إليها الإسلام هي رفع كفاءة الأفراد النوعية
باعتبار أن الفرد عنصر فعال في العملية الإنتاجية للمجتمع، وبالتالي فإن اضمحلال
قدرة الفرد وكفاءته سوف يؤدي إلى أن يكون عنصر العمل ضعيفاً غير منتج كلا
على الآخرين.
إن دور الدولة المسلمة في تحقيق هذه التوجيهات لتنمية الطاقة السكانية تتمثل
في اتباع المنهج الإسلامي في تطبيق قواعد الصرف من الأموال العامة، التي منها
الأمور التالية [6] :
1- زيادة الدخل القومي بزيادة الثروة الفردية من خلال توجيه الإنفاق سواءً
أكان ذلك فيما يتعلق بكيفية توزيع الزكاة أو بالقيام بالإنفاق على البيئة الأساسية
للاقتصاد، وذلك بقصد إخراج الفئات الفقيرة غير المنتجة إلى فئات منتجة، ويؤيد
ذلك ما رواه الترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: (قدم علينا مصدِّق
النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا - وكنت
غلاماً - يتيماً فأعطاني منها قلوصاً) [7] ، فإعطاؤه القلوص إنما قُصد منه أغناؤه
بتمكينه من زيادة الدخل من خلال إعطائه رأس المال القادر على توفير فرصة
استغنائه عن بيت مال المسلمين.
2- تنمية قدرات الأفراد العلمية والعملية بتوفير البيئة الاجتماعية الحانية من
خلال اهتمام الدولة بأفرادها ورعايتها لهم من خلال الإنفاق عليهم من بيت المال،
فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن المقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضيعة فإليّ،
وأنا وليّ له، أفك عنه وأرث ماله، والخال وليّ من لا وليّ له، يفك عنه ويرث
ماله) [8] .
ولقد فهم هذا الحديث ومارسه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رضي الله
عنه) فقد كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق، وقال له: أن أخرج للناس
أعطياتهم (أي رواتبهم ومخصصاتهم الدورية) ، فكتب إليه: إني قد أخرجت للناس
أعطياتهم وقد بقى في بيت المال مال (فائض في الخزانة) ، فكتب إليه: أن انظر
كل من عليه دين في غير سعة ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه: إني قد قضيت
عنهم وبقى في بيت المال مال، فكتب إليه: انظر إلى كل بكر (أي: أعزب) ليس
له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من
وجدت وقد بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه
جزية فضعفت عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام
ولا عامين. وقد روى ابن كثير في البداية والنهاية خبراً عن عمر بن عبد العزيز
بأنه كان يأمر من ينادى في الناس كل يوم: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين
الناكحون (أين الذين يريدون الزواج) ؟ أين اليتامى؟ وقد سبق بتطبيق هذا المنهج
الخليفة الرائد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، وقد روى أبو عبيد القاسم بن
سلام عن إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) كتب إلى بعض عماله أن اعط الناس على تعلم القرآن. وتعلم القرآن يمثل
الأساس الثقافي الذي بدون وجوده تتعطل قدرات أفراد المجتمع الفاعلة، ويقاس
على ذلك: جميع أنواع التدرب والتعليم لرفع كفاءة وقدرات أفراد المجتمع.
إن معالجة الإسلام لمشكلة التزايد السكاني إنما تقوم على أساس أن البشر
يمثلون طرف المعادلة المهم في التنمية الاقتصادية، وأن الإخلال بهذا الطرف
سوف يؤثر على التنمية الاقتصادية بمجملها، ولهذا فإن المعالجة لا تكون بتقليص
الأعداد البشرية المخلوقة وإنما بزيادة قدراتهم الإنتاجية مع توفير البيئة الاجتماعية
الرحيمة التي تأخذ بيد الفقير والعاجز والكبير.